حزنا على حلم .... صريع

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM


وفجأة ينقطع السرد الصوري او يُقطع ليفرض عليك سياقا غيره ما جلست امام الشاشة الصغيرة لمتابعته ولا راجعت مواعيدك بانتظاره وقد يكون القطع في لحظة انسجامك وما كنت تتابع بل لا بد من أن يأتي القطع في تلك اللحظة انصياعا لمنطق الحرفة وتسويقها فقد كان الاعلان التجاري هو الذي يقطع عليك مشاهدتك.
قاسم عبد الامير عجام

وتتساءل لماذا تزعقون وانتم تُعلنون؟ واين ولماذا تستدير ألسنة المعلنات من النساء، فإذا الكلمات ملتوية المخارج او ممدودة بنشاز لاتفلته الأذن بل يبلغ الالتواء ان يخرج فعل الامر من سكونه الازلي الى "نصب" قسري كما تفعل احدى المعلنات مع الفعل " احجز "!! وتتوالى مفردات الاعلان زعيقا وصورا لاتغري بقدر ما تحفز التعليق على ما فيها من بدائية اين منها فنون الاعلان وما تتطلبه من مغريات !! ويتوالى الزعيق ليعيدك متساءلا : ترى هل يثق منتجو اعلانات بدائية كهذه بقدرتها على ان توهم احدا، ودع عنك اقناعه بما في تلك البضاعة من جاذبية؟! وتقول هي تجارة ! وليكن ... لكنه استعجال للثراء وتلقف لكسب سهل اكثر منه تجارة على اصولها ! قل هي تجارة من نوع خاص ... وان كنت غير مهتم بتجارة انت عاجز عن دينها ودنياها، فانت في غاية الاهتمام بما لا بد من ان تنطوي عليه مادة تعرض في منبر الاعلام الاشد تأثيرا من لغة فنية ومغزى تربوي وانت حريص على ان يتشدد التلفاز حتى في شروط الاعلان الذي يفسح له من وقته، وحيز مساحة تأثيره متطلبا فيها حدا معقولا من فن التصوير ومثله في الاخراج بل وانت تتمنى على التلفاز ان يشترط في الاعلان اسهاما في ترويج بضاعة وطنية او سلعة نافعة، غير انك لا تملك إلا الأسف حين لا تجد غير التساهل في الحالين حتى ليختلط الاعلان عن مسرحية"تجارية" باعلان عن مكتب للدلالية أو باعلان عن احذية وبالاصوات نفسها، وبالاصوات ذاتها يعلن عن حفلات "غنائية" مما بلغه غناء اليوم من مرحلة الكاغد المتهريء بل ان موجة هذا الغناء تؤطر كل ذلك اللهاث وراء ارباح متصاعدة، فبين اعلان واعلان "اغنية" بالقمصان المزركشة في جو غرائبي من تناوب الصورة وظلها السالب بل ويتولى بعض تلك الاغاني في الترويج لاطارات جديدة ومستعملة، او تدعونا الى استهلاك الصاص على موائد خاوية يفقدها حصار الزمن الاميركي الرديء كل يوم مما يحتمل الصاص وما أشبه، ولكن أنّى لأهل التجارة ان يتذكروا الحصار وهم يدقون طبول الدعوة الى قاصات ضخام وخزائن اموال لا تعصي لهم امرا ! ودع عنك ( تفلسفك ) في البحث عن تفسير لعلاقة تجميع الاموال بوداعة الدلافين ومرحها مادمت تجد صلة معقولة بين دهاليز الاموال وملك الغابة ! او بين ترويج القاصات ومطاعم تشوي السمك على جمر اسعاره الذي فرت من لظاه بيوت اكثر مشاهدي تلك الاعلانات" السوريالية" مكتفية من الغنيمة بالفرجة واسترجاع دخان تعطرت بشذاه موائدهم وشواطيء دجلتهم ذات يوم مضى.
وترى وقد غشيت سحب الجو الغرائبي ان تترك السباق كله لمن يجدون فيه ما يهمهم وان من الخير ان تدع الزعيق عن جندي كوني وفرص للقتل واخرى لاقتناء تحف من سجاد او خزف وهي فرص ليست لك قطعا لعل قناة تلفازك الاخرى تسرد عليك ما يهمك من فن، غير انك لا تلبث ان تحاط بدخان المطاعم ايّاها او ان (تدعى) الى مكتب دلّال يتاجر بالاراضي في هذه المحافظة او تلك !! فلا تملك هذه المرة غير الانتباه لما كنت قد سهوت عنه او لم تتوقف عنده بانتظار العودة الى ما كنت فيه من متابعة، فعلى تلك القناة او هذه لم تكن الدعوة الى مكاتب الدلالين ولا حرائق الجندي الكوني او تراقص الممثلين على مسارح العاصمة ولا غناء القلوب الكواغد إلا من نتاج شركات يقال لها شركات لإنتاج الفنون السمعبصرية !!!
 وانها لا تجد غضاضة في ان تُمهر تلك الاعلانات الزاعقة او اشرطة غناء "مايع والهوة يتجِّيله" باسمائها ورموزها ! وانك لو تابعت الاعلانات وهي تترى لرأيت اسماء جديدة من تلك الشركات حتى ليحلو لك ان تتساءل هذه المرة من فرّخ من؟ هل الشركات فرّخت هذه الاعلانات والاشرطة او ان المعلنين ولّدوا الشركات لترويج سلعهم فألبسوها ثوب الفن قسرا؟ ومرة اخرى دع عنك ما قد يؤخذ عليك انه ( حسد عيشة ) وقل ان كلا منهما نفح في الآخر من روحه وتطلعاته، ودَعْهما وتطلعاتهما وتوقف عند ما كان وما يزال من همومك القديمة واهتمامك المقيم / فنون للعين وفنون للأذن  فيها للعقل والقلب زاد وحصة ! وما احوجنا الى المزيد من الفن السيمي والتلفازي وما اشدنا حاجة الى فن مسموع ترتاح له الأذن وتطمئن له القلوب والنفوس !!!
 اجل ما احوجنا ! فلقد مضى الوقت بنا طويلا وليس سوى التلفاز والاذاعة منتجا تلك الفنون حتى اذا ازدادت الحاجة الى الكم والكيف تبلورت فكرة تأسيس شركات للانتاج الفني فكانت شركة ( بابل ) رائدة هذا المجال حيث صنعت لنا اكثر من عمل فني درامي ناجح: "الذئب وعيون المدينة"، "النسر وعيون المدينة"، "حكايات الايام العصيبة"  وسهرات درامية اخرى، وربما لمصاعب او مشكلات لانعرفها تبدو الشركة وكأنها تراوح او لم تحقق الكثير من الطموح، حتى اذا أُسست شركات اخرى:  الحضر، سومر، الشمس ... الخ املنا ان تكون المنافسة مصدرا لمزيد من نتاج أجود، غير ان ريح تلك الشركات جاءت بما لم تشته سفن الجمهور، فقد انغمست بنتاج تلك الاعلانات الزاعقة وكأنها وُجدت من اجل ذلك ولا شيء غيره !!! ولكن لا فقد راحت تتنافس في ترويج او تسويق أغان مصورة فيها من غرابة التصوير وتكلف الاخراج ما لا يوازيه إلا غرابة الكلمات وفقر المعاني !! ويبدو ان الشركات قد وجدت في ذلك من الارباح ما جعلها في حمّى لاصطناع العديد من الاسماء والاغاني حتى اصبح لدينا طابور لاينتهي من ( المغنين ) دونما فوز باغنية تستطيع البقاء في ذاكرة جمهور الاغاني الهادفة حتى لو تفجرت مدوية اول الامر, إذ ليس لها من سند من معنى عميق  او صور يشتملها نص غنائي مثلما ليس لها من دنيا اللحن والانغام إلا ضجة الآلات الموسيقية سواء تطلبتها معانيها ام لم تتطلبه, فقد صرنا ( بفضل هذه الاغاني ) نسمع الطبلة الراقصة ( تحدو ) الحزن بينما يسكت الناي! وفي تلك الضجة نتذكر الكثير من طرائق الندب النسوي خاصة تلك التي تختم بها النسوة النادبات دورة اللطم !!
اجل فهذا الذي تزخه علينا عدسات هذه الشركات ( لطم ) مكشوف حتى وان زوقته بعشرات من الوان قمصان ( النادبين ) الشباب !! غير انه يذكرنا كم كنا صارمين وطموحين حين حاسبنا غناء السبعينيات والثمانينيات برغم كل ما كان له من انجازات وطموحات !!
ونتذكر، لنعود الى شركاتنا هذه نسألها ببراءة وجزع عن حال الكلمة واللحن، نسألها ان كانت تصدِّق فعلا ان ما تنتجه من صور متراقصة بالكومبيوتر لشباب زاعق او نائح،  هو بعض الفن الذي أُسست من اجله؟
ونسألها إن كان استعراض قمصان المغني وبدلاته والقفز على الصخور او الاختفاء وراءها ثم الظهور في مقهى او حديقة هو الضربة الاخراجية التي جاءت بها ام تراها ترقيص ظل الصورة السالب بقدرة الاجهزة الاليكترونية؟!!
لتعذرنا هذه الشركات فقد كانت احلامنا مع انبثاقها اكبر من اسمائها، لقد حلمنا بتجديد فني درامي خاصة، سيتحقق على يديها، وحلمنا بانها الوسيلة المناسبة والبيت الدافيء، لاحتضان الطاقات الفنية المؤهلة ولاسيما الممثلين الشباب واستيعابهم في اعمال درامية، بما يحررهم من وظائف تقليدية لا علاقة لها بما درسوه وبما يحررهم من علاقات القوالب التي تستهلك الوجوه ذاتها في الادوار ذاتها، وزيّن لنا حلمنا ان ننتظر من شركات الفن ان تُغني شاشتنا المنزلية بفن درامي يستلهم الكثير مما لدينا من ثروة في القص والتاريخ واشتط بنا التفاؤل الى حد الامل ان تقدم هذه الشركات او بعضها او احداها في الاقل على انتاج برامج للمنوعات الراقية التي لا تقوم على تجميع اغنيات من هنا ورقصات من هناك، فقلنا ماذا لو انتجت شركة منها حلقات حوار يقوم على سيناريو مدروس توثق فيها لأعلام الفن والثقافة عندنا وتغني بها الشاشات العربية بدلا من ان نستورد منها مثل تلك الحوارات او البرامج، وحلمنا، وحلمنا غير ان الحلم سقط صريعا باللطمة الاعلانية وسقط حتى قبل ان يفقه ماذا حدث، فصار خيبة تنظر بأسى الى هذا الاستفزاز المؤلم لاولادنا الذين اقسموا واقسمنا معهم على الاكتفاء بما لديهم من ملابس وعلى مقاطعة الاجنبي المستورد، فاذا بنا وقد ثار بحر تلك الاعلانات والاغنيات امام عروض يومية لآخر الازياء والالوان على اجساد لايناسبها ما ترتديه لكنها تزهو بغلاء ثمنه، وما تعاهدنا عليه في شوط الصبر من تقشف وجَلَدْ على الحصار، نكثت به صور الاعلان عن قماش او مطاعم او نواد وقاعات تروج لذلك الزعيق باهض الثمن !! وكل اولئك ممهور باسم هذه الشركة او تلك من شركات ( الفنون ) السمعبصرية !! وما دامت بعضها قد توجهت نحو فتح فروع لها في المحافظات لتسويق حفلات واعلانات وتصنيع مغنين، فلم يعد لنا إلا ان نقيم نحن مأتما صغيرا على حلم كان لنا بهذه الشركات ذات يوم !!! ولعل احداها تقيمه لنا من ضمن تعهداتها ... او فلنحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه .


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM