نقد فني  



تلويحة المخرج قاسم عبد لصاحب "النخلة والجيران"

تاريخ النشر       28/02/2021 06:00 AM



علي عبدالأمير عجام*

ليس الفيلم القصير للمخرج قاسم عبد، "غايب، الحاضر الغائب" مجرد مقابلة مع مهندس الرواية العراقية المعاصرة، غائب طعمة فرمان، بل هو كناية متعددة الملامح لفكرة العراق ذاته، وتحديداً في عقود الانقلابات العسكرية وجمهورياتها العنيفة وصولاً الى اللحظة اليوم. فصاحب "النخلة والجيران" يمثل فكرة ما انفك الأدب العراقي عاجزاً عن الاتصال بها والتأسيس العميق على حضورها الفريد: أن يكون الأديب منفياً عن المكان الطبيعي "الوطني إن شئت" ولكنه يمسك بأدق تفاصيل الحياة في ذلك المكان حدّ ان كثيرين لم يتنبهوا إليها ويرصدونها معنى وايقاعا فاعلاً ومؤثرا.
يحيلنا المخرج، الذي حصل مؤخراً على ما صوره العام 1980 بموسكو أثناء دراسته السينما وعبر كاميرا مستعملة نوع 16 وبعون من صديقيه الصحافي والكاتب سلام مسافر والفنان فؤاد الطائي، لا إلى قصة فرمان ومفارقة موسكو- بغداد، بل إلى شيء من قصته الشخصية، قصة الحق في الحرية وقصة الحق بالمعرفة، فهو غادر موسكو بعد تصوير المقابلة 1982، ليودع المادة الخام إلى صديقه فؤاد الطائي الذي سيغادر موسكو هو الآخر ويودع المقابلة عند آخرين حتى الحصول عليها مؤخراً. أربعون عاماً هي إذن، تكاد توجز الدياسبورا العراقية، وفي جانبها الثقافي تحديدا.


ويبدأ الفيلم بلقطة ليست عابرة، يأخذنا فيها قاسم عبد إلى جوهر ما كان عليه صاحب رواية "خمسة أصوات"، فتحت سماء موسكو، ومن مكان شديد الرمزية فيها: الساحة الحمراء، حيث كان يمضي فرمان بعضا من وقته، تنطلق طائرة نفاثة كأنها تخترق المسافات لنصل إلى مشهد المكان البغدادي، ومن مكان شديد الرمزية فيه: ساحة التحرير، الذي أحسن المخرج اختياره ليجعله أقرب الى زمن الفيلم- المقابلة (1980) مع كونه مصوراً في وقت لاحق.


من هنا ينفتح الفيلم القصير على جوهر أدب صاحب "المخاض" الذي كان بغدادياً، وهو المنفي بعديدا عنها، أكثر من كتابها الذين كانوا يعيشون فيها ويدونون أعمالهم على ايقاعها. تلك البداية المدوية يجعلها المخرج ذات نبرة هادئة فيبعد عنها، كما في معظم أعماله، انفعالات الأفكار وصخبها العالي. وحين يقول فرمان بشيء من الحيرة تفاصيل عن حياته، يحيلنا المخرج إلى مشهد دلالي جميل: اسراب من الطيور في حركة غير منتظمة أقرب إلى الحيرة بل الفوضى!
وإذا بدا الفيلم أحيانا أسير أفكار فرمان (1927-1990) فيما خص الأدب والمكان والمنفى، إلا انه ابتعد عن التوثيق التقليدي لجهة جماليات الانتقال من المكان الموسكوفي إلى الجذر البغدادي، فالحديث من قبل صاحب رواية "آلام السيد معروف" عن الانقطاعات الشخصية في عيشه مقابل الاستمرار السرمدي للحياة كتيار لا يتوقف، يقدمه المخرج عبر لقطات، مدروسة بعناية للغاية ناهيك عن تدفقها الجمالي، لنهر عراقي عند دعامات أحد الجسور أو السدود، ناهيك عن الاستخدام المرهف للصوت (مؤثرات وغناء) كما حضر في الفيلم بلمسات فؤاد الطائي.
كما لم يفت المخرج أن يظهر اثناء حديث فرمان عن دور الصحافة الجوهري في حياته ككاتب، ان يقدم لنا لقطات مرهفة لبائع صحف يتنقل بين سيارات شارع مزدحم ببغداد، ناهيك عن اثنين من مكتبيي بغداد فضلا عن لقطات لشارع المتنبي.
وفي حين وفق المخرج قاسم عبد في مزج صوت الكاتب فرمان أثناء حديثه عن نهوضه فجرا وذهابه للكتابة مع مشهد قطار يخترق بضيائه السريع والقوي ظلام غابة كئيب، فكأنه أوجز لنا النهاية القاتلة للكاتب حين مات وبلاده التي أحب وانتمى دخلت نفقا من الظلام في العام 1990 ظلت تهزه بعنف أضواء القصف الرهيب المتواصل حتى اليوم بطريقة أو باخرى.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM