تأملات في توظيف المفارقة عند مصطفى جمال الدين

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM


كثيرة هي الوسائل التي توسل بها المبدعون لشحذ اساليبهم وحشد المعاني فيها، وبينها وسائل جمعت بين ذلك الهدف وبين تمويه تلك المعاني او إخفائها في ثنايا عملية ايحاء او إضمار،ولعل ابرز تلك الوسائل الفنية هي اعتماد المفارقة اسلوبا للتعبير الابداعي

واذا كانت المفارقة على انواع وتحت عناوين شتى وتحقق اكثر من هدف فإن المفارقة المنطوية على المتضادات إكتسبت مكانة متميزة بين انواع المفارقة، بل ان هناك من يعرّف المفارقة بانها جمع المتضادات او تشغيلها معا على صعيدي اللفظ او الموقف او على صعيديهما معا،وما ذلك إلا لطاقتها التعبيرية ناهيك عن ان المفارقة عموما تنفتح على معان عديدة يشترك في بثها المبدع والمتلقي معا.                         
 وقد احتلت المفارقة كوحدة اسلوبية مكانة مهمة في الابداع الادبي، قصة أو شعرا، فثمة قصص وقصائد تعتمدها كليا أو جزئيا لما يتيحه ادب المفارقة من احتمالات متعددة حتى ليفرض عليه  د . سي . ميوميك  شرط ان يكون "مشتملا على السطح والعمق،الغشاوة والصفاء،كما يجب ان يستحوذ على انتباهنا على مستوى الشكل إذ يوجهنا نحو مستوى المحتوى"،وبالنسبة لقصيدة المفارقة بالذات"يجب ان تعنى وتكون معا "( د . سي . ميوميك : المفارقة – ترجمة د . عبد الواحد لؤلؤة – سلسلة موسوعة المصطلح النقدي – وزارة الثقافة والاعلام – بغداد 1982 – ص 11- 12).           
ولعله يتفق مع هذا الفهم اعتماد العديد من كبار الشعراء المفارقة في العديد من قصائدهم، فقد استخدمها الجواهري واستخدمها من المحدثين محمود درويش،وها نحن بين يدي شاعر كبير عُرف بتعدد مواهبه وعطاءاته في محاولات الشعر وعروضه والفقه والسياسة والنحو وهو يعتمد المفارقة في بناء قصيدته .. انه الشاعر مصطفى جمال الدين .. فكيف وظّف المفارقة وأي نوع من انواعها اعتمد في قصيدته.             
كي نجيب عن هذه التساؤلات إخترنا أن نقف عند قصيدة قديمة من قصائده، ويشجعنا على اختيارها، فضلا عن اعتمادها المفارقة بنية مهيمنة، كونها تسمح برؤية مصطفى جمال الدين السياسي في اهاب الشاعر بل وحتى بقراءة موقفه السياسي،اما إذا وقفنا عند قصيدة من اواخر شعره ورأينا فيها ميله لإعتماد المفارقة بالاسلوب إيّاه فيمكننا ان نجد مبررا مضافا لقراءة المفارقة في شعر مصطفى جمال الدين،وهذا ما تحاوله هذه الورقة ونحن نقف عند قصيدته التي نشرت تحت عنوان "بغداد في عيد الأدب "في مجلة "الاقلام" بعددها الخاص بإنعقاد مؤتمر الادباء العرب الخامس ومهرجان الشعر السادس في بغداد - شباط 1965 " الاقلام – الجزء 8 – السنة الاولى – نيسان 1965 ص 141-144 " ثم ننظر في قصيدة "الفقيدان" التي رثى بها صديقه السيد عبد الزهراء الحسيني ونشرتها مجلة "المواسم" بعددها 20-1994 الى جانب كلمة له تتضمن ابياتا أخرى له.                                                                              
                             *****

1 -  أية مفارقة ؟                                                               
  قامت قصيدة "بغداد في عيد الادب" على التضاد صورا ومواقف، ونرى ان استحضار تلك المفارقة واداة حركة القصيدة حول العلاقات المتضادة لم يأت لمجرد حفز الدهشة او اثارة الاستغراب بقدر ما جاء نتيجة وعي بتاريخ المدينة وحقيقة العوامل التي تصارعت على ساحتها فشكلت صورتها التاريخية التي امتدت الى راهن الشاعر، وبذلك نحقق للقصيدة إنسجام الشكل والمضمون.                                                
1-1الاستهلال:                                                       
 وكجزء من ذلك الوعي جاء مفتتح القصيدة حاشدا بعلاقات التضاد التي اختيرت بعناية تحقق الإدهاش وحضور التاريخ مكثفا في ذات الوقت الذي شفت عن ذات الشاعر واعتزازه ببغداده ملخصا إيّاها بما يشبه الابتداء من النهاية كما في السينما.
اجل .. وكذلك كانت حركة القصيدة، فقد بدأت من لحظة بغداد التي انتهت اليها .. حاضرة تكسرت على تاريخها نِصال العصور فذوت لتبقى في إخضرار العمر .. كما لخصها البيت الاستهلالي ....                                                                  

بغداد ما اشتبكت عليك الاعصر        إلا ذوت ووريق عمرك أخضر

وعززها البيت الذي تلاه إذ يتجسد التضاد بين إشراق بغداد وظلمة الدنيا التي مرّت بها،ويستمر مؤكدا روح التحدي في بغداد وروح الشاعر معا في كل ابيات مقطع الاستهلال المتكون من تسعة أبيات تنقلت بين خلاصات تؤكد تلك الروح المتحدية بل وحتى الوثابة.
ومما عمّق من تلك الروح،ان ابيات المقطع قامت على تضاد في اللفظ والصور والموقف، إذ في البيت الثالث،الروع والقسوة في فعل الحادثات .. فإذا القاسي مرتاع باحتمال من وقعت عليها القسوة! ويجتمع سوم العذاب والدلال والجوع والشبع والنوروالظلمة لا إجتماع تجاور او تراصف وانما سريان فعل وفعل مضاد،فبرغم شدة الجوع التي كثّفها الشاعر بتناقض "الشبع جوعا" تبقى عافية البهاء مكثفة بصورة الصدر الناهد على شدة الجوع وبقاء الفكر النير يتحدى الظلمة !                             
إزاء تلك الصورة البهية،المعافاة، المتحدية بالرغم من القسوة والظلام والظلم والسياط، يجد الشاعر نفسه مطالبا بايضاح مسوغات تلك الصورة ومنها درج مستعيدا ماضي المدينة، فهل استطاعت مقاطع أو اركان القصيدة التالية ان تنسجم مع المقطع الافتتاحي كما يتطلبه الاستهلال الناضج؟ نزعم أن نعم،وهو ما نجده في التأملات التالية :                                                                                      
2 -  وعي العناصر المتضادة .. وعي الصراع
على صعيد الاسلوب .. استمرت المفارقة،ومفارقة التضاد بالذات،تحكم بناء المقاطع كافة بل وبناء البيت الواحد في الاغلب، مما يشير الى سعي الشاعر للتوغل عميقا في مفردات الصراع الذي كوّن صورة بغداد عبر التاريخ وحتى الحاضر،وبذلك دليل على وعي الشاعر لتاريخ المدينة واستيعابه حركة العوامل المؤثرة فيه وهو ما سنقرأ خلاله صورة السياسي في الشاعر،وكل ذلك يعزز الصلة بين الاستهلال ووحدات بناء القصيدة وعوامل حركتها مما منحها وحدة عضوية شعّت بروح سردية كثفت حركة التاريخ الاسلامي والمعاصر في رسم صورة بغداد.                            
ومما يوجب على الدارس الوقوف عنده في بناء مفارقة التضاد،قوة التعبير وكفاءة الايحاء عبر المتضادين في استكمال الصورة خلال استكمال متتال لكل لقطة أو خط من لقطات الصورة أو خطوطها.                                                   
 ففي المقطع الثاني نجد ذلك في اكثر من بيت من ابياته، فمن حرقة الهوى بنار الدجى فتتصل ليالي السمربوهج الضحى (البيتان2 و3) كناية عن شدة الوله والإنغماس في السمر، وعن الثقة بالنفس وهيبة القوة، يكني الشاعر بتهدج الصوت في رصافة بغداد لتحفل الاقصر في صعيد مصر وما كان لها ان تجفل لولا قوة ذلك الصوت ومهابته ( البيت الخامس ).                                                               
وإذا تهدج بالرصافة صوته                جفلت بمصر على صداه ( الاقصر )
يعزز ذلك، البيت الثامن وهو الاخير في هذا المقطع إذ يجتمع على شفة القائد العباسي كأس الحب والشوق الى كأس الحميه !!                                                          
فيرد كأس الحب عن شفة بها              شوق الى كأس الحمية أسمر

2-1   وعي العلم ... رجل العلم
 وفي المقطع الثالث تصعيد في مسار الكشف عن عناصر مجد بغداد بالاسلوب إيّاه .. انه مقطع للعلم في حضارة بغداد وهو بشاعرية السيد جمال الدين استقطار واع لمجد رجل العلم وصبره وتضحيته وعطائه !.. وبتلك الشاعرية  و وعي الشاعر للعلم واخلاقياته، حققت مفارقة التضاد انجازا متألقا.                                 
فإذ يتسمر طرف العالم في المستنصرية بالحروف المؤتلقة ساهرا يصقل المواهب, تتعب عيون النجوم التي يفترض انهاوالسهر شيء واحد(البيتان 1 و 2 من المقطع) يظمأ والكأس تفيض دونه لأنه لا يمكر ولا يخدع بالسراب ولكي يقيت جيلا يتضور جوعا للعلم, يشوي روحه بلهب العلم القدسي .. يشعر الصباح بيراعه فيبدد الدجى يعيش مهزولا وبقلبه "امم وتسمن من حشاه اعصر"!وفي محرابه ورحاب علمه تكتسب الاجساد – الطين أرواحها !! وتلك كناية رفيعة عن فعل العلم الخلاق...   

نأتيه أجسادا فيصنع روحها               والطين لولاه الكثير الأوفر
               
يستطيع الدارس ان يتأمل في بناء ومفردات هذا المقطع، ان يقرأ سطورا من شخصية مصطفى جمال الدين العالم الباحث،حيث المسؤولية تحيل العالم المعلم شعاعا ينير الظلمات،و ريّا يروي العطاشى للمعرفة!بعطائه تقوم أمم وتمتليء معرفة ويهزل صبرا ! ثم لا يجد ملخصا لكل ذلك اكثر كثافة من ان يكون العالم مانح المعرفة .. مانح الروح للاجساد !!                                                                           
 ومن كان هذا فهمه لمسؤولية العلم / العالم،لم يعد غريبا عليه ان يجتمع فيه الشاعر والنحوي والفقيه والسياسي ومن يستطيع ان يحشد المفارقة بتلك المعاني واجتماع عوامل الصراع، لن يعجزه ان يكون عروضيا،كما كان مصطفى جمال الدين،كل اولئك في واحد .. ومن كان ذاك كله فلن يكون السياسي فيه إلاواعيا لجذر الحراك السياسي وأصله الطبقي المدجج بالسلطة ووعاظها .. وهو ما يجلوه شعرا،المقطع الخامس في هذه القصيدة وما تلاه ....
 
 

                                                            
2 – 2       السياسي
في تأملنا لهذا المقطع نقف عند قضية نالت من التشويه شيئا كثيرا، ونجاحه في السنوات الاخيرة التي حاولت أو حاول فيها الشكلانيون ان يقطعوا بين الشاعر والسياسي بهدف قطع العمل الابداعي عن مرجعياته الاجتماعية .. فعلت اصوات من ينفي اجتماعهما.                                                                                       
هنا،نجد الرؤية السياسية تذهب الى مفردات تفصيلية في بناء لا يختلف اثنان في شعريته،واذا كانت بنى هذه القصيدة هي المفارقات المتضادة منذ استهلالها فانها في وحدة خوضها في الشأن السياسي تذهب في حشد المفارقة بالشعر والمعنى شوطا هو الابعد في مدارات القصيدة .. ولكي يحقق الشاعر ذلك مدّ بين مجد بغداد العلمي،كما رأيناه في مقطع ساهر المستنصرية ( المقطع 3 )،وبين قراءة تاريخها السياسي في المقطع الخامس، جسرا مثله المقطع الرابع الذي يمهد لتلك القراءة بعقد مفارقات بين التاريخ المتداول ورموزه وبين قراءة له محتملة أو مغيبة .. فوراء ما شاع عن "ألف ليلة"حديث يطول ويقصر .. وصخب الحوادث يوقر سمع شهريار،مما لابد معه ان تتحدث بغداد الحقيقية،إذ لا يليق بها أن تصمت بينما تثرثر قرى،سواها !!     
وتحدثني – فجلال مجدك لا يرى     أن تصمتي وقرى سواك تثرثر
ومن موجبات ذلك ان اجيال ما بعد بغداد ارتوت بثقافتها حتى لتفخر انها "تسمر"على بقايا بساط بغداد !! وإن نثيث فكر الاصمعي يعطرغد دجلة ومن يسمر بمتنه.وما دامت قراءة جمال الدين الشاعر السياسي لتاريخ بغداد مغايرة للتاريخ الرسمي فإنه يبدأها بالتحذير من الثقة بمؤرخ يسطر للسيف ما يريد لا ما يملي عليه ضميره.                                                                                                
 يعيدنا هذا التحذير الى استكمال مسؤولية العالم التي رأيناها في عين مصطفى جمال الدين واخلاقيات المثقف،فمن يُخضع للسيف يراعه ليس اهلا للثقة بروايته أو رؤيته .. والمفكر هنا يجلو الدجى،والمهندس يبني الصروح .. والشاعر يسرح الليل بنثاه ويعطر والمعلم يعصرروحه ليُشرب تلاميذه ريا ..
على ان منجز كل اولئك المبدعين يذهب في سطو الحكام فيحصدون مجده ويحصد المبدعون الشوك !وتلك لعنة السياسة وعارها .. وان سياسيا يجسد هذه اللعنة،كما فعل جمال الدين, بتلك الصور فلأنه الشاعر السياسي او السياسي الشاعر دونما تقاطع مفتعل فإن استغلال ثمرة الجهد الخلاق هو اساس الاستبداد وانحراف السلطان .. وهو ما ينفي عن حكمهم لا ذهبيته فقط وانما شرعيته لا سيما وان الأمر يتكرر:                   
فاذا تصفحناك سفر دائم                 لم نلق إلا صورة تتكرر
لخليفة ووزيره،ولحاجب                وأميره ولمن بهم يتأطر
فهم الذين رقوك مجدا شاهقــا               وبُنامة من حوله تتحسر
واذا زرعت الارض فجر حضارة           وتمدن سبقوا لها فاستثمروا
(الخلد) والقبب الشواهق حولـه              ابداعهم ويد المهندس تصفـر
والفكر تقبسه القرائح من هنا              وهناك وهي على اللظى تتسعر

2 – 3  داعية الثورة
حسنا فمن يفهم الصراع كما عرضنا ينسجم مع فهمه بل ما يعمقه هو ان يدعو للثورة على الزيف واستغلال جهد العاملين المبدعين .. وهو ما يدلج اليه هذا المقطع سلسا،في المقطع التالي ( السادس ) حيث صوت الدعوة للثورة .. الذي يُفتتح بنداء موجه الى بغداد:                                                                            
بغداد آن لك الأوان لتُرجعي               ما ابتز منك الحاكمون وزوروا
إذ ترى العين الواعية ان ذهب ذلك العصر ما كان إلا "ما يُعشي العيون ويُبهر"اما حقيقته فانه (الحديد) كناية عن قوة السيف الذي لم يكن له من همّ إلا:" حصد النفوس ليستقر( المنبر)"                                                              
وإذ يضع الشاعر هنا (المنبر) بين قوسين وإذ يختار المنبر فليس لضرورات التقفية وانما كناية واعية عن إتحاد السلطة العرش بوعاظ السلاطين .. فلنتأمل بلاغة الاختيار وكثافة احالته الشعرية ! ولذا فان تكرار نداء الثورة يستهدف تحطيم ذلك العرش / المنبر ما دام قد قام على حساب الشعوب:                                                        
بغداد آن لك الأوان لتحطبي              خشبا بآلاء الشعوب تنضر
ومع تعميق الدعوة للانتفاض تتضح صور اخرى من سلوك الحكام الظَلَمة وسنرى ان تلك الصور ستتابع مجسدة من خلال المفارقات التي يحشدها الشاعر :  
* ابتزاز جهد المبدعين - لايحتمله المجد الفارِه                                       
* ليالي القصف،البطر،الطرب ورقص الجور - كناية عن هدر المال العام بالضد من التعامل مع اصحاب المال الشرعيين المعبّر عنهم ( بالسواد ).                                                                                 
*في ممارسات هدر المال العام .. صوت عال .. رنين طرب وضجة  رقص وليال     قصف وبطر .                                                                                      
اما اذا – واذا اداة شرط غير جازمة – تطلعوا مجرد تطلع للسواد، فالصوت النقيض
"بحّ الرنين به وغاض العصفر" !
2 – 3 – 1 . الثورة منطق العصر                                           
 ولكي يتعزز منطق الدعوة للثورة ويعلو صوته،يستنطق الشاعر عصره ويستشهد بزمنه الذي لابد ان تكون بغداد في القلب منه،وأول ما يقرأ من ملامح هذا العصر كونه ينفي الفكر الاجير ولغة المفاخر المتهرئة ويرفض القلم المنافق .. وإذ نقف عند الابيات التي تبدأ بـ ....                                                                         
بغداد لم يعد الزمان كأمة              فِكرا تباع،وخاطرا يُستأجر
حتى نهاية هذا المقطع ومجموعها ( 11 ) احد عشر بيتا نجد الشاعر لايستنطق عصره فقط ولا يعزز دعوته للثورة فقط،وانما نجده يرسم صورة الاديب المفكر الذي ينتمي لهذا العصر وهي الصورة التي تمهد لاستشراف صورة بغداد المتحررة من العسف وذل القلم المنافق ومدعي الفكر والحاكم الجاهل ووعاظ سلطانه .. فلا يليق ببغداد ان تخضع لـ:

هزيل رأي أسمنته على الطوى              قيم بما يضوي عليه مفكر
حيث يصعر المستبد خده مزوقا بريشة الشاعر الكذوب, لايليق بها فقد سقط الاديب الاجير الذي كان " يُسّبح حاكما ويكبر " ........
وتهرأت لغة المفاخر فانطوى          ( لقب ) وأوحش لابسيه مفخر
ولا بد ان تجرد بغداد سيف فكر بديل ينسجم مع عصر الثورة،وهنا في رسم ملامح هذا الفكر وأقلام مبدعيه تتتابع الاضداد بين أفول وشروق،وهدم وبناء:
واليوم عاد وليس غير يراعــه                  سيف تراع به الطغاة وتذعر
وعلى شموخ ضميره يسمو له                  ما بين اذرع حاضنيه المنبـر
وبما تهدم من بقايا روحـــــــه                   يبني عزائم جيله ويعمــــــر
فقد اصبح الاعزل الذي لا يملك سوى يراعه سيفا يروع الطغاة ويبث الذعر فيهم !! ولنتأمل في تجاور مفردتي اليراع وتراع وجمال إستلال العلاقة المولدة بينهما في هذا البيت .. وبدلا من المنبر الذي كان يستقر بالسيوف التي تحصد النفوس صرنا امام منبر يعليه ويمنحه استقراره شموخ الضمير، وبذلك : اليراع الذي صار سيفا،والضمير الذي يسمو شامخا تكتسب بقايا الروح الاصيلة قدرة النهوض فتخرج من دائرة الهدم الى البناء ... فتبني اول ما تبنيه وتعمره(عزائم الجيل)،ولنلاحظ ان البدء بإعمار عزائم الجيل يعيدنا الى يقظة الوعي في السياسي الشاعر .. إذ لا يتصاعد العمل الثوري دون بناء العزائم وتجاوز خرائب الهزائم واكاذيب الخراب ودجاها ولذا يصبح الدخول الى مفارقة البيتين اللذين ينتهي بهما هذا المقطع غاية في السلاسة والانسجام، لنرى كيف تسند المفارقة اختها .......                                                                                 
واذا دجا ليل القنوط وأوشكت            باليأس اجفان المنى تتخــــــــدر
ألقى بوقدة روحه فإذا الدجى              مهج على اللهب المخاطر تجمر
فقد تكامل فعل التحدي الذي عبّرت عنه صورة بقايا الروح المهدمة وهي تبني وتعمر العزائم مع فعل التنوير المحرق الذي تمارسه وقدة الروح فتهزم الدجى .. ويُهزم الخدر واليأس بضجة المخاطر ولهيب المخاطر، تكامل الدعوة للثورة مع  رسم صورة العصر الذي يحتمها كما رأيناه في قسمي المقطع الذي نحن بصدده .. وهذا بدوره تكامل مع الرؤية السياسية التي ادانت مجتمع الاستغلال المستبد المدجج بالزيف،وكل ذلك يتكامل مع صورة بغداد بعد استجابتها لداعي الثورة،وهي الصورة التي يرسمها المقطع الاخير من القصيدة وهي صورة تقوم على تفاعل بين مسؤوليتي الثائر وتضحياته ومسؤولية بغداد ووفائها للباذلين لها ولغدها ! وهو تفاعل تنسجه متضادات أُخَر على تفاوت في شدة التضاد،فاذا يأزف موعد بغداد بالخلود فمع انتظار قلوب فاديها والمخلصين لها :
من كل من أعطاك غض شبابه               ومضى بذابل عمره يتعثر
وانهم لقادرون على إنجاز ذلك الموعد لأصالة فيهم ولنقاء في أرواحهم :
يبس الزمان وهم على أطرافه              عذب – بما تعدينه – مخضوضر
ولأن لبغداد سابقة الوفاء لمن اخلص لها وأسهم بمجدها كما كان شأنها والكندي إذ :
بالامس وفيت(ابن كندة) حقه                      وعلى سمائك للقطيعة عشير
فلابد من وفاء لمن حملها في القلب وجاهد من اجل فجرها الجديد وآنذاك ستزهو بسهر الوفاء واعياده :                                                    
وغدا سيلقاك ( الرضي ) ويومه                       ألق بأعياد العروبة مسفر
وبذاك يقودنا الشاعر عبر ثقته بذاك الغد الى ان نردد معه في تلويحة الختام بتلك الثقة المتفائلة :                                                                
   وبأن يومك وهو عيد مروءة                        سيعيض عن غدر الهوى ويكفر

*******

في قراءتنا لقصيدة "بغداد في عيد الادب" هذه، رأينا عديدا من مفارقات التضاد وهي تنشيء الموقف وترسم الصور المكونة له .. ولعل تتابعها في اللفظ والمعنى يشير من طرف ما الى ثقة الشاعر بهذا الاسلوب من اساليب حشد أو صوغ المعاني أو حتى لاتخاذه وسيلة للتعبير عن التحدي سلوكا.                                                         
ونزعم ان روح الشاعر المتحدية ونزوعه المتوثب وراء اختياره هذا الاسلوب،ولدينا ما يعزز زعمنا أو يرجحه في واحدة من اخريات قصائده إذ اجتمع فيها البوح عن الذات مفارقا والتعبير عنه مفارقا.                                                     
فإذا كنا في العادة نقاوم الحزن بالتشاغل عنه أو تناسيه في احسن حال، فإن الشاعر يبوح امامنا انه يستعين على الحزن باستدعاء احزان سبقتها بل وينميها معا لمواجهة فجائع غيمها ! وبدلا من ان يقود تراكم الاحزان الى الإحباط او الاستسلام،يتخذ شاعرنا ذلك التراكم درعا يواجه فجائع اخرى "لا خائفا منها ولا متصدعا" .. وذلك طبع متحد يفسر شيئا من ثبات الشاعر في مقاومته للطغيان .. ولكننا إذا تأملنا في التعبير أو الصوغ الشعري عن ذلك, نجده يقوم على مفارقة التضاد على أقصاه !......  
دعني وأحزاني أربِّ قطيعها                  برفيف وجد في الجوانح أينعا
            وأغذها بلهيف رزء لم يزل                 من كل ارزائي أحر وأوجعا
حتى إذا أسمنتهن على طوى                  ورأيت نشأ الحزن كيف ترعرعا
أسكنتهن سرائري وكسوتهن                  خواطري ومنحتهن المدمعــا
ورجوت ان ألقى بهن فجائعي                   لا خائفا منها ولا متصدعـا(1)
أرأيت كيف يربّي عبء ثقيل كالاحزان بمشاعر برقة الوجد اليانع ؟ أم تراك وقفت عند ترعرع نشأ الحزن الذي سمن على طوى !! أيا كان ما رأيت،فان مصطفى جمال الدين يبحث عن المفارقة حتى وهو يتكلم خطيبا،إذ يعمّق مكانة صديقه الذي يرثيه بأن يستحضر ما لم يعرف عنه كي يضيف لمزاياه المعروفة التي اشتهر بها ميزة اكبر،فاذا كان عبد الزهراء الحسيني صديق الشاعر الحميم قد عرف بصلابة إيمانه وصلابة عقيدته وبرفيع خلقه،فإنه يتجاوز ما عرف به فيمسك بما يعرفه هو عنه ليصفه بأنه" كان جنديا مجهولا من جنود الدفاع عن تراثنا الخالد وقيم امتنا العربية وحضارتها "ويعني بذلك جهده في الدفاع عن نهج البلاغة ورد الشبهة عنه وإثبات نسبته لصاحبه علي بن أبي طالب !(2)                                            
أما حين يرثيه شعرا فتتجاوز المتآلفات والمتضادات في بناء قصيدة تستوعب عالم المرثى وفقهه وأخلاقياته ومنجزه وأول علائم استيعابها عنوانها "الفقيدان".. وفي بيت الاستهلال نعرف ان الفقيدين المعنيين هما العراق ونبل السيد الراحل،ويتعزز الفقد حد الثكل لكنه ليس سوى افتقاد الفرات والاخلاق ! والفرات والاخلاق مما يتوافق عطاء وعذوبة،ولكن المتفارقات تكمل ملامح صورة الثكل والفقد .. الشبع والجوع .. والتزكية والاختلاس .. والكرامة والسرقة :                          
شبعنا من الضياع وجعنا                 من فتات لنا عليها إستباق
وكرامتنا نكاد نزكيهــــــا                        اختلاسا كأننا سـراق
 من ذلك نجد ان المفارقة وبالذات مفارقة التضاد مما استطابه الشاعر اسلوبا لبناء قصيدته والتعبير خلالها عن :                                      
1- احتدام في المشاعر التي ترتبط بالعناصر المتضادة.                                      
2- حشد عناصر الصراع وتفجير المعنى من خلالها.                                        
3- وعي الموضوعة التي ألهمت الشاعر قصيدته والقدرة على تجسيد محصلة الوعي 
شعرا.                                                                                             
4- حشد القصيدة بحركية تشد المتلقي على وتر العلاقات المتضادة وتداخلها.            
وبذلك قدم نموذجا لما رآه ( ميوميك ) في قصيدة المفارقة حين "تُغنّى وتُكوّن" ! ولعل اهم ما في تلك الحركية وما رأيناه وعيا للتناقضات، انها ستوفر للقصيدة ايقاعات مختلفة لا صوتية فقط وانما ايقاعات تداعي المعاني مما يشد المتلقي إليها ويشحذ يقظته في استقبال التكوينات المتضادة،مفردات ومعاني حتى لكأنه يشهد عملية صعود وهبوط أو عملية كتابة ومحو.                                                                                   
 ويعزز ما ذهبنا اليه توا" النتيجة التي انتهى اليها د . خالد سليمان في دراسته لتجربة الشاعر محمود درويش في بناء قصيدة المفارقة، إذ يقول ان توظيفه للمفارقة قد نجح "في كشف جوانب مهمة في وعي درويش"وان المفارقة في قصائده "تقوم بكشف التضاد والتناقض بين ما هو حقيقة وبين ما هو مظهر في رحلة عذاب طويلة "(3)،بل انه رآها في منجز درويش الشعري ليست مجرد وسيلة بلاغية أو جمالية "وإنما هي الى جانب ذلك وسيلة فلسفية تفضح لتكشف وتضيء، وتهدم لتبني،وتضحك لتبكي،وتهمس لتصرخ، وتتشكك لتتأكد وتؤكد" (4).                      
وهو ما رأيناه في قصيدة "بغداد في عيد الادب" بشكل خاص اذ حفلت بكل تلك الفعاليات المتضادة وصولا لفكرة جديدة مضمونها قراءة تاريخ بغداد قراءة جديدة ودعوتها للانتصار لقيم بديلة.
ونضيف لكل ذلك سببا يتعلق بشخص السيد الشاعر مصطفى جمال الدين وهو تعدد مواهبه فان بنية المفارقة مهاد مناسب لاستيعاب تعدد الرؤى والصور المرتبطة بتعدد المواهب واحتشاد صاحبها بها .. وليس صدفة ان الشعراء الذين اعتمدوا المفارقة كانوا ممن تعددت مواهبهم كمحمود درويش الشاعر المَقالي ، ومعين بسيسو الشاعر المَقالي المقاتل والصحفي .. ولعل غلبة هذه البُنية على واحدة من قصائد الشاعر بالغة الاهمية يؤكد إنسجام هذه البُنية مع شدة الاحتشاد بالمعاني والافكار وقوة الصراع .
وتبقى هذه المحاولة مفتوحة على الاستفادة من نتائج دراسة مصطفى جمال الدين في مواهبه ومنجزاته الفكرية والسياسية لتفسر ما اغفلناه من دوافع توظيفه لهذه البُنية على مستوى قصيدة بأكملها بما يكاد يكون بيتا .. بيتا .

ناحية المشروع   3 – 6 / 12 / 2003

(1 , 2 ) : كلمة د . مصطفى جمال الدين في رثاء صديقه الفقيه الباحث السيد عبد الزهراء الحسيني ، مجلة "الموسم" – العدد 20/1994 ص 275 – 276 .
(3 و 4 ) : د . خالد سليمان  المفارقة والادب (دراسة.. النظرية والتطبيق) دار الشروق -عمان - 1999 ......              


* الراحل مصطفى جمال الدين من أكبر شعراء القصيدة العمودية في العراق، ومن المجددين فيها، غير ان موقفه المعارض لنظام الرئيس السابق صدام حسين جعل اعماله ممنوعة وذكره كذلك داخل البلاد، ومن هنا جاء المؤتمر الأدبي الاستذكاري الذي أقامته جامعة الكوفة مركز دراسات الكوفة بتاريخ15/12/2003.
مركز دراسات الكوفة بادر إلى نشر وقائع المؤتمر في كتاب ضم الكلمات والقصائد التي ألقيت فيه، فضلا عن البحوث والدراسات وهي: "النجف في ذاكرة السيد مصطفى جمال الدين" للدكتور حسن الحكيم، و"قراءة لغوية في شعر مصطفى جمال الدين" للدكتور نعمة رحيم العزاوي، و"الإبداع العلمي في أطروحتي السيد مصطفى جمال الدين"و "مصطفى جمال الدين أصوليا" للدكتور صاحب حسين نصار، و"الجديد في الدرس النحوي عند مصطفى جمال الدين" للدكتور عبد الكاظم الياسري، و"صياغة الصورة الحسية ودلالاتها في قصيدة بغداد" للدكتور صباح عباس عنوز، و"تأملات في توظيف المفارقة عند مصطفى جمال الدين" لقاسم عبد الأمير عجام، و"مصطفى جمال الدين عروضيا" لعبد المنعم القريشي ، و"المكان في شعر مصطفى جمال الدين"لباقر الكرباسي.    

 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM