نقد فني  



الموسيقى والألحان حين تقارب شعر محمود درويش(2)

تاريخ النشر       10/08/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير


"تصبحون على وطن": الموسيقى تحاور النص الشعري باقتدار

بوعي الفنان مارسيل خليفة قضية مهمة، ألا وهي افتراق الاعلانات الفجة عن القضايا الكبرى، وافتراق الحماسة عن فنية الموسيقى، يكون قد اقترب كثيرا من مفهوم (فنية) العمل الموسيقي. لذا وجدناه في عمل آخر مأخوذ عن نص للشاعر محمود درويش، هو (تصبحون على وطن)، يتخلص من فجاجات التعبير اللحني وتبدو موسيقاه في أفضل مستوياتها حتى تتمكن من انجاز تعبيرها الخاص بمقابل ( تعبيرية ) النص الشعري ذاته.


اللحن في (تصبحون على وطن) يعتمد على قدرة (الكمانات) وآلات النفخ الصغيرة، فهي في تنفيذ الجمل الموسيقية واللحنية الهادئة حاولت أن تقرب الإحساس بوحشة غياب الذين ماتوا من أجل وطن:

عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو
واحرسهم من لهاث الرثاء
وأقول لهم : تصبحون على وطن
من سحاب ومن شجن
من سراب ومن ماء
اهنئهم بالسلامة من حادث المستحيل ..


ومع كل الصياغة الموسيقية الموفقة هنا في (تصبحون على وطن)، تبدو مهمة اختيار النص الشعري بقصد وضع معالجة موسيقية – غنائية له، ضرورية وأساسية وتبدو قصائد الشاعر محمود درويش القصيرة والتي كتبها في تجاربه الشعرية المبكرة وحتى اللاحقة (غنائية) وأقرب الى الموسيقى ومعالجتها، فهي بايجاز مقاطعها والنسيج (الغنائي) المحكم فيها تبدو أكثر طواعية من القصيدة – المركبة في إيجاد بنية لحنية غنائية لها، فيما يبدو الحل الأنسب لمعالجة المستويات المركبة في القصائد المطولة، هو في تأليف موسيقى تحاورها دون ان تدخلها في القالب الغنائي صعب التحقق.
وإذ تصح هذه الملاحظات على معالجة مارسيل خليفة لقصائد درويش فهي تصح أيضا على تلك القصائد التي اختارها لشعراء عرب معاصرين آخرين، وتصبح مفتاحا او مدخلا لعموم التجارب الموسيقية العربية التي تحاول الخروج من طابعها التطريبي التقليدي الى البناء التعبيري الموسيقي الجاد.


(مديح الظل العالي): قوة النص الشعري ... غياب اللحن
وإذا كنا قد أشرنا الى غياب اللحن الغنائي وحضور التعبير الموسيقي المجرد كإحدى الوسائل التي يمكن من خلالها ايجاد قراءة موسيقية – غنائية للنصوص الشعرية المركبة والطويلة، فإن هذا لا يعني ان تصبح القراءة الموسيقية للنص الشعري ( تأطيرا ) شكليا، بل ان تصبح بناء لحنيا (مجاورا) يقيم تعبيراته الخاصة.
وهذه الملاحظة تفرض حضورها مع تجربة الموسيقي والملحن اللبناني خالد الهبر والذي تعامل مع نص شعري طويل آخر لمحمود درويش هو (مديح الظل العالي) ومن لحظات الاستماع الأولى لهذا العمل الموسيقي نجد انه لم يستطع مجاراة القدرة التعبيرية في النص الشعري، وظلت موسيقاه تلعب على جوانب الكلام في النص، بل هي ترجمة حرفية لأجواء النص في أحسن الأحوال.



الصوت الذي تولى الغناء لم يكن موفقا بتاتا وحين كان يتعب من محاولات الغناء أو ( الإلقاء بصحبة الموسيقى ) كان يضطر إلى مجرد إلقاء تقليدي لمقاطع النص الشعري، وهنا تخسر الموسيقى زخمها التعبيري إذ تصبح كأنها (خلفية) لتنويعات على الكلام الشعري.
ويبدو إن أي مخرج لمثل هذه الأعمال الموسيقية لن يكون سوى بالتعبير وبحضور روحيتها والابتعاد عن (نصوص) الكلام، وبجعل اللحن يلعب ويبث الكثير من (الميلوديات) وتكرارها بين المقاطع، وللأسف غابت هذه الجوانب في عمل خالد الهبر فهناك أكثر من مقطع (يلقي) فيه المغني الشعر والموسيقى مجرد خلفية للكلام، نعم هناك في العمل جهد فني واضح في التوزيع الموسيقي الذي تولاه زياد الرحباني وبعض الجمل الموسيقية لكنها ضاعت وسط طغيان الكلام، الكلام الشعري الذي لم يكتب أصلا لأغراض لحنية وغنائية – وهذه نقطة مهمة أهملها (الهبر)، فالنص المطول لمحمود درويش وعلى الرغم مما يشي به من غنائية غير مؤهل لأن يغنى وذلك لأنه أصلا لم يكتب لمثل هذا الاحتمال أولا ولتضمينه موضوعات هو بشأن التعبير عنها بوسائل الشعر لا بالإيقاع الموسيقي.
ان غياب المنظور (الشخصي) في أي عمل موسيقي سيصيبه بفقر دم واضح، وعمل خالد الهبر في (مديح الظل العال ) افتقر الى الشخصي من اللمسات، فالشكل السيمفوني، في التأليف الموسيقي لن يكون بالسهولة التي يتصورها من يقدم عليه، فهو شكل جاهز على الرغم مما تقدمه ضخامته من إيهام بجهد مبذول وهو في حالة (مديح الظل العالي) ظل غريبا عن أجواء النص المشحون بكل شيء عربي: حزنه، غضبه، وصرخاته، وكان الأجدى أن يكتب المؤلف الموسيقي لحنا من روح المكان الذي ولد فيه النص – كتبه محمود درويش بعد الخروج من بيروت عام 1982- والاستعانة بـ(ميلوديات) شعبية ومتداولة لتقليل اغتراب المتلقي عن العمل، وهذا ما سنأتي عليه لاحقا.

*الجزء الثاني من بحث ضمن كتاب وضعه عدد من الشعراء والكتاب عن محمود درويش وحمل عنوان "المختلف الحقيقي" وصدرت طبعته الأولى عن "دار الشروق" عمّان 1999.

 




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM