في رثاء الجمال ...في مديح الأمل(1)

تاريخ النشر       20/04/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام* 

 
في العام 1961 كنت في سنتي الدراسية الاولى، حين جاءت الشرطة و" داست" بيتنا في المسيب الغافية على الفرات، واقتاد رجال بمسدسات، الى سيارة الشرطة الخضراء، اخي الذي كان يقضي عصر ذلك اليوم الصيفي قرب مكتبته.
لم يكن الحدث سهلا عليّ لجهة ما اشقاني منظر امي وهي تشهق بالدعاء لحرية قاسم عند كل صلاة، ثم تجهش ببكاء مرّ فأمضي اليها سريعا، واجلس على طرف سجادتها مستنشقا رائحة "ماء الورد" في آزارها الذي كنت اقارنه بين ما تعلمته في "القراءة  الخلدونية" حيث " آزار امي ازرق ". ولكن ازار خديجة محمد حسن، كان ابيضا ، وكنت اتمنى لو تطابق اللون بين ما تعلمته في الدرس الأول، ومشهد امي وهي تصلي.
الحدث علمني مبكرا ايضا، معنى الجدية ومعنى المعرفة ومعنى التحدي، فأثيرت حال طوارىء في البيت، لا من اجل اطلاق قاسم من سجنه، بل من اجل ايصال كتب السنة النهائية ( البكالوريا) اليه في السجن، فالامتحانات على الابواب، وقاسم قرر تحدي سجنه في الاستعداد للامتحان المصيري الذي يرسم المستقبل (الدراسة الجامعية)، وامي استلمت الرسالة ووقفت الى جانب قاسم بقوة في خياره، وجابت من اجل ايصال الكتب الى داخل السجن، طرقا مغلقة تارة، وسهلة تارة اخرى، ما بين المدرسة ودائرة التربية، والقاضي الذي كان يسكن في واحد من بيوت حكومية عدة مطلة على شاطىء الفرات.



جسر المسيب في مشهد كان يطل عليه بيت جدي
 
ولأن النفوس لم تكن مغمورة تماما بالفساد والنذالة في تلك الايام، فقد وافق القاضي على حق قاسم باداء الإمتحان النهائي، وأصدر حكما ألزم الشرطة بتنفيذه، وعلى ضوء ذلك حملت الكتب مع امي وذهبنا الى السجن، فقابلنا قاسم بفرح لم أجد مثله وقد شعّ في عينيه، وفي باحة السجن احتضن امي، ثم رفعني وانا ابكي مع الكتب التي كنت اضغط عليها، كي لاتسقط وكأنني كنت احمل سر خروجه الى الحرية.
بدأ قاسم يؤدي امتحاناته، وفي ضحى يوم صيفي كنت ألهو في باحة بيتنا مع صقر صغير حمله الفلاحون من زبائن كانوا يفضلون شراء البضاعة من محل بقالة والدي، حملوه هدية لي، لكنني تركت الطائر، ما إن دفع شرطي الباب وهو يصطحب قاسم المقيد اليدين الى داخل البيت.
كان الشرطي رافق قاسم الى المدرسة لإداء امتحانه، ويبدو انه رقّ لحال الشاب فاستجاب الى طلبه بزيارة قصيرة الى البيت، ولكن فرحتي بعودة اخي انتهت، اذ سرعان ما اخذه الشرطي ثانية الى السجن، مثلما انتهت فرحتي بالصقر الصغير فنسيت الخيط الواصل بين اصابعي وقدمه،  فطار الصقر وعاد قاسم الى السجن فمضيت الى حضن امي ابكي الإثنين، قاسم والصقر.
في السجن نجح قاسم في البكالوريا، صحيح انه لم يحقق نتيجة كاملة وهو الذي اعتاد ذلك في الايام الطبيعية، لكنه لم يكره " معدله المتوسط" الذي اوصله الى كلية الزراعة، وفي جدية لافتة اعتبر وجوده في ذلك المحيط العلمي تحديا جديدا فاكمله بتفوق رغم مشوار سجن جديد رافقه في دراسته، وجاء بعد انقلاب البعث الدموي في 1963، وحينها عشت قصة اخرى مع سجن قاسم، حين جبت متعلقا باذيال عباءة امي، طرقا وممرات بين امن بغداد ومديرية الأمن العامة وسجن الحلة، وصولا الى بيت "الحاكم العسكري العام" رشيد مصلح التكريتي، الذي انتظرت والدتي خروجه من البيت، لترمي نفسها امامه، متوسلة له اصدار امر اطلاق قاسم بكفالة حتى موعد مثوله امام المحكمة متهما بنشاطه كشيوعي.
وفي حين كان مثل هذا الأمر والذي وافق عليه التكريتي، ما يشبه المعجزة، كنت انا من أفسد على أمي فرحتها برؤية قاسم حرا وعائدا الى دراسته الجامعية،  فقد وضعت موافقة الحاكم العسكري بين يدي كي احفظها جيدا ونحن في السيارة ما بين بغداد والحلة، لكنني ولسوء حظي سهوت قليلا،  فضاعت ورقة الموافقة على اطلاق قاسم من سجنه، ضاعت  في مكان ما بين الأمكنة الكثيرة التي تنقلنا بينها، ولتبدأ والدتي من جديد بالرحلة الطويلة ذاتها بلا كلل او ملل، باحثة عن الامل وان كان ضيقا وبين اقبية سجون "البعث" وسلطة " الحرس القومي" الدموية.


 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM