رأفت الهجّان.... الحضور من خلال الغربة

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM



 مثلما لاينقذ حشد النجوم الفنية اللامعة عملا يفتقر الى الحياة بافتقاره للفن كما قلنا في مقال سابق، لايشفع موضوع يتعلق بالوطن والنضال لعمل فني ان يمضي الى ضمير الناس وعقولهم مالم يتغنى بتلك الحياة الثرة، حياة النسغ الفني المبثوث في اوصاله، المتألق في حلوله وايحاءاته، بل لعل عملا كهذا لايمكنه مجرد الادعاء بشرف مقاصده مالم يكتنز بعناصر ذلك النسغ وقوة ذلك الابهار ... ودونكم مارأيناه في مسلسل "رأفت الهجّان" الذي انتهى عرضه مساء 27/10/1988 لنرى معا عناق المضمون النبيل بالشكل الجميل في تكامل حميم قادر على صنع وقت حاشد بمسرة راقية يحتشد خلالها العقل باليقظة والتأمل والعواطف بالتحفز والتدفق وتلك هي طريق الفن للتأثير!!     نعم، ليست القصة وما فيها من اريحية الصبر على المرارة من اجل الوطن هي كل ما جمع الناس الى هذا المسلسل، وليست مجموعة الفنانين التي جسدت وقائعها هي نقاط الجذب، وما كان يمكنها إلا ان تكون مجموعة في واجب تقوم به لو لم تكن تلك القصة قد وجدت من عناصر البناء واسلوب الكشف عن تلك العناصر ما ينفخ في ابطالها مجد الروح وبهاء الحياة وهو ما نتطلع اليه ونحلم به لأعمالنا ولانكف عن تأكيد الثقة بأننا نستطيع ان نفعله ولكننا نتجاهل او نتغافل عن مستلزمات ذلك فنترك ومضاتنا المتألقة مجرد ذكريات طيبة في شوط التكرار والاعتيادي في برد الليل الفني.
ففي قصة وسيناريو صالح مرسي وجدت شخصيات المسلسل من الافكار والحوار ومسارات الحركة ما يمنحها الثقة بأن تتقدم الى ما تريد، قادرة على الفعل وعلى الاستعداد لمجابهة رد الفعل لدى الخصم مما يجعلها شخصيات مفعمة بحيوية تضيف لعناصر الصراع بينها عناصر صراع داخل ذواتها، فتضيف لقدرتها على الاجتذاب او الطرد قدرات العمل كله على تكوين جو عام ينتمي اليه ويسهم في تكوين شخصيته الفنية خاصة اذا احسن المخرج، ولقد احسن يحيى العلمي ذلك حقا، استكمال ذلك بمفردات لغة فنية بليغة منحت المسلسل شخصية متميزة تنطق بها مفردات الموسيقى وقطع الديكور، وتؤكدها زوايا اللقطات وحجومها، وتكملها وتؤكد عليها حزم الضوء المتفاوتة المتناغمة بين النور والظل والعتمة، مشهدا بعد مشهد لافي مشهد دون آخر، بما جعل الاخراج كتابة اخرى للعمل الفني دون ان تنقض منطقه القائم على بناء شخصيات تنتمي الى الاسباب انتماءها الى النتائج، وهو المنطق الذي شمل جميع مكونات المسلسل واطراف قضيته افرادا او مؤسسات !! لا تسكع ولا حشر ولا افتعال لكلام او مواقف ( يجود ) بها مزاج الكاتب او المخرج ... فالكل محكوم بقضيته ! وتلك نافذة المصداقية التي بقيت مفتوحة لنا على هذا العمل الجميل حتى حلقته الاخيرة، فتلك هي قضيته بالأساس، إذ ليس الدفاع عن الوطن إلا ان يكون صادقا وليس له كي يترجم ذلك الصدق إلا ان يقتحم ويبدع ........... وما احوجنا لاعمال فنية تملأ حياتنا بالمبدعين التحاما، بالمضحين صبرا، بالباذلين صمتا وتواريا  !!!
ولقد اقتحم فتية المخابرات المصرية شبكات الصهيونية الغارقة بدخان اللؤم وزيف الدعوة واعوجاج المنطق ( وكل اولئك كان لهم معادلهم الفني بالسيناريو والانارة والديكور ولغة الكاميرا وتجسيد التمثيل ) بكثير من الابداع كان لا بد ان يعوض قليل خبرتهم ولين عودهم، فالقضية هي مصر الجميلة الغالية التي تستحق كوطن، كل تضحية، كما قال محسن ممتاز ( يوسف شعبان ) لبطله الجميل رأفت الهجّان ( محمود عبد العزيز) ويكفيها ذلك، الكشف عن قضية المنظمات الصهيونية التي جعلت اسرائيل قضيتها، فشرعت لها باطل القتل ولؤم الجريمة وخبث النفاق وهي عناصر ما كانت لتظهر لو سقط المؤلف، او حتى المخرج بدائرة الوهم الذي يرى النصر على العدو بهجائه وشتمه وتشويه صورته فحسب ! بل ادار ظهره بعزم لإرث كامل من الاوهام وكشف بالقول والعمل عن جدية العناصر الصهيونية وخطورة تنظيمها وخطورة سلوكها اليومي والتنظيمي على السواء بل وعن قدرتها على الفعل، مما اعطى لقوة الاقتحام الوطني حجمها الحقيقي وبرر ببلاغة، حاجة ضابط غيور مبدع كمحسن ممتاز لأن يتعامل مع اقتحامي غير تقليدي وحاجته لأن يشحذ احساسه بالخطر المحدق من حوله ليختبر من يريده للاقتحام بألف معيار ومعيار حتى كان رأفت الهجّان !!!
على ان اهم ما في تلك القدرة على الفرز في اختبارات المخابرات المصرية كجهاز وليد من اجهزة ثورة وطنية، وعيها ممثلا بمحسن ممتاز بحقيقة مكونات الشخصية التي تنذر نفسها للقضية، وتلك ايضا ابرز دروس هذا المسلسل الاجتماعية فإن رأفت الهجّان لم يكن أفّاقا مدمنا على الجريمة برغم كل اوراق سجلاته لدى مراكز الشرطة وبرغم كل معاناته من خيبة خططه الحالمة بمكان اكثر شرفا واكثر بهاء، ولو انتصر المنطق البوليسي الذي مثله صهره الصاغ فتحي ( صبري عبد المنعم ) لما كان رأفت إلا رقما في جيش المنحرفين الذي تحشده الانظمة الاجتماعية المتخلفة، وهكذا كان الكشف عن ماضي رأفت مرتكزا أساسيا لفهم تضحيته وعمق صبره لأنه بالأساس حالم كبير طفح كأسه بحنظل الظلم العائلي والاجتماعي ... لدى اهل البلد ولدى المستعمر،  فكان نجاحا بليغا للمسلسل، التأكيد على تعلقه بشقيقته شريفة (عفاف شعيب ) بذلك الشكل، وبالعودة الى تلك العلاقة كلما ادلهمت به ليالي الشوط ولحظات الاختبار والحسم فتلك العلاقة خلاصة حلمه بالأمان واستعداده للعطاء ايضا، وكان بليغا من الناحية الفنية حضور الاسترجاعات في ذهن رأفت، إذ لا تحتشد ذاكرة كذلك الاحتشاد إلا اذا كانت لحالم وصادق وجريء، قوله وفعله جماع شخصيته ... نقول ذلك رغم ملاحظتنا تكرار بعض الاسترجاعات دونما مبرر، او افتعال احدها دون صبر على صنعه فنيا، كاسترجاعه لما حدث له في لندن مع صاحبي الصكوك ثم مصادفة لقائهما به في القاهرة بعد ذلك الاسترجاع مباشرة.
     ومثلما قدم المسلسل درسه في الثقة بأبناء البلاد رغم كل عثراتهم اذا احسنت دراسة ظروفهم، قدم درسه في انسانية منظماته الجهادية المتميزة من خلال احتضان المخابرات المصرية لأرملة رأفت الهجّان لحظة علمها برحيله، فكان ذلك الفيض الدافيء من المبادرات اليقظة التي كانت ذروتها حرص عزيز الجبالي (محمد وفيق) كضابط المخابرات الذي عمل مع الهجّان على ان يكون عند جثمانه في غربته ينثر على روحه صلاة ومحبة الوطن الذي اغترب من اجل نصره ونهوضه، وكان للجو الذي اتقن المخرج تشكيله كما قلنا، أثره الباهر في تعميق ذلك الدرس وايصال معانيه بطريقة جعلت من مشهد واحد ظهر فيه الفنان محمد الدفراوي كمدير للمخابرات المصرية كاف لإبقاء حضوره حتى نهاية المسلسل بالوقار والحنان معا، وكان لذلك الجو الزاخر بفضل الممثلين وفناني الموسيقى والديكور والانارة وادارة المخرج، دوره في تجسيد محنة ارملة الهجّان وصدقها وتقلبها بين اغرب العواطف وغرائب الحقائق والانفعالات وهو ما نجحت ( يسرا ) في تجسيده على محدودية دورها كحيز فني، نجاح محمد وفيق في دوره المترع بالحنان في لحظته تلك.
     ولعلنا لا نغالي ابدا اذا قلنا ان لهذا المسلسل ميزة الآثار العميقة لأدوار محدودة المساحة لما توفر لتلك الادوار من صدق البناء في الشخصية وقوة حوارها ووعي موقعها الفكري كدور الصهيوني شارلي سمحون الذي أداه بحضور مدهش الدكتور حسن عبد الحميد الذي نراه لأول مرة كما أظن، ومثله دور الخواجة صروف الذي نهض بتجسيده نبيل الدسوقي تعبيرا ونطقا وحركة والاهم من ذلك انهما كل في موقعه الفني، كانا يشيران بفعالية الى حجم الخطر الكامن في نعومة الافعى الصهيونية بتصعيد وتكثيف لحركتها المثابرة التي اقتسم تصويرها افراد المنظمات العاملة التي عبر عنها سوسو ليفي ( نبيل بدر ) وافرايم ( شوقي شامخ ) وسارة ( تيسير فهمي) في واحد من تلك الادوار العميقة ، وعزرا ( عادل امين ) رمز الشك الصهيوني المقيم ! مثلما لخصت شريفة ( عفاف شعيب ) ثقة الوطن بإبنه الحالم.
     وذلك في الواقع درس فني يضاف للدروس الاجتماعية والوطنية إذ يمكن لأعمق القضايا حتى لو كانت قضية اختراق صفوف العدو سرا، ان تتبدى في ادوار محدودة اذا احسن ربطها بالمسار العام واذا احسن التعبيرعن  مدلولاتها بحوار مكتنز بالمعنى والايماء.
     ثم ما اكثر ما بقي امامنا ان نقوله بوحي من هذا المسلسل في جزئه الاول ولكن ما اشد الحاجة الى تحجيم القول : فلنتطلع الى قول آخر مع اجزائه القادمة ولكن ليس قبل تأكيد اعتزازنا بأداء يوسف شعبان ومحمود عبد العزيز وبتأثيرهما وتأثير قيادة المخرج يحيى العلمي لفريق هذا العمل قيادة ذكية لفريق مبدع صنع لنا مشاهد لن تنسى، وإلا هل ننسى مشهد رحيل الهجّان وانضمام صاحبه وراشده محسن ممتاز الى المودعين؟! وهل تتسع السطور لتأمل ما تحتشد به لحظات ذلك الوداع ونفوس المودعين؟! ونفسَيْ طرفيه الاساسيين بالذات؟! فقد اسلم الصائغ الماهر جوهرته الى المجهول وأسلمت الجوهرة نفسها الى بحار الصبر والغربة في زوارق التضحية ومجد الوطن ... فأية مشاعر وأية سطور لها تتسع؟!!!
* المقال يتناول الجزء الاول من المسلسل الدرامي الشهير والذي انتهى تلفزيون بغداد من عرضه في تشرين الاول 1988.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM