الثقافة...والبيئة

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM


شمس مشرقة، والافق يمتد شفافاً حتى يلتقي بسماء صافية والارض سجادة خضراء لاشية في خضرتها تتموج هنا وتنبسط هناك فتتغير خطوط انعكاس الشمس وتتداخل مع ظلال أشجار داكنة الخضرة كثيفة الاغصان، وان اختلفت انواعها وخارطة انتشار فروعها وبينها تلونت خضرة الارض بالوان من ازهار الادغال والنباتات البرية كانما لتغري عدداً من الحيوانات لتمشى بينها آمنة، رغم ان بيتاً ريفياً يلوح في زاوية من المشهد وحولة ترعى عدد من الابقار وتحلق هنا وهناك طيور مختلفة منفردة او باسراب او يتناجى بعضها على الاغصان آمنة وهي ترى سرباً من البط وطيور الماء يسبح في جدول رقراق تعكس صفحته الشمس كمرآة مجلوة.
على ربوة خضراء جلس شاعر يملأ عينيه من المشهد تشع على وجهه ابتسامة رضى، ويهز رأسه مستحسناً وهو يرى على البعد رساماً انهمك في انشاء لوحته وهو يتملى ذلك المشهد.
واذ كانت الشمس ترتفع على حافة الضحى لاحت في مدى الرؤية حافلة ركاب تقترب من المشهد، ثم لتقف وسطه وينزل منها كهل توجت الفضة رأسه يتبعه عدد من الشباب والشابات يتأبطون اوراقهم.
تلفت الكهل باسماً يغمره سرور مايرى حوله وخاطب تلاميذه الذين احاطوا به فاتحاً ذراعية نحو طرفي المشهد... هنا سترون نموذجاً للتوازن الطبيعي في بيئة نظيفة لم يخربها الانسان.. وانهمك يشرح لهم عناصر ذلك التوازن.
اهتز الشاعر وراح يترنم باولى أبياته التي اوحى بها المشهد... ومضى الرسام مع فرشاته... تتسع أمامه مساحة الوانه وتتفاعل.
تلك بعض ثمار مشهد واحد من بيئة نظيفة: قصيدة شعر جميلة ولوحة رسم ستنقل المشهد او روحه الى حيث تصبح في عداد احلام اولئك الذين أرهقتهم ضوضاء المدينة وضاقت صدورهم بدخانها وابخرتها وربما حمل عدد من اولئك الطلبة المشهد الذي درسوا فيه التوازن الطبيعي داخل كاميراتهم تمسكاً بلحظات صفاء ترتاح اليه نفوسهم.. بل ربما أغرت احدى الصور الملتقطة من يكبرها لتكون لوحة من الطبيعة ترحل مع تفاصيلها عين متعبه الى بديل أنقى فتستعين به كي تواصل ماهي فيه.
درس علمي تطبيقي يضيف للعلم وطلبته، وقصيدة تسهم في بناء فن القول، وخطوط تشكيلية تضاف لسجل الريشة واللون، وبهجة تؤكد بلاغة العدسة الذكية وومضه النور التي تسجلها، وكل اولئك عناصر مشهد ثقافي تتكامل وتتفاعل لبنائه كما رأيناه، وتتكامل وتتفاعل لتثري روح المتلقي بالمعرفة، والبهجة... فيكون الاقبال على الحياة.
ذلك مايمنحنا اياه مشهد واحد من بيئة نظيفة، متوازنة العناصر وهو دليل عملي على صلة طبيعية عضوية بين البيئة والثقافة.. وهو ايضاً مدخلنا للتأمل في اشكال ونقاط ذلك الاتصال الدائم بين الثقافة والبيئة.
أولاً- تماثل في البنية
لاغرابة في الصلة المتبادلة بين الثقافة والبيئة اذا نظرنا في التماثل او التشابه بينهما على صعيد المبدأ او البنية.. فالبيئة اليوم مفهوم شامل للعناصر المكونة لها والتفاعل بينها، وبين كل منها ونتائجة الاجتماعية والثقافية وبينهما مجتمعة وتلك النتائج، بل ان أي مشروع يستهدف حماية البيئة، او ضمان بيئة نظيفة لايمكنه ان يكون حقيقياً أو فعالاً مالم يضع في بنوده ارتباطاته بقضايا اجتماعية وثقافية، وتماسها الحتمي في الجانب الاقتصادي لاي مشروع بيئي متكامل وارتباط هذا الجانب بدوره بالسياسة الاقتصادية والسياسة العامة لأية دولة.
وقبل هذا ودائماً، فان مبدأ الاتزان الطبيعي في النظم البيئية العديدة هو محصلة تفاعل العناصر المكونة لذلك النظام... الثقافة، كما نراها، هي الاخرى محصلة ارتباط وتفاعل لكافة عناصرها، وفنونها ومجالاتها المعرفية.الثقافة التي نعنيها هنا تلك التي تتجاوز التخصص الى رحابة الاطلاع والأغناء. فثمة من يعتبر الثقافة هي المجالات الادبية وما يرتبط بها من علوم انسانية. وثمة من يراها في قضايا الفكر العامة، وثمة من يرى التخصصات العلمية البحتة او التطبيقية هي الثقافة، واصحابها مثقفون، غير انها رؤية جزئية لانها تعمم الجزء على الكل، فالثقافة مفهوم شامل لكافة ثمار الفكر الانساني، فأن أديباً مهما علا شأن ابداعه الادبي، لن يكون مثقفاً دون إلمام معقول بثمار العلم والاقتصاد والفلسفة، وليس كل عالم مثقفاً مهما كانت منزلة تخصصه وتعمقه فيه دون اطلاع حقيقي على الادب وقضايا الفكر وتيارات الحركة الاجتماعية... وان العالم المجرد من الموقف الثقافي يبقى مجرد آلة في دائرة تخصصه تتغير حركتها حسب متطلبات قد تكون تتناقض مع العلم ورسالته الانسانية.. على النقيض من اولئك العلماء الذين كانت لهم مواقف في قضايا الانسان العامة.
لدينا اليوم مايعرف بالمثقف العضوي الذي يحمل اختصاصه الادبي او العلمي الى جانب انشغاله بالشأن الاجتماعي العام، وهذا المثقف بالذات هو الأمل الحقيقي في تبني قضية كبرى كقضية البيئة وصيانتها.
انه حصيلة تفاعل بين ثمار الفكر الانساني.. مثلما هي البيئة حصيلة عناصرها المكونة ونتائجها او اثارها الاجتماعية.. واي فهم جزئي للثقافة وللبيئة يخل بكل منهما وكل منهما حسب ذلك الفهم المتكامل يغني الاخر.

ثانياً- الهدف
ماذا يريد دعاة حماة البيئة او ماذا تستهدف مشروعات المحافظة على البيئة نظيفة او متوازنة؟
خارج اي تفصيلات نقول... ان الهدف هو الانسان وتحديداً انه ضمان حياة انسانية او نظام بيئي يمارس فيه الانسان حياته دون خوف من كوارث وبائية وان يستثمر مايحيط به من اجل ثرائه الروحي والمادي. وليس للثقافة، بالمفهوم الذي عرضناه، سوى ذلك الهدف، فالانسان هو المبدأ والمعاد لأية فكرة ثقافية او مشروع ثقافي ودع عنك تلك المدارس الادبية التي تعلي من شأن الذات الفردية بمعناها الضيق.. أفلم نقل ان المثقف الذي نعتمد رؤيته هنا هو المثقف العضوي؟
عصرنا اليوم محصلة ثورة علمية وتطور عاصف في التقنيات العلمية وكلها معاً غيرت من نمط الحياة البشرية على كوكبنا فاصبحت الثقافة سمة من سمات انسان هذا العصر وهدفاً من اهدافه، وصارت الثقافة بكل فروعها صوتاً من اصوات الانسان المادية بتوظيف منجزات الثورة العلمية وتقنياتها من اجل سعادته وبهجته في الحياة ولذلك يجد المثقف نفسه تلقائياً في اي مسعى لصيانة البيئة من آفاتها صيانة للحياة الانسانية وادامة لبهجته في العيش.
ان العلماء الافذاذ الذين ابتكروا الاجهزة الحديثة التي يسرت الحياة البشرية في المنزل والمكتب قد حرروا البشر من جهد كان يستهلك منهم اعمارهم، واطلقت في بني الانسان رغبات متدافعة لاستثمار الوقت في اشباع حاجات روحية، وكان التوجه نحو القراءة ووسائل الثقافة ابتداء من المدرسة أبرز توجهاته الحضارية... ونتيجة ما اكتسبه من رفعة الذوق ورهافته وجد نفسه، كفرد بصرف النظر عن مستواه الثقافي، ضد الاذى الذي نتج عن آثار سلبية رافقت هذا الانجاز العلمي او ذاك او نتيجة لهذا الانحراف او ذاك في تطبيق خطط التحديث الاقتصادي والاجتماعي وصارت بعض اهم انجازات الثورة العلمية صوتاً عالياً للثقافة والدفاع عن البيئة معاً وهي اجهزة الاعلام الجماهيري كالاذاعة والتلفزة والصحافة... التي تقف اليوم كأبرز فرصة وأشد الوسائل فعالية للتوعية بقضايا البيئة، وما كان لهذه الفرصة ان تحين دون وعي ثقافي عام.. ولن تفعل الاجهزة فعلها دون مثقفين.
وستزداد فعالياتها تأكيداً، كلما اتسع دور المثقف العضوي فيها.. انه هنا، كما نرى لايدافع عن بيئة نظيفة فقط وانما يمارس دوره الثقافي، يمارس انسانيته اذ يدعو لمحيط يثريها بالجمال والصحة ليثرى الانسان بهما.
* الجزء الاول من مقالة تشير الى تنوع ثر في مفهوم النقد الثقافي



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM