فيلم على من نطلق الرصاص تحرير نجوم السينما من عار التفاهة والكسب الرخيص

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM


حين يتاح للأعمال الفنية الجادة ان تدين جانبا من جوانب الفكر والتطبيق البورجوازية، فانها تكشف وتدين جملة جوانب اخرى خلال توجهها نحو هدفها الرئيسي، ذلك لأنها كل متكامل.
وفيلم "على من نطلق الرصاص" الذي تشاهده بغداد منذ شهر تقريبا*، مع وضوح القصد فيه وهو تعرية وإدانة البورجوازية البيروقراطية وكشف علاقاتها ودورها بهزائم حركة التحرر في مصر، فإنه كعمل فني يمارس كشفا آخر لا يقل خطورة عما يتوجه اليه كهدف رئيسي وهو كشف لن يتاح إلا باشتراك المتفرج مع الفيلم كله ككيان فني متماسك فكرة واسلوبا وتمثيلا ومحصلة، في تأمله لموقع طوفان السينما التجاري، فبهذه المشاركة سيجد المتفرج ان الفيلم ليس ادانة للبيروقراطية على الصعيد السياسي والاجتماعي فقط وانما ادانة لبعض جرائم السينما البورجوازية التي خدمت تلك البيروقراطية دائما، واشدها بشاعة ... اعني استهلاك الفنانين في التوافه، وابتذالهم في الاعمال الهابطة ولا سيما الممثلين، فليس من شك ان السينما المصرية تحفل بأكبر الطاقات قدرة على الاداء المعبر، ولكن ما أقل الاعمال التي ستخلد تلك الطاقات او بعضها !! وما أشد الحزن الذي يثيره مشهد فنان متمكن وهو يتمرغ في وحول التفاهة والتهريج والتضليل، مخلبا في كف الاستغلال البورجوازي!

قاسم عبد الامير عجام في اوائل سبعينيات القرن الماضي

     كان هذا رأيي كلما شاهدت فيلما مصريا تجاريا، وكان يتعزز كلما التقينا بمحاولة جادة وفيلم جديد حيث تجد ان اولئك الممثلين الذين صدعوا رأسك بالتهريج يعودون خلقا جديدا كأنهم يكفِّرون بأدوارهم النظيفة هذه عن سيئات الضحالة ( وما أشد حاجتهم للتكفير حقا ... فهم مسؤولون قطعا والكبار منهم بشكل خاص ) – كان هذا شأن محمود المليجي في "الارض" ومحمود ياسين في "ظلال في الجانب الآخر" على سبيل المثال.
و "على من نطلق الرصاص"، حياة جديدة لاكثر نجوم السينما العربية شهرة .. سعاد حسني ومحمود ياسين ... وتأكيد على النجاح الذي سبق لعزت العلايلي أن ناله في افلام جادة سابقة كـ " الارض، الاختيار وزائر الفجر"، فهنا نلتقي بممثلين ينقلونك الى اجواء تبعث اليقظة في اذهان تعودت منهم ان يقودونها الى الاسترخاء والخدر، فتشعر وهم يترجمون ردود الافعال الى مواقف بأحاسيس محددة وإنعكاسات متميزة، انهم الآن يزِنون الحركات والكلمات بميزان جديد، وإنه لدقته يمنحهم ويمنحنا تكوينات أجمل وسبائكا أكثر نقاء.
    ولو عدت متأملا لما ترى من خلق جديد يعوده هؤلاء الممثلون، فستجد ان الحقيقة وراء ذلك، وان الصدق الفني ووضوح وتقدمية الفكر هو النبع الذي يرفدهم في أدائهم ذاك ... كأن الحقيقة هنا تحررهم من اغلالهم، كأن الفن هنا يطهرهم مما علّقه فيهم سوق التجارة في الفن, ذلك لأن المواقف الكبيرة هي المؤهلة وحدها للكشف عن القدرات الكبيرة، وقضية خطيرة ومعقدة سياسيا واجتماعيا كالقضية التي يعالجها " على من نطلق الرصاص" هي المؤهلة لاختيار ممثل يجسد بعض ملابساتها، وكشف قدراته على استيعاب الدور ثم اعادة تلوين وتوزيع تلك القدرات على دقائقه وزواياه بحيث يبث الحياة في القضية حيثما كانت له مساهمة فيها، وهذا ما انجزته هنا سعاد حسني بتألق ليتها تحتفظ به أبدا ... وما فعله محمود ياسين بما يمنحه شهادة الكفاءة، وما قدماه معا كان يتكامل مع انجازات الممثلين الذين تعودنا منهم الجدية كعلي الشريف ( رزق ) وعزت العلايلي ( ممثل النيابة ) واحمد توفيق  ( قاسم ).
    ولم يكن تقدم الفكر باعثا لحياة جديدة لممثلين تستهلكهم السينما التجارية فقط، وانما كان موحيا وملهما لمواهب جديدة، ان تجيد وهي تمثل لأول مرة كفردوس عبد الحميد ( زوجة مصطفى )...وتلك شهادة على ان تقدم الفن ورسوخ جذوره الحرفية، سبيله الفكر التقدمي فقط، وميدانه التزام الحقيقة والانسان ... وبغير ذلك الدجل والاسفاف واستهلاك المواهب كسجائر تنفث السم وتنطفيء في النفايات، غير ان ذلك التمثيل المتألق لا يستند الى نبل الفكر الذي جسده فقط وانما الى وعي المخرج الذي اداره وسلّط الاضواء على دقائقه ومنعطفاته الحساسة, ولذا يطرح الفيلم قضية تكامل العناصر الفنية وإغتنائها ببعضها ... فاذا كان الفيلم حياة جديدة لسعاد ولمحمود فهو الصعود قفزا بالنسبة لمخرجه كمال الشيخ.
    في المشهد الافتتاحي حيث تحتشد في صدر مصطفى حسين ( محمود ياسين ) كوامن الحقد وبواعث الانتقام والحماس للخلاص وتوجس المغامر وارتباكه واندفاعه معا ... كان لا بد له من وعي بكل عوامله تلك من لدن المخرج والممثل ليأتي كما شهدناه، فكانت الكاميرا تتابع مصطفى من الوراء، اشارة الى اندفاعه وسط محيط صاخب من الضجيج والاضطراب لا تتضح فيه ملامح ولا تتحدد فيه قسمات إلا بقدر محدود يخدم الفكرة، وهكذا كانت العمارات الباذخة ابرز ما في المشهد اضافة الى خطوات وحركات يدي الممثل ! حتى اذا التقينا وجهه قدمه لنا المخرج من خلال عينيه، الترقب والاحتقان بالحقد ونفاد الصبر، وكان محمود ياسين موفقا في التحكم بأصغر رعشة يحتمل ان تظهر على شفاه وجبين مغامر يتوجه لقتل مثير ... وبكل رمشة عين يحركها قلق ذلك المغامر وبواعثه، وكان التوفيق يحالفه في كل دوره وتقلباته، ولعل ذلك المزيج الصعب المتكون من كتمانه لحبه لتهاني ( سعاد حسني ) وهي خطيبة صديقه العزيز، وشروحاته الناقدة للاوهام التي تعيش عليها، ومرافقته لصديقه وخطيبته في جولة بريئة ( عائلية ) بكل ما تضمنته من تنقلات في الحركات  والافكار والاحاديث ... لعله المزيج الذي يكشف عن قدرات الممثل في التحكم بنسب العناصر المضافة ولحظة اضافتها ... فقد ترك للمشاهد ايحاء ما بانه يحب هذه التي ينتقدها ويحب خطيبها، ولكنه ذو اخلاقية وجدية تضعه في موقف شديد الخصوصية، اللقطة السريعة لمصطفى في مظاهرات القرارات الاشتراكية في الحرم الجامعي، تبرر – لما انطوت عليه من اختزان بالجدية والتوثب والثقة بالنفس – ذلك الصراع المكتوم الذي ظهر عليه في تلك الجولة على كورنيش النيل، وكان ذلك ممكنا بدون استيعاب لكامل الدور، وبدون ذلك الاستيعاب ما كان لسعاد حسني ان توزع قدراتها تلك الدقة على منعطفات دورها فنحن نلتقيها لأول مرة وهي تهرع الى المستشفى وراء نبأ اغتيال زوجها في مكتبه، ولكننا لا نرى فيها فجيعة الزوجة المخلصة بالزوج الحبيب، ولا انكسار او تشتت الارادة تحت مطرقة الهول وسندان الترمل، وإنما نرى حيرة من نوع آخر غير مفهوم، وقلقا يتلون بألوان الأسى، والترقب واحيانا الاختناق ... وكل ذلك في إطار من التماسك المشروخ وقدرة على التأمل! يكمل هذه الصورة التي رسمتها الممثلة لشخصية تهاني لمسات المخرج حيث ابرز الاناقة والانسجام في هيئتها بما يتفق مع موقعها الطبقي اكثر مما يتفق مع احساسها بالموقف ! ولكننا لا نقدِّر للممثلة اتقانها لرسم تلك الملامح إلا بعد ان نعرف انها زوجة لمن لا تحب بل وحتى لمن كان سببا في تحطيم احلامها الوردية بشكل أو بآخر ... ولو لم تتقن سعاد حسني اداء هذا المشهد التمهيدي بالنسبة لدورها، لما اكتملت عناصر الاقناع والصدق في بحثها عن الحقيقة ثم تمردها على واقعها وانتقامها لخطيبها الشهيد, ولكن الممثلة التي تمكنت من تجسيد المشهد الذي التقيناها به و سامي عبد الرؤوف خطيبها عند مدير الامور المالية في الشركة التي كانا يعملان بها، جديرة بتجسيد ذلك المشهد البليغ.
    فحين أديرت التهمة نحو سامي عبد الرؤوف خطيبها كانت ما تزال سكرتيرة للمدير العام للشركة الذي ستصبح زوجة له فيما بعد ... ومن موقعها سكرتيرة للمدير العام تحركت نحو مكتب مدير الشركة الاداري والمالي لتستفهم منه الموضوع الخطير ولكنه يواجهها وخطيبها بأن الموضوع محال للنيابة وخلاص !! كان على الممثلة هنا ان تجسد ثقة سكرتيرة مدير عام الشركة وقد فعلت حين بدأت حوارها مع مدير الامور الادارية ومن قبل وهي تخطو بثقة من مكتبها اليه، وان تجسد اولى علائم الاحساس بالخطر وهي تحاول الرد عليه، ثم تنتقل الى عدم التصديق ثم الرفض القاطع واخيرا السقوط في محنة الحيرة وبين فكي الوحش !! وقد تنقلت بين تلك الاحاسيس بما يجعلني اكتب عنها وهي امامي واضحة.
     هل اتوقف عند مشهد تجوالها مع خطيبها وصديقها مصطفى !! ياله من رائع !! أم عند دورها وهي تعود الى زوجها وقد اكتشفت حقيقته، وهو أروع؟؟ كل المشاهد تستحق التوقف، فكل الفيلم يستحق التأمل والاعجاب ولكنني فقط اكتب لوحي منه مسرورا، بالحياة التي عادت لفنانين كبيرين ولما تؤكده بذلك من اقتران الرسوخ الفني بالفكر التقدمي فقط ومما يوفره للمشاهد من المتعة الذهنية خلال كشوفاته الاجتماعية والسياسية، متعة ذهنية وروحية من خلال الانسجام الفني والإحكام في الاداء وبذلك يدعو المشاهد الى مقارنة تألق هؤلاء الذين يراهم الآن، وتخبطهم السابق، وهذه المقارنة مفتاح ضروري لفهم السخف والكذب والاستغلال الذي تنطوي عليه جريمة السينما البورجوازية التجارية ... وهو مفتاح ضروري لتوعية المشاهد بمسؤولية الفنان ازاء نفسه وجمهوره, أفلا ترون معي ان محمود ياسين كان يبتذل نفسه في "أميرة ... حبي أنا"؟ كما كانت سعاد حسني وفي الفيلم نفسه أيضا؟؟ على انه ليس اسوأ افلامهما!!!
  ولو ادرنا بهذا المفتاح باب المسؤولية والوعي فسنجد أن غياب التزام اولئك الفنانين وكل من شابههم، بقضية كبيرة سياسية اواجتماعية، بما يقودهم الى السقوط في شراك البورجوازية وتزييفها وضحالتها ... واذا كان الفكر التقدمي ينتشلهم بين الآن والآخر من سقطاتهم فلأنه القادر وحده على تحرير الانسان واذا كان ماركس يرى ان البروليتاريا وحدها قادرة على تحرير البورجوازية من عار الاستغلال، فالسينما التقدمية وحدها القادرة على تحرير نجوم السينما التجارية من عار التفاهة والكسب الرخيص.
 وبعد ... فليت الفيلم يعرض لمدة اطول ليراه جمهور واسع قبل أن يراه جمهورنا في المحافظات !!!
*العنوان تم اختياره من فكرة رئيسة في المقال المكتوب بوهج انتشار"الثقافة التقدمية" في العراق 1976.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM