نقد أدبي  



كأن على رؤوسنا "غيمة" حيدر عودة الحجرية

تاريخ النشر       17/12/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام

يحسن القاص والكاتب حيدر عودة صنعا حين يفتح نصوصه السردية على عوالم بيئته الثقافية والمكانية والاجتماعية الجديدة (الحق انها لم تعد جديدة، فهو مقيم بكاليفورنيا في أميركا منذ نحو 15 عاما)، ذلك يعني اختبارا جديا لمغزى الحياة والفعل الإنساني بعيدا عن اشتراطات المكان الأول (الناصرية والعراق) ومحمولاته، لكن ليس بمعنى الإنفصال عنه، إنما دفعه إلى محور السؤال والإنشغال بمفاعيله الوجدانية. ذلك المعنى عرفته مبكرا في نصوص الكاتب منذ أن جمعتنا رفقة ثقافية وحياتية إن شئت، حين كان الوقت رغم الضنك الوفير فيه مفتوحا على آمال لم تتلوث بعد، وحلم بالحرية لم يتهرأ، فكانت نصوصه القصصية والكتابية العامة تجد طريقها بسلاسة إلى مجلة "أوراق ثقافية" التي كنت أتولى رئاسة تحريرها في عمّان 1998-2001 وكان عودة من نشطاء كتابها والمخلصين لفكرتها الثقافية حتى في وضوح خطها الفكري المناهض للطغيان في بلادنا.




واللافت في مجموعته القصصية "غيمة شيكاغو" الصادرة حديثا عن "دار شهريار" في البصرة بإدارة المثقف المثابر صفاء ذياب، هذا اللقاء الذي ذهبت إليه السطور أعلاه، فثمة إتصال ثقافي عبر تشتت مكاني: كاليفورنيا (الإقامة) وشيكاغو (العنوان) والبصرة (رؤية الكتاب النور)، وذلك حتى في حال وروده صدفة، إنما يشي بحضور النص بفاعلية تتجاوز لغته وتقنياته السردية إلى مدى يحاكي الإتصال الثقافي بجدية حقيقية.

بعيدا عن ضيق المكان الأول
صحيح إن إهداء معظم النصوص القصصية إلى اصدقاء الكاتب بدا تضييقا لتلقي القارىء، ولكنه من جهة أخرى فعّل التأويل والمطابقات والأختلاف أيضا، كون المتن الحكائي ظل حاضرا ومتصلا مرة بالأسماء ومنقطعا عنها مرات، فجاءت العوالم عابرة للحدود المكانية ومتداخلة بين المكان الأول (العراقي) وحياة الثاني (الأميركي)، حد إن القارىء يتعرف على أمكنة ومصائر وألفاظ ومشاعر لم يعهدها من قبل في مدونات أدبية عراقية، وهذه فضيلة ليست بالقليلة الشأن يوفرها لنا الكاتب، فهو يقدم لنا معرفة مكانية، ثقافية وسلوكية وهذا جهد يستحق الثناء.
لا واقعية فجة تفرض حضورها عبر مسارات حياتية عاشها الكاتب وتعرف على تفاصيلها، ولا غرائبية تستغرق في لغة غامضة ومغلقة الدلالة، بل هناك المصائر الطائرة الواقعية (سائقي سيارات الأجرة في أميركا دون أن ننسى حضورهم كما دونته بقوة صورة الغلاف الذي صممه الفنان المدهش والعميق صدام الجميلي) تقابلها النهايات الغريبة ولكن الحقيقية لمصائر من لحم ودم  تمثلها شخصيات عرفها الكاتب وخبرها جوانيا وسلوكيا في الناصرية (الكاتب الشريد الحزين عبد الأمير الوليد ونصوصه الضائعة). 

على وشك الإنسحاق
المهم هو ان تلك العوالم والمصائر باتت بطريقة وأخرى صخرة تكاد تسقط على رؤوسنا، بل إنها تغير المثال "كأن على رؤوسهم الطير" في إشارة مكثفة على القلق والتحسب المستطير إلى "كأن على رؤوسهم الحجر"، وهنا المعنى الفريد في عيش يكثفه الكاتب على نحو يجعله على وشك الإنسحاق تحت صخرة تلاحقنا في حلنا وترحالنا!
وثمة أحجار وليس حجر واحد، فنقرأ في قصة "بيتٌ في حُلم" من المجموعة: "فتحت عينيَّ أكثر فرأيت الغرف الخمس مفتوحة الأبواب أمامي، والصورة العائلية غير موجودة في مكانها. بينما وقف أبي عند أحد الأبواب، وعند باب آخر وقفت أختي الصغرى مبتسمة، فيما وقف عند باب ثالث عمّي الذي كان يعمل سائق شاحنة لحمل الأحجار لوقت طويل".
كما يوفر المقطع أعلاه، مدخلا مهما لطبيعة رسم المشاهد في نص حيدر عودة القصصي، رسم لا تخفى عناصر اتصاله المثقف مع فن السينما: عين على غرف خمس/ مفتوحة الأبواب/ الصورة العائلية اختفت/ الأب يقف عند أحد الأبواب/ الأخت الصغرى عند باب أخرى وهي تبتسم/ وعند باب آخر يقف العم/ شغله سائق شاحنة/ تحمل الأحجار"، وهذا جهد غير قليل في رسم مشهد غني لا بالتفاصيل المجردة: أبواب، صور وشاحنة، إنما بالمصائر: صورة العائلة وقد اختفت/ الأخت الصغيرة تبتسم والأب كأنه حارس حين تعمد الكاتب إن يبقيه شاهدا بوقوفه الصامت قرب الباب/ العم سائق شاحنة تحمل الأحجار لوقت طويل، وهذه الأخيرة فيها من الغنى الدلالي ما يكثف حكاية لوحدها عن العم، حد أن القارىء يمكنه لا تصور هيئة الرجل وقد غطته نثار الأحجار وحسب، بل ما ينوء به من طول المسافات في عمل كله أعباء وجهد خرافي يقارب مهمة سيزيف في نقل حجره.
هذا برهان أسوقه على النسيج الذي ساد أجواء قصص حيدر عودة، على المزيج الغني من واقعية تفرض حضورها عبر مصائر عاشها الكاتب وتعرف على تفاصيلها، و حلمية لا تتدعي الغرائبية في لغة غامضة ومغلقة الدلالة، إنما في دهشة عوالمنا اليوم التي نسرع في الهروب منها لكنها ترافقنا ثقيلة كحجر يكاد يسقط على رؤوسنا.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM