نقد فني  



تألق فاضل خليل ومصرعه

تاريخ النشر       08/10/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير

بالكاد خرج كثير من متذوقي الفنون الراقية العراقيين من التأثير الفكري والاجتماعي المتقدم لمسرحية "النخلة والجيران" التي صاغها للخشبة، المخرج الراحل قاسم محمد، اعتمادا على رواية أحد قامات الأدب العراقي المعاصر، غائب طعمة فرمان التي تحمل العنوان ذاته للعرض الذي واكبه التلفزيون بطريقة راقية للمخرج عمانوئيل رسام (ع ن ر)، وفيه لعب الممثل الشاب حينها، فاضل خليل، دورا ما انفك يشكل علامة في المسرح العراقي، حتى تسنى لبعضهم ان يتعرفوا على عرض بدا "ثوريا" لا في خطابه الفكري المعتمد على نص الشاعر الشيلي بابلو نيرودا الذي توفي خلال الأيام الأولى للانقلاب الدموي العسكري في أيلول 1973 الذي اجهض حلما ثوريا "ديمقراطيا" راود بلاده وحققته أصوات الناس عبر انتخابات حرة، عرض شهدته حدائق أكاديمية الفنون الجميلة في ربيع 1974، وحمل عنوان "تألق جواكان موريتا ومصرعه" الذي يوثق بالشعر الجميل والفكر العميق، لشخصية ثورية شيلية، وأخرجه فاضل خليل، بعد تحوله للعمل الأكاديمي.

العرض اللافت الذي كان فهما عميقا للدرس البريشتي في كسر الحدود مع المتلقي، امتد ليتسع لا في المكان وحسب، بل في جعل الشخصية ملمحا انسانيا واسعا، وبطله جواكان موريتا وكأنه حلم انساني بالعدالة ومواجهة الظلم، وجاء منسجما مع ايقاع أيام عراقية، كانت البلاد فيها تمضي نحو مصالحة أولى مع ضميرها، مع ترابها وانسانها، وحين كانت الحياة مفتوحة على ألف مدى وإحتمال، وأدى الدور الأساسي فيه، الطالب والممثل الذي سيكون علامة في المسرح العراقي والعربي، جواد الأسدي، دور كان أقرب ما يكون الى الدرس في التمثيل المسرحي.


التنوير "الشعبي"

وما إن سجّل فاضل خليل، حضوره في ذلك العرض المبهر مخرجا لافتا، حتى عاد إلى حصنه الحصين: التمثيل وبطريقة بدت خاصة به، فهو كان يتمتع بتلقائية شديدة تجعل حضوره محببا عند المتلقي حتى لو كان الأخير في درجة معرفة بسيطة، طريقة تتناقض كليا مع ذلك التكلف والعسر والانفعال المصطنع الذي صار لازمة قاتلة في المسرح العراقي المعاصر. وعبر هذا الأداء الفاتن، كان حضوره في مسرحية اخرى من اعداد واخراج قاسم محمد، ألا وهي "بغداد الأَزل بين الجد والهزل" التي تواصل عرضها يوميا في "مسرح بغداد" لنحو أربعة شهور.

وفي الحاضنة ذاتها "مسرح بغداد" حيث قاعدة التنوير الفكري والذوقي عبر "فرقة المسرح الفني الحديث"، عاد للتمثيل في عرض يستهلم أجواء رواية أخرى للكاتب غائب طُعمة فرمان، مسرحية "القربان" التي أخرجها الراحل فاروق فياض، ثم  مسرحية "الخان" التي كتبها الفنان الراحل يوسف العاني واخرجها سامي عبد الحميد. كان ذلك في رسالة نادرة تضمنتها تلك العروض ألا وهي التعبير الفني العالي لكن دون التعالي على الوعي الشعبي، بل مد جسر بين الرقي الفني والثقافي والحساسية الشعبية لكن دون "النزول" إلى درك التعبير المتخلف والمنحط فكريا وذوقيا بحجة "الشعبية"، وهو الذرك الذي انتهت إليه عروض المسرح في العراق وغير دولة عربية.

تلقائيته النادرة وحيويته في فهم الشخصيات والتعبير عنها بيسر، لم تتوقف عند عروض المسرح "الشعبي"، بل تواصلت تمثيلا واخراجا في عروض تتصل بالمسرح التجريبي، قادت فاضل خليل إلى الوقوف على خشبات مهرجانات مسرحية عربية بارزة عدة، متفوقا كمخرج عميق الرؤية والأدوات حتى مع بداية الألفية الجديدة، مثلما تسجل له ذاكرة المسرح العراقي أدواره المميزة في عروض مثل "في انتظار غودو" بحسب رؤية سامي عبد الحميد مخرجا، مسرحية(عشاق ... ضائعون ... غرباء) أشعار :شاذل طاقة - اخراج: قاسم محمد ، ومسرحية "عدو الشعب" لهنريك إبسن و بدري حسون فريد ، مخرجا، و"عرس الدم " للشاعر اسبانيا والانسانية، فيديركو غارسيا لوركا وإخراج جعفر السعدي، دون ان ننسى مسرحية "أين تقف؟" من إعداد وإخراج، جعفر علي، التي حفلت بروح التحريض الفكري والسياسي وجاءت متاثرة بأجواء قرار العراق بتأميم النفط في عام 1972.

يا فاضل خذ الكتاب بقوة: عدسة حسام حسن السلمان


حلم "البيت" .. كابوس التحولات الوطنية؟

واذا كان لابد من تاشير محطات بارزة في فن خليل، ممثلا فريدا، فلابد من التوقف عن عمله في السينما العراقية، وتحديدا في فلمي: "الأسوار" للمخرج محمد شكري جميل و"البيت" للمخرج عبد الهادي الراوي، ففي الأول كان حضوره انزياحا عن السياق السياسي بل الحزبي إن شئت الذي جاء عليه الفيلم الفائز بجائزة مهرجان دمشق السينمائي 1978، بينما في الثاني، فقد تدفقت التلقائية فنا تربويا وانسانيا مرهفا في اداء فاضل خليل، حدا أنه جاء منسجما مع مسار مختلف تماما مضى إليه الفيلم: التعبير الانساني عن البناء (البيت) في وقت كان منذورا بالكامل للحرب (العراقية الايرانية) بما تعنيه دمارا واسعا واغترابا انسانيا، وهو ما جر على الفيلم قرار المنع الجائر على الرغم من كون انتاج الدولة العراقية ذاتها.

في العام 2000، استضفت فاضل خليل، ومعه صحبة من فنانين وكتاب، في بيتي بالعاصمة الأردنية، يوم كان ذلك البيت فسحة تتسع للثقافة العراقية وأهلها، ولم أجد فيه إلا ذلك البناء الانساني الذي لم تفت في عضده، حسابات ضيقة كالتي تجعله محسوبا على ثقافة رسمية أسيرة فكر النظام الديكتاتوري، مثلما امتدت تلك الحسابات في ضيقها لتتواصل مع ثقافة رسمية أسيرة فكر دولة معارضي صدام الحاكمين بعد العام 2003، وهي في حقيقتها دولة الفساد المطلق والجريمة المنظمة، فكر تحول عمليا لا إلى نهب مقدرات البلاد وحسب، انما محو كل ملامحها الانسانية، والثقافة في مقدمتها، وهنا كان من الطبيعي ان يقع فاضل خليل ومثله كثيرون من مبدعي بلادنا، بين نظرتين تؤدي السطحية القاسية الأولى منهما إلى ثانية تبدو على خلاف معها لكنها تتصل بها لجهة انها تنهل من نبع واحد: كراهية الثقافة بوصفها نسيجا من الوعي المتقدم وعملا ينتظم في بناء الهوية الوطنية فكريا واجتماعيا، واتصالا مع فكرة سياسية تقول ان الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة تنتج معارضة تشبهها. نظرة أبعدت الراحل عن مجال تاثيره الرحب وجعلته يبحث يائسا عن ملاذ آمن في خارج بلاده التي أحب، والتي أتسعت أخيرا لنهايته الواقعية القاسية. نظرة قاتلة تحاول جعل الوطن والإنسان ملحقا بالنظام الحاكم ايا كان، ولكنها تظل خارج الحياة ولا تتصل بفكرتها العميقة: البلاد خالدة وحكامها فانون.

هكذا كنا ابناء مرحلة فكرية وسياسية وثقافية عاشتها بلادنا في سنواتها الأربعين الماضية، مرحلة الاحلام الهشة التي انتهت إلى كوابيس واقعية وحقيقية، مرحلة تصدق عليها استعارة عنوان العرض المسرحي اللافت الذي اخرجه فناننا الراحل في حدائق أكاديمية الفنون الجميلة وباحاتها، لتصبح مرحلة "تألق فاضل خليل ومصرعه"، التي نأمل أن يكون أولاده النابهون من العاملين في الحقل الفني والاعلامي، أمناء على العميق والجميل والمؤثر فيها.




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM