الماركسي والإمام.. الإرث والاختيار

تاريخ النشر       14/05/2024 06:00 AM


قاسم عبد الأمير عجام 

أقلامُ أنشدت له ونوعت في الانشاد فأزهرت بالشعر، جناتُ من خير الكلام. وقامت على أعمدته صروح من النظم الباذخ، وصور من البهاء. 
وأقلام ارتأت أن تدرسه، فأجرت أنهاراً من المداد إلى غابات من الكتب وردت فيها من الحكايات والأفكار ما يشغل ويشغل ويشتغل أقواماً من البشر .. فصدرت عنها أفكار جديدة وانطلقت لتجري أنهاراً أخر إلى غابات أخر من كتب ودراسات وكأن الكل يسابق الكل .. وفي أكثر من مضمار.
فيلسوفاً قرأه قوم فأخرجوه من بحره درراً من الحكمة .. يتباهى بنسخها ملوك الخط الجميل ويتشرف بتردديها من يتمسك بها .
محارباً، قرأه غيرهم فرفعوا رفوفاً من كتب في فروسيته وبسالته واقدامه دون أن تفتقد ساحات القتال حكمته. ومصلحاً، رآه آخرون فرفدوا من عدله أوجل أحلام الانسان في عيش موفور الكرامة وغدٍ مأمون بدفق يشمل كل جوانب حياة الفرد والجماعة. وبالعدل رأوه يبتدئ أصلاحه، وبالعدل يستمر، وبالعدل يوصي .. وإلى العدل دعوته. وعن العدل يجادل ويجاري ويوغل في الحرب كي لا يخدش العدل نابُ من جور أو ظفر من ظلم! 
قاسم عبدالأمير عجام في محاضرة باتحاد أدباء بابل

وانشغل قومُ بزهدهِ .. فإذا به ترفعاً عن مطامع الدنيا وصغائرها وليس إهمالاً للحياة أو تساهلاً في حقوقها على الفرد وحقوق الفرد عليها. رووا عن خشونة عيشه مع اقتداره الرفاهية، وعن صبره على الجوع مع اقتدار التخمة.. وما كان في كل ذلك الا بسيطاً حد العذوبة، ومتفائلاً حتى ليوصيك أن تعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً.
متسامحاً .. توقف عنده كثيرون، عن رحمة وعطف يسامح. وعن ترفع يسامح. وعن امتلاء بذلك كله يسامح حتى ليشمل في تسامحه عدوه ومبغضه مع القدرة عليهما. يستمع إلى خصومه يهجونه أو يقدحون فيه فيرخي لهم حبل الوقت حتى يفرغوا كل جعبهم قبل أن يحاورهم الرد. ودائما .. لا يبادئ احداً بعنف. ودائما يوطئ بالتسامح مهاداً للعدل. ودائماً ادفع بالحسنة السيئة. وأن أخطأ فيك خصمك فلا تخطأ أنت.. فالمبدأ أولاً والمبدأ آخراً والمبدأ دائماً.
وعند مبدأيته هذه وقف مفكرون تجمع بينهم دهشة العجب من مثاليتها وتفرقهم نظراتهم في نتائجها. وكان حقاً لهم العجب، إذ استقامت مبدأيته وتصلبت منذ أنبثقت فيه صبياً مع شهادة ألا اله الا الله وان محمداً رسول الله واستمرت تتجذر فيه سلوكاً حتى لتجدها ذاتها استقامة ولا صلابة، في كل موجات الخضم الذي كانته حياته. وفي كل منعطفات الصراع الذي كان قطبه ومحوره، وهو عمره أيضاً. وتجده أشد صلابة و أبهى استقامة في ساعات عمره الأخيرة إذ أوصى أهله بأن يحسنوا لأسيرهم .. وما أسيرهم الذي يوصيهم به سوى قاتله!! 
قل كانت مبدأيته تلك ظن وهي منتهى البساطة في الوضوح هدفاً له ووسيلة .. إذ ليست أكثر من انفاذ الاسلام في الانسان، إجلالاً للخالق واكراماً للمخلوق. ومبدأيته ذاتها هي المنبع الذي صدرت عنه كل سجاياه، وهي قاعدة كل مآثرة وسبب الاختلاف فيه. 
اجل .. فليس كمثله بشر كان موضع خلاف .. لا قبلاً ولا بعداً ، حتى ليدخل النار فيه اثنان (محبٌ غال ومبغض قالٍ )!  وليس كمثله يستمر الخلاف فيه عبر الزمان فيتكفل الزمان بإنصافه وتزكي الحياة مفردات تاريخه مفردةً مفردة. بل ان من اعدائه الذين قاتلوه وأوجبوا شتمة من يغسل شيئاً من صدأ نفسه بالإصغاء لمقالةٍ في فضائله، فيرددها مقراً مسلماً له بالسمو والنقاء والهيبة! ومنهم من يعاود ذلك كلما شتمته نوبةُ صفو أو ساعة من انصاف.. فإذا بمحبيه يزدادون له حباً ويزداودن بحبه قوة، إذا المبغضين بؤرة نار تأكل نفسها! 
... وأقلامٌ وأقلامٌ وأقلام تزدحم على صفحات المضمار الواحد من مضامير سبقه. وتتنافس  في المدار الواحد من مدارات تألقه، فينتج منها من ينجح في الكشف عن جديد لم يسبق إليه غيره. ومن لم يفز بجديد حبه الزهو بأنه قبس من بهاء حضوره شعاعاً وأكتسب لمداده شرف سطور أو صفحات فيه. 
_ وأنت ؟ ..  أنت تعرف ذلك كله . وتعرف أكثر منه لكنك لا ترد قلمك عن محاولة بحره الخضم، ولا عن التطلع إلى فضاءاته المتسعة نحو كل صوب! كأنك ما تزال تطمع بدرّة لم يقتنصها قبلك غواص بين أمواج مواهبه وعمق مواقفه ورحابة فكره. أو كأنك تمنى نفسك بصفحة غير التي كتبت فيه، أو حتى ولو بسطر يشدك إلى متعلقات عالمة! 
أجل .. وان كان ذلك حلماً عزيزاً. أجل. واعترف بأني أمد يدي إلى دوحته راجياً أكثر من شرف ظلها الذي كان ولم يزل كل عمري حتى اللحظة التي حرضت فيها قلمي على التطلع إلى ماهو أكثر من الركون إلى محبته.
_ كأنك والله وأنت تعلن ذلك مستذكراً ما تعرف من جوانبه، تعني علياً! 
وهل تستكثر فيه ما استذكرت؟ أم تراك تشك في ان الحلم بالكتابة عنه أو في شيء من قضاياه شرفاً سامياً؟ اعيذك بالله، وليت فلمي يا صاحبي يحقق لي ذلك الحلم إذ لا فخر لقلمي إن لم يكن له في كتاب بن أبي طالب سرباً من كلمات تحلق في سمائه أو سطوراً تشرف بالانتماء إلى منهجه. ولا فخر له حتى لو أنجز باهراً من الكشف في كل فن وعلم ما لك يثري مداده من كوثر أبي حسن وحسين. 
فليس قلمي يا صاحبي الا بعضاً مني ولست الا تلميذاً صغيراً في مدرسة علي. وإذ تأخرت في كتابة ذلك، فلأنني لشدة امتلائي به حسبت واحسب انه ملمح من ملامحي وسمة من سماتي.. ظاهرة معلنة مثلما الوجه في الرأس والعين في الوجه .. فهل تراك محتاجاً لتقول ان لي وجهاً وأن فيه عيناً وو .. ؟ 
هكذا، أحب نفسي مستقراً بكياني كله أنني أدور في فلكه وأسبح في بحره، وأتعلم في كتابه وأبارك لنفسي اطمئناني لمنهجه ولضميري حلمه بما دعا إليه.
غير أنني لم أعد أكتفي بذلك. نعم، مضى العمر في حبه، والعقل والقلب يستقران في الركون إليه.. فلم لا أتوقف عند هذا الذي يمتلئان به؟ لأنهما ببساطة صارا يفيضان به! كيف؟ عليّ اذن أن اسرد قصة عمري. ولكن لا فما للحديث عن النفس هنا أريد.. غير أن الكتابة عن علي بالنسبة لي لا بد أن تقلب في صفحات التكوين ووعي الذات ووعي الحياة.
وأولى بركات الكتابة – الحلم هذه، إذ تعيدني إلى صفحات التكوين، أنها ستمكنني من ان أبر والديّ كليهما في واحدٍ من أنبل ما غرساه بي من خصال ثوابت. فقد كان حب الامام علي أول رضعات الطفولة، وأول تدريب النطق. والجهر بحقه وحق آل بيته على امتنا وبناء تاريخها، كان أول واجبات الفتوة .. وأول المسموحات بل الواجبات على قائمة تكوين الوعي. أدفأ الحكايا كانت اخباره. وأجمل القصص التي كانت امي تثري بها ليالينا كانت حكاياتها عن مآثره وغزواته، وقصص عن سجاياه واهل بيته.
آه .. أمي أيتها المكتنزة بحب علي بن أبي طالب كم أحببتُ صوتك وأنت تترنمين بتلك القصيدة التي يرددها أهلنا في الأعراس والافراح 
حبُ علي بن أبي طالب   أحلى من الشهد لدى الشارب 
وكم أحببتك وأنت تؤكدين بيتاً فيها بحركة خاصة .. بالرأس مرة وباليد مرة  وتبتسمين مزهوة بإنجازك ما فيه من دعوة أو فريضة . 
حبُ علي واجبٌ لازمٌ   في عنق الحاضر والغائب 
وأنت يا أبي.. أيها المتعب النقي، ما كان أصفاك وأبهاك وأنت ترفع صوتك بالصلاة على محمد وآل محمد وأنت تقودني أو تحملني أيام الازدحام الشديد على كتفك لنطوف معاً بضريح علي في مواعيد زيارته وبضريح الحسين ابنه كل خميس ونكرر الطواف بضريح أخيه أبي الفضل .. قمر بني هاشم كما كنت تحب أن تسميه دائماً! 
وكم كنت رقيقاً متخففاً عن كل متاعبك التي كانت تثقل منكبيك في تبرير عيشنا، وأنت تناجيهما بما لم أكن أعرف! وكم كنت رقيقاً تبقى تلبي طلباتي وانت في رحاب كربلاء! وكم وكم، أسبوعاً بعد اسبوع حتى ملأتَ وجداني الغض، دون أن تدري أو تخطط له، بأحساس عميق بأن رقتك تلك، وفيضان روحك وانبساط قسمتك من ثمار زيارتك للحسين وأخيه ! وانني لأفوز بك في أبهى لحظات تجليك حناناً وحلاوةَ حديث في رحابهما أو مجلسٍ للحديث عن أبيهما علي! بل انك – وعذراً  أبي – لتتخلى عن هيمنتك المطلقة  على اسرتنا – أو هكذا كنت أظن .. ما دام ذلك في حب علي.
وهكذا كنت أراك، وأعجب، تصغي لأمي - وأنت الذي تمطر عليها أوامرك، بل وتستفسر منها مقبلاً على حديثها حينما كانت تحدثنا بعد العشاء عن مناقب علي أو تقرأ لنا شيئاً من كتاب أبيها المخطوط عن آل بيت النبوة. فكنت وانت تصغي إليها مثلنا مأخوذاً بما تقصه علينا من تاريخ الامام أقرب ما تكون إلى قلوبنا نحن أسرتك.. فكنت، شئتَ أم لم تشأ، تدخل روحنا وضمائرنا مضخماً بحب علي مثلما يتقطر في ضميري أنا خاصة احساس بأن ذلك الحب أقوى خيط في رباط أسرتنا. وان علي بن أبي طالب قوة سحرية تطير بك من سماء تهيبنا منك إلى جو الفرح بقربك منا. 
هكذا، سيدي أبا الحسن، أورثني والدي حبك ريّاً كما تغدو الشجرةُ بطيب الماء. واكرم ما في ذلك الارث الكريم أنه غرس في نفسي – تأسياً بأخلاق نبيك – حباً تلك الخصال التي فيك وبنيك، وتفتحاً للحق وتعلقاً به. وهو غرس يمنح النفوس عافية وقوةً يمكنانها من الاقبال على الحياة والناس بصفاء ينقذها من غل الالتواء ونار الشكوك. ويفتح فيها أبواباً ونوافذ الاستقبال الجديد بالصفاء ذاته وتمحيصه بما يسمح به الصفاء من انصاف.
وكذاك  كانت حقيقتك بكل فصولها تعلي بنائي وتصقله بعد أن أصبحت اختياري أنا إذ وعيت ولما تزل تمنحني من حب الخير يقيناً بأن الحق شرف لمن يلتزمه وتعزز ذلك اليقين كلما نهلت من فيضك أو وردته. فعدتُ إلى الأرث الكريم اباركه واحترمه وانحني به ومن أجله لأمي ولأبي إذ غرسا بي حباً لحياة عريضة من الصدق كنتها سيدي منذ الولادة في الكعبة حتى الاستشهاد في المحراب. وتعلقاً بصفاء انسجامك في القول والعمل فأهلاني في فتوة الوعي ونضجه لإعادة اختيارك بسعي أنا.. وتجديد الإيمان بمنهجك مسؤوليةً واجبة الالتزام لأنه الحق متألقاً، وحلماً يستحق السعي إليه لأنه السبيل الرحب لكرامة الانسان. فكأني بذاك منك وإليك وكأنك بي وأنا اجدف للرسو عندك. ورسوت مزهراً بالانتماء إلى سبيلك.. فخوراً بانتمائي إلى مشروعك الذي وسع الإنسان.
وإذ تكون وعينا لنختار، كانت الدنيا من حولنا بحراً عاصفاً من الآراء والارادات ونظريات السياسة والاقتصاد وبناء الدول والمجتمعات. وكان الكل يدعي قدرته على تحقيق آمال انسانية كبرى تقطرت عبر المعاناة البشرية لتصبح قواسم مشتركة لأبناء هذا العصر. فتوزعوا الولاء ذات اليمين وذات الشمال. وفي داخل كل اتجاه اكثر من تيار يجتهد بطريقته لتحقيق تلك الآمال/ القواسم المشتركة.
فللمثقف حساسيته وآماله وللكادح والكاسب والتاجر تعامل مختلف.. ولكن آمال الخيرين منهم تلتقي عند محطات قد تتخذ مسميات متعددة لكنها تنتمي للجوهر ذاته. وكان التدافع وضجيج الدعاية يمنع الكل من التأمل في ما لدينا منها من خبرات أو تطبيقات شهدها تاريخنا. ولو حاولوا لما كان صعباً أن تلوح مفردات منهج علي بن ابي طالب سمحة بليغة المعنى. ولما كان صعباً رؤية الانسجام بين القوم والعمل في فكر الامام وتطبيقاته وهو سمة تميز بها هذا الرجل العَلَم، كما لم يتميز بها غيره شخصاً أو منهجاً. ولو لم تكن لمنهجه إلا هذه السمة، الانسجام بين القوم والعمل، لكفاه تميزاً على كل ما تلاه. فلقد كانت المسافة تسع بين شعارات عصرنا وتطبيقاتها وتزداد اتساعاً كلما كان الشعار أقرب لأحلام الإنسان.
أما العمل في منهج علي فقد كان يسبق القول، وكان تطابقهما أقرب للبداهة منه للأصطناع لأنهما يصدران عن صدق راسخ عنوانه .. لا مرائيا في الله! 
تحدثوا عن العدل ويتحدثون.. وما من دولة يعلو صوتها في ذلك إلا والانقسام الطبقي يمزقها ويسحب شرخه انقسامات عرقية ومذهبية تأكد جوراً أو تسلطاً. 
يتحدثون عن العدل .. وانفاق القطارات الأرضية تعج بما لا ملجأ له، أو بمن تناثرت بيوتهم/ عوائلهم تحت وطأة الحاجة.
ويتحدثون في العدل بصوت عال.. وبضعة أنفار من الناس يملكون البلاد والعباد. بل ويتحدثون تباهياَ وفئة من الناس تهيمن على الأخرى فلك اليسر كله ان كنت منها وعليك العسر كله إن لم تكن. 
ودع عنك الشكوك الريب التي ابتلعت في شباكها بشراً من كل لون أو مذهب.. فذلك مما يسمح به عدل عصرنا حتى لو قالت أجهزة فحص الأدلة ببراءة من حامت حولهم الشكوك. ولا تحدثني عن وشاية هذا بذاك.. ولا تشر لسعي فلان بهتك ستر فلانه لتلطيخ علان، فتلك من متطلبات السيطرة عليه احتياطاً!! 
ودع حديث الوساطات وتدخل أهل الشأن في قضية أرض أو عرض وحتى في انقاذ لص متلبس فإن فيها مقامات! ولا تحزن لأن اكثر ذلك يحدث في بلاد الإسلام التي ترفع شعار (العدل اساس الملك) لأن بلاد الآخرين لا تتعفف عنهم فتقلده ! وإن كنا لا نعرف كثيراً عن تفاصيله.
فوفر حزنك وتجرعه لتموت به كمداً.. فتلك عدالة عصرنا.. فألى أين؟ وإلى متى وحيثما اتجهت تجد مثل الذي سمعت أو قرأت من مفارقة القول للعمل أو حتى تناقضهما؟ 
عد، ولا تطل في الانتظار مكثاً الى تاريخ دينك .. ففي الإسلام للعدل سجل حافل لا تهب عليك من صفاته نسائم طيبة فقط وإنما يترع بدفق زلال بهِ يبترد القلب وتنعش الروح وتتفائل. 
أجل. هو ذاك وخير سبيل إليه أن تذهب على علم الاسلام كله لا إلى تاريخه فحسب. وليس امامك سوى باب ذلك العلم المشرع .. علي بن ابي طالب.
أجل، وليس من سبيل سواه. وتذهب إليه.. فيتدفق العدل فعلاً قبل القول، وتأمن إليه. فذى اخبار ينقلها المحب والمبغض وينقلها المسلم وغير المسلم. 
وإذ تهدأ الروح قليلاً الى دفء الحق المصان، ينطلق العقل متأملاً ما كان للناس وما يمكن ان يكون لهم.. لكنه لن يذهب بعيداً قبل وقفة عند علي.. 
وليس ممكناً دراسة عدله وكأنه ممارسة محددة في مجالٍ أو مجالين. وإذ تعود الناس أن يقرنوا العدل بالقضاء فإن قراءة عدل علي بن ابي طالب في كتاب القضاء وحده لن تريك صورته كلها، لأنه منظومة شاملة من الرؤى والاجراءات في القضاء، وفي معاملات الناس اليومية وفي الموقف من الرأي الآخر وصاحبه وفي الموقف من أهل الولاء. وحتى النظر إلى الطبيعة، حيواناً ونباتاً .. فمنهجه ان "في العدل سعة .. ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق". 
نعم ، قد يكون عنوان عدله الابرز، عدله في توزيع المال العام.
وقد يكون عنوانه الأبهى في القضاء إذ يقف وهو رأس الدولة .. أمير المؤمنين، اما قاضية شريح وخصمه المسيحي الذي احتاز درعه بطريقة ٍ ما، لكنه يدعها له ما دام قد عجز عن تقديم بنيةٍ طلبها القاضي! لكن مواقفه الاخرى لا تقل عن تلك العناوين بهاء.
فلا يقل عن ذلك عدلاً ولا بهاء حين يوصي ولاته بالعامة من الناس " أنصفوا الناس من أنفسكم واصبروا لحوائجهم فإنهم خزان الرعية.. ولا تحسموا أحدًا عن حاجته ولا تحبسوه عن طلبته".
وليس أقل من تلك العناوين في العدل بهاء وبعدَ نظر وشدةً فيه .. ذلك الحرص على أن يأتي حق الدولة من الأرض بعد إعمارها فيوصي ولاته أن يكون نظرهم في عمارة الأرض ابلغ من نظرهم في استجلاب الخراج فمن "جلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد". فهذا عدل ينصف الناس في بيت مالهم وينصف الأرض ذاتَها. وينصف مستقبلَ الناس والأرض معاً إذ يرشد إلى حقيقةٍ اكدتها وتؤكدها الابحاث الميدانية اليوم وهي "أنما يأتي خراب الأرض من إعواز أهلها" وإلى حقيقة أكبر هي "انما يعوز أهلَها اسرافُ الولاة على الجمع وسوءُ ظنهم بالبقاء وقلةُ انتفاعهم بالعبر". 
فالعدل هنا ينصرف إلى حقوق الناس أولاً وقبل كل شيء.
فأعمار الأرض مفتاح للحقوق التالية عليهم .. لكنه مفتاح غيرهم اساساً ومنطلقاً. وينصرف إلى مسؤولية الولاة في حسن الإدارة والانتفاع بالعبر. 
وما دمنا وقفنا عند الخراج كحق لبيت مال المسلمين على الناس، فلنقف عند عدل علي في تحصيله. ففي وصيته لولاته بآداب تحصيله، تعزيز لما نقوله من تنافذ عدله في كل شؤون الحياة البشرية وانتشاره كمنظومة متكاملة للنظر في شؤونهم. وسنرى ان هذا الانتشار أو التكامل هو السبيل إلى تأمين حق الله، وسنرى ان عدله هذا نوعاً من محبة عميقه وحنان دافق للناس فيه من الأبوة والأخوة في أصفى صورهما، ما فيه من نصح وثبات في تأمين الحقوق.. يقول موصياً ولاته المكلفين بتحصيل الخراج: "امضِ إليهم بالسكينة والوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم ولا تخدج بالتحية لهم" .. ولنتأمل هنا لحظة .. ففي وقار القادم وسكينته احترام لمن أقدم إليهم. وفي التشديد على أن تكون التحية سلاماً غير منقوص تعزيز لذلك الاحترام، ووسيلة للقادم لكسب مودتهم وهو حرص على أن يكون السلام كاملاً مما يليق بتحية الإسلام وبمن يمثله في الناس. بل انه ليوصي باحترامهم حتى قبل الوصول إليهم إذ ينهى عن النزول بين بيوتهم وإنما على مشارفها.. وتلك مجرد خطوة أولى "ثم تقول لهم: عباد الله، أرسلني إليكم ولي الله لآخذ حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟  فإن قال لك قائل لا. فلا تراجعه  وإن أنعم لك منهم منعم  فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تتوحده أو تعسفه أو ترهقه".
ولا شك ان النهي عن النزول بين البيوت مقدمة للنهي عن الاخافة والوعيد أو العسف والارهاق  ثم "فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن اكثرها له، فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها ولا تسوءن صاحبها فيها. واصدع المال صدعين، ثم خيره: فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله، فاقبض حق الله منه".  وهذا هو الهدف من كل ذلك الحنوّ المسؤول .. وهو هدف يليق به ان تكون الوسيلة اليه نبيلة تؤمن للإنسان احترام حقوقهِ .. أفليست تلك منظومة عدل يشمل الناس وماشيتهَم؟ ويشملهم حق الله في ماله معاً؟ أ فليست تلك وصية تحنن ورحمة مبعثها محبة عميقة لمن كان عنده حق وجبت تأديته؟ أجل ففيها مسعى لتزكيته بذلك الاداء ترجمة لقوله تعالى "خذ من أموالهم صدقة تزكيهم" .
ثم أليست تلك منظومة عمل لأهل الأمر تؤمن للعامة حقوقهم في الاحترام .. إذ يسألهم واضعاً الثقة في اجابتهم، هل لله في أموالهم حق فيؤدوه إلى وليه، لا أن يأمرهم. وإذا تطلب الأمر لاستيفاء الحق، على ما فيه جلال، الدخول إلى حظائر الماشية فبأذنهم .. ويؤكد حقهم في ذلك بقوله "لأن اكثرها لهم"؟ أجل. أنها تؤمن لهم حقوقهم في الأمان احترماً لحق الانسان في بيته وماله وضمان كرامته. فليس لك، والياً كنت أو مسؤولاً، أن تخيفهم أو تتوعدهم أو تعسفهم أو ترهقهم حتى وان كنت مكلفاً باستحصال حق الله. وحتى ان أشعت الأمان في نفوسهم فليس لك الا أن تشيعه في ماشيتهم أيضاً تعزيزاً لأمانهم واحترامهم، وعطفاً عليها " فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعنها" ففي ذلك وفاء لحق الانسان إذ تنصفه من نفسك في احترام بيته وماله. وفيه رحمة بالحيوان فالرقة والرحمة في عدل أمامنا هذا ثرة دافقة تشمل الانسان والحيوان. نعم ، لكنها هنا ودائماً من أجل تعزيز احترام الانسان ممثلاً في مالك الماشية ولذا على وصيته بها قولَه "ولا تسوءن صاحبها بها".
وخلال كل هذا العدل في توزيع العدل – إن صح القول -  يلوح لنا في ظل الكلمات عدل آخر هو الحرص على أن ينفذ المسؤول واجبه بأجمل صورة وفي ذلك سعي لتعزيز هيبته وتوفير سبب لمحبته، وقبل ذلك هداية له لنيل رضى الله في إدائه. وهكذا شمل العدل المسؤول والرعية معاً.
على أن ما يشف عنه النص – هو جزء من وصية طويلة تجد نصها في نهج البلاغة/ ج3 من شرح محمد عبده – 
من حرص على الحرية الفردية يمثل دليلاً على ذلك التنافذ بين عدل الامام ومواقفه المسؤولة ازاء قضايا الفرد والعامة بأجمعها.. بل هو دليل على أن العدل واحترام الناس متكاملان. وأنهما في ذمة المسؤول غاية وسيلة. فعدل ، أيَ عدل أن يستوفي في حق الله في أموالنا وعدل أيَ عدل أن يستوفيه هو يفينا حقنا في الاحترام والأمان.
وعلى هذا المنهج في العدل بين اداء المسؤول لواجبه وحق الفرد في حريته، لدينا في سجل عدل الإمام علي صفحة تزري بادعاء انظمة الغرب بالذات، منهج تصيد عيوب الآخرين والاحتفاظ بها سلاحاً تشهره بوجوههم عندما تشاء مصلحتها لاسقاطهم سياسياً واجتماعياً ولها في ذلك أكثر من أسلوب ووسيلة وأكثر من فرقةٍ وجٌند.
أما منهج علي في حماية حقوق الرعية، وهي العدل الدائم، فيرى في ملاحقة عيوب الناس أكبرَ عيوب الولاة وأشدها استجلاباً للنقمة والرفض، ولذا يوصي ولاته قائلاً: "وليكن أبعدَ رعيتك منك وأشنأَهم عندك، أطلبُهم لمعايب الناس"! أما في دول اصطياد العيوب فإن المكلفين باصطيادهم الأقرب للحكام وليس أحقهم بالابعاد والاحتقار كما يوصي الامام!! ويردف تلك الوصية بتوجيه يعززها "فإن في الناس عيوباً، الوالي أحقُ من سَتَرَها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك" ! 
انه الاب والاخ مرة أخرى، وانه العدل الحاني دائماً وبهذا الحنو نفسه يمارس عدله وهو يحاسب ولاته مذكراً اياهم دائماً خلال مفردات الحساب انهم مجرد أمناء في أموال الناس مكلفين بحمايتها ذاتها وبحماية أنفسهم مما أشتبه به منها. فقد حاسب واليه على البصرة عثمان بن حنيف كاتباً له : "أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة  فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان  وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه  فنل منه".
وهنا مرة أخرى يسري العدل مشتبكاً بين نزاهة الولاة وبين نظافة ما ينالون من الشبهة، ويشتبك بين ذلك وبين التمييز الطبقي بين الناس، فإن مجرد أن يجفو أناسُ عائلهم ويقدمون غنيهم يثير الشبهة أو يقيمها في طعامهم! فهلا لمحت العدل يحرك هذا المنطق؟ انه ذات العدل الذي يصدر عنه وهو يعهد إلى مالك الأشتر بولاية مصر أن "أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم" وأنه ذات العدل الذي لا يفرق في الانصاف بين مسلم وغير مسلم .. فالناس عنده "صنفان أما أخ لك في الدين وأما نظير لك في الخلق" وإذ ينص صراحة على حق هذا وذاك في عدل الحاكم ورحمته ومحبته فان عدل علي لا يغفل التفاوت في اتجاهات ومواقف فئات المجتمع فيوصي بعناية خاصة لأهل العامة "فإن سخط العامة يجحف رضى الخاصة وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة". 
وأنه ليوضح اسباب ذلك في تشخيص دقيق زكته تجار قرون من الدهر إلى يومنا هذا وثبت أن "ليس أحدُ من الرعية أثقلَ على الوالي مؤونةً في الرخاء وأقلَ معونةً له في البلاء وأكرهَ للأنصاف واسأل بالإلحاق وأقلَّ شكراً عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة"! و "انما عمادُ وجماعُ المسلمين والعدة للإعداء العامة من الامة، فليكن صفوك لهم وميلك معهم". 
وكذاك هو والله .. ولعل مضمون هذا العهد شاهد على صفوة لهم وميله معهم .. كأنه لا يكتفي بأن يكون القدوة فيما يفعل، فيوصي عماله بالتزام منهجه ويلزمهم بل ويتشدد في حسابهم على ذلك. ويُفصّل في مفردات تترجم ذلك الصفو الواعي فيخشى على الناس وعلى ولاتهم من الساعين لدى الولاة بالسوء فينصحهم موجهاً "وتغابَ عن كل ما لا يتضح لك، ولا تعجبن إلى تصديق ساع فان الساعي غاش وان تشبه بالناصحين". 
تلك أقباس من سيرة قائمة أكثر منها نصوص موجهة فما أكثر ما درأ من حدود بما أفاض الله عليه من عقل متألق فقه الدين وكتاب الله فكان القاضي الرحيم بعدله أو العادل برحمته وحنانه. وهي أقباس مفعمة بذلك التفاعل المستمر. 
بين العدل والحرية الفردية وبينهما وبين الوعي بتوزيع المسؤوليات القيادية، وحتى بمتطلبات الانصاف في المستشارين. إذ لابد من اختيار الأفضل من بين الناس تقى وانصافاً وتجربة لتكليفه بالمسؤولية لا محاباة ولا أثرةً .. كي لا تشرف نفس المكلف على طمع "ولا يكتفي بأدنى منهم دون أقصاه" وكي لا يزدهيه اطراء ولا يستميله اغراء. ولا بد من تجنب استشارة البخيل ممن يبعد عن الفضل. ولا لاستشارة جبان يضعف الوالي عن الامور. ولا لاستشارة حريص يزين للوالي الشرَهَ بالجور. ولا لاستشارة أعوان الائمة واخوان الظلمة!! 
وتلك مفردات من تفصيل تجده في نص عهد البليغ الشامل. (في الجزء المشار إليه من نهج البلاغة) وهي بتكاملها لا تؤكد العدل نفسه فقط بل وتذهب إلى توفير حراسة للعدل من أن يأفل أو توفر له ضماناً كي ينشر اجنحته وهي مفردات تؤكد مرة أخرى ارتباط العدل بالحرية الفردية في مشروع مشرق لضمان حقوق الانسان بما في ذلك حقه في وجهة نظره الخاصة.
أجل. فمن يدرس منهج الامام في الحرية الفكرية سيجد انه لا ينفصل عن عدله. فإن حرية الفكر التي ضمنها لأشد خصومه لدداً في الخصام تعبير خاص عن عدله باعتبارها من حقوق الانسان ما دام الخصم لم يُحدث في الأمة حدثاً! غير ان ذلك بحاجة لوقفه خاصة غير وقفتنا هذه.
أفلا يمثل ذلك المنهج المتكامل في اقامة العدل واحاطته بظروف تديمه وتحرسه وتعمقه مشروعاً مغرياً لأي انسان كي يعشو لضوئه؟ وأين ذلك التكامل والانسجام بين القبول والعمل من هذا الافتراق بينهما في ادعاءات عصرنا الثرثار؟ وهل ثمة اكبر من ذلك مبرراً لاختيار منهج علي املاً وحلماً ودعوة للعمل؟
أبداً .. وفي مفردات هذا الباب وحده كثير من مبررات بل موجبات هذا الاختيار ولقد اخترته، ولا فخر .. فقد اختاره الناس في كل حدب وصوب وقبلهم نذر صاحب المنهج نفسه فداء لمفرداته وانفاذها والدفاع عنها.. حتى إذا خضبت ضربة المروق الفاجر شيبته بدمه تألق عقله الخصب في التو واللحظة يعيد حسابَ المعادلة من أولها فيزهو عالي الصوت " فزت ورب الكعبة". 
ولقد فاز حقاً، ويقيناً انه يعي من أبعاد فوزه وحجمه مالم نعِ .. وهو ما جعله يقسم على ذلك! ولكننا نستطيع أن نراه فوزاً للمنهج الذي آمن به. فليس يسيراً وليس بدون معنى أن يستشهد رجل فذ كعلي بن ابي طالب دون ذلك المنهج. ولا عجب .. فليس هو سوى الاسلام. ولقد كان علي بن ابي طالب اسلاماً يمشي على الأرض.. وتلك ذروة عظمته! فليس هنيئاً أن يبلغ الايمان ذروة كالتي بلغها عليُ في اسلامه فأحاله إلى حياة يعيشها الناس معه ومن خلال فكره وسننه ومواقفه! أي والله ..  أي والله .. وكلما وقفت مسلماً عليه وقفت مسلّماً على الإسلام مفردات حيّة. وكلما ارتعشت عند مثاليته في ممارسة تلك المفردات/ المفاهيم هيبةً .. أو ارتعشت عندها متحسساً غربتها في دنيا المنافع والجور لا أملك وأنا اقف في رحابه الا ان أقول مرتعشاً.. السلام عليك يا غريباً في كل العصور. أجل، فقد سبقها إلى الحلم تجاوزاً لحساباتها فكان فوزه الذي تباهى به شهيداً يرتقي إلى الخلود نقياً.
فهل لنا أن نفوز بإيمان صادق بمنهجه؟ ..  ياليتنا!
كتبت في 24/ 11/ 2002





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM