قرار سياسي ... لكنه في الصميم الثقافي

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM



 نعم، هو قرار رسمي وسياسي في ظاهره المعلن، غير انه في جوهره ينطوي الى حوار بُعده السياسي على بعد ثقافي كبير .. وقلما يتجاور بل ويتحد السياسي والثقافي في قرار رسمي، انه القرار الذي اصدره "مجلس الحكم الانتقالي" بإلغاء شهادات الماجستير والدكتوراه التي قامت على دراسة "فكر" حزب البعث ورئيسه الطاغية صدام(جريدة "بغداد" – العدد 685 في 3/1/2004 الصفحة الاولى).                            
 فهو قرار سياسي في تصديه للدعوات الفاشية التي كانت تسمى بعثا، وسياسي في ايقاف الاعتماد على تلك الدعوات للمرور في ثنايا النسيج الاجتماعي والقيَمي بالذات، ولكن ابعاد هذا القرار ثقافيا كما نرى هي التي تحقق له بعده السياسي ودون استحضار تلك الابعاد وتأكيدها يبدو بعده السياسي محدودا وربما ضبابيا.  

         
              
 واول تلك الابعاد ان القرار يضعنا امام كذبة أشيعت وتداولها الاعلام العفلقي حتى صدقها كثيرون .. تلك هي ان لحزب صدام فكرا !! إذ ليس صعبا لمن يتأمل في خطاب ذلك الحزب ولجاجته ان يجده فقيرا لأي ملمح فكري بالمفهوم الفكري الحق، فلم يكرر دعاة الفاشية وكتَابها سوى ... محض شعارات ومسميات هلامية كلما حاولوا ربطها بمنظومة، سقطوا في شبكة من تفسيرات سطحية لتلك المسميات، فيها من العواطف والاماني حشد متتابع دونما صلة حقيقية بعلم، وكلما حاولوا تجذيرا لتلك الشعارات او الادعاءات سقطوا في عملية تزييف للتاريخ او في احسن الاحوال عملية اسقاط تختلط فيها الرغبات بالعجز، والاحقاد بالجهل ومصادرة الآخر بإفتعال تاريخ أو تلفيقه.                                                                                                    
     نعم، ليس ثمة لما كان يسمى بالبعث فكرا او فلسفة حقيقيين .. وتقلبه بين الموقف ونقيضه، والمسافة الشاسعة بين القول والعمل عبر سني حكم الطاغية يؤكد ما نقوله، بل ان مجرد اختزال الحزب الى مجرد عصابة حاكمة .. عائلية بالتحديد، ثم استسلام اعضاء الحزب الى مواقع الراكعين لالتقاط فتات العصابة المجرمة يضيف لما قلناه تأكيدا على غيبة الفكر او الفلسفة عن بُنية الحزب الفاشي، ومن هنا فإن عملية الدفع باتجاه الاهتمام بالخطاب البعثي – وهو ما نراه التسمية الدقيقة لما أسموه فكر البعث – كانت جزء من عملية الكذب المنظم الذي مارسه وتمارسه الفاشية في تزييف الحقائق وتزوير الواقع، وكان الدفع باتجاه ( دراسة فكر البعث ) ذروة ذلك التزييف إذ تقوم تلك ( الدراسة ) على ما لا أصل له إلا إذا اعتبرنا تزوير التاريخ وشطب الآخر وادعاء اهداف يجري العمل على النقيض منها .. فكرا !! ومؤدى ذلك باختصار الى ان تلك     ( الدراسات ) التي تناولت فكر البعث أو طاغيته البغيض صدام واحدة او اكثر من حالات عديدة .......                                                                                    
1 جزء من عملية التزييف التي اشرنا اليها تم تكليف افراد من الجهاز القمعي الحاكم بها فيكون ( الدارسون ) اداة قمع أو افراد من الاجهزة الامنية المتسلطة.
2 سعي للمغانم على صعيد التزلف للحزب الحاكم وما يُعد به ( الدارسين) لذلك (الفكر )، فيكون ( الدارسون ) مجرد سعاة نحو منفعة شخصية تأخذ شكل منصب او مكسب مادي.                                                                   
3 ومثل ذلك استسهال الطريق للحصول على ( شهادة علمية ) لما عرف عـن غيبة المعايير العلمية في تقويم ( الدارسين لفكر الحزب القائد ) او ( القائد الضرورة ) وعلى ذلك يكون ( الدارسون ) هنا مجرد عاجزين عن الشـوط الجامعي العلمي، آثروا القفز الى الروب الجامعي على جثة المعايير العلمية فـي البحث والتقويم بل واختيار الموضوع أصلا !                                         
4 ( دراسات ) يكتبها جامعيون محترفون لحساب كوادر بعثية متنفذة كي ينال بها هؤلاء ( شهادات ) جامعية تضيف لسطوتهم القمعية مركزا جامعيا او مكانـــة علمية .. وفي هذه الحالة يشترك في وزر هذه ( الشهادات ) المُزوِر والمستفيد.ونكون نحن امام جريمة مزدوجة تسخر منا وتزدري بعقولنا وبقيم الامان والعلم.
ومحصلة تلك التوجيهات والنوايا والرغبات المحتدمة على عتبة الدخول في دائرة (اهل الثقة ) من المؤسسة الحاكمة .. اننا إزاء مصرع مدوي للمنهج  العلمي واخلاقيات البحث وامانته وإزاء جملة من الوقائع :  
1 ان حَمَلة الشهادات المترتبة على تلك الدراسات والرغبات قد صاروا ملاكـــــا  تدريسيا في الغالب الأعم من الجامعات.                                               
2 وفي الغالب الأعم توزع اولئك السادة على فرعي التاريخ الحديث أو العلــــوم  السياسية. وما اخطرهما بين فروع المعرفة والثقافة فضلا عن كونهما فرعين خطيرين للدراسة الجامعية الاكاديمية. وهنا نتساءل على قاعدة فاقد الشيء لا  يعطيه، مالذي سيقدمه (باحث) في التاريخ اذا كان قد دخل هذا المجال عبر عملية تلفيق لتاريخ على مقاس ( حزب ) طاغ يقوده مستبد قاتل ؟!              
ومالذي سيجده طلاب العلوم السياسية أو الباحثون فيها عند من جاء الينا عبر خلط التسميات والمصطلحات ومصادرة الخصوم وهو ما كان مذهب السلطة التي اشرفت على تلك الدراسات وغذتها من اجل إحكام هيمنتها ؟                
3 وان كثيرا من الشك يحوم حول صدق تلك الشهادات وأهميتها او جدارتهـــــــا العلمية لما يعرفه القاصي والداني من فعل التخويف والترهيب لانجاز كل مـــا يخدم مصلحة العصابة الحاكمة ودعاواها, وبالتالي فإنها شهادات او ألقــــــاب علمية كانت امرا مفروغا منه بصرف النظر عن مستوى الانجاز ودقته .. وإذ يلتقي عند هذه النقطة شك الطلبة والاساتذة الآخرين نجد انفسنا امام قضية وجوب التوقف عند هذا الشك ..
ومن هنا نص القرار المذكور على تكوين لجنة لفحص تلك الشهادات ولها حق سحبها .. والاخطر من مجرد الشك المشترك بين الاساتذة والطلبة بتلك الدرجات هو آثاره العلمية والاجتماعية :   
كيف يتلقّى طالب درسه ممن يشك في جدارته؟                                           
وأين التقاليد الجامعية وهيبتها في جو الشك وانعدام الثقة؟                               
وكيف وقد سقط الغطاء المعنوي والسياسي عن مواضع الشك .. شهادات وحَمَلَتها؟
 إن الاجابة على هذه التساؤلات تؤكد الحاجة للموقف الذي عبر عنه قرار مجلس الحكم .. وتؤكده من منظور جامعي ثقافي وهو ما يهمنا، فإن إشاعة تلك الاجواء المولدة لتلك التساؤلات .. تدمير لصدقية التلقي المعرفي بين الطالب واستاذه .. وإن المنصة الجامعية التي يرتقيها من شهد للطغيان بالانسانية .. وللعنصرية والطائفية بالتسامح .. ومن شهد للعسف بأنه حرية, أو من شهد لتفريق الصف             العربي بالنزوع الوحدوي أو من اعتبر تنمية اخطر طبقة طفيلية رأسمالية بأنه اشتراكية بل وخاصة .. ان منصة يرتقيها اولئك، لن تصمد امام نظرات الاتهام  بالكذب العلني ..                                                                                 
وعلى ذلك فاننا امام قضية ثقافية اكثر شمولية يلخصها السؤال .. من للحقيقة العلمية اذا كان اولئك ( الشهود ) امتلكوا الجرأة على وصف النقيض بنقيضه نهارا جهارا، ثم ارتقوا منصة ( الاستاذية )؟                                                             
لدينا ما يشير ان ازدياد عدد الشهادات التي قامت على ما سمي بفكر البعث أو فكر صدام، قد اقترن بانغماس الطاغية في حروبه ضد شعبنا وحركته الوطنية وضد جيراننا والاقطار العربية .. ولدينا ما يشير ان تلك ( الدراسات ) التي سرعان ما كانت تصدر مطبوعة في كتب كانت تتوالد بأشكال فجة من التكرار لتكون الغطاء لتلك الجرائم ضد الشعب، وشعبنا الكردي بالذات، وغطاء النقائض، الشعارات التي تلوكها اجهزة الاعلام البعثية ! ..                                                                                               
وبذلك كانت تلك الاعمال التي اتخذت شكل ( الدراسة العلمية ) تمارس تضليلا اعلاميا وتقيم منظومة دعائية مضادة للحقائق القائمة من جانب ومضادة للأماني والمصالح الشعبية من الجانب الآخر. وفي الوقت ذاته وعلى قاعدة ما اشرنا اليه من :   
1 سهولة الحصول على الدرجة العلمية في موضوعاتها إذ ليس المطلوب اكثر من الوصول الى ما تريده السلطة و"مكتب الثقافة والاعلام القومي" ولم يكن اكثر من تمجيد شعاراتها على الصعيدين القومي والقطري ..                                               
2 حتمية النجاح المقرر سلفا امام الخوف من رفض تلك الاعمال وما تجره من  عواقب..                                                                                          
3 كونها ذريعة ( اكاديمية ) تمكن صاحبها من احتلال مواقع جامعية او دبلوماسية في السلك الخارجي ..                                                                          

صارت تلك الدراسات وسيلة السلطة لتكثير ازلامها الحائزين على القاب جامعية وزيادة هيمنتها على الحياة الجامعية .. وصارت للمنتفعين بها وسيلة للمزيد من المغانم واغراءا دائما بالتساهل في المتطلبات الاكاديمية للدراسات السياسية والتاريخية .. لاسيما اذا كان الدارس كادرا بعثيا كبيرا .. ! مما ساعد على تفشي الاعمال الركيكة فاقدة القيمة العلمية او ضعيفتها في احسن الاحوال.                                                    
ويعمق تلك المأساة ان الفائزين بتلك الدرجات وهم يستعجلون الترقية العلمية في(    اختصاصهم ) لابد لهم من وضع ( دراسات ) أو ( بحوث ) جديدة في مجالاتهم، فاذا بهم يضيفون لما بدأوا به ( اجتهادات ) وتأويلات تمضي بعيدا في شوط تمجيد الطاغية او إدعاء العبقرية لفكر الحزب او انسجام ( نظريته )، فمن بدأ باثبات انحياز الحزب الى الدين، راح يمد للإعاءات البعثية جذورا دينية بل واصولا قرآنية .. ومن بدأ بالعلاقة بين الوحدة والحرية صار يبحث بفشل كل التجارب الوحدوية ويفسر فشلها بعدم التزامها بنظرية البعث وبالتالي فان الشعب العربي سيبقى محروما من الحرية مادامت دولة البعث لم تقم ! مع ان حكم البعث كان يصادر حتى حرية اختيار الزوجة ! وليس بعيدا عنا ذلك الاسفاف في هذا المنهج الذي سمح لأحد المداحين من حملة الدكتوراه البعثية بان ينشر بحثا ( اسلوبيا ) في لغة ( القائد الملهم ) يخرج منه الى ان الرجل من اصحاب الاساليب اللغوية !! مع انه على رؤوس الاشهاد فاشل في قراءة الفعل والفاعل.                                                                                                 
     ومن شأن تلك الاضافات الموغلة في الاسفاف والمبالغات الكاذبة ان تنزل بالامانة العلمية افدح الاضرار وبمكانة الاستاذ اضرارا أشد فداحة مما يخرب الحياة الجامعية .. بل وينزل ضربة قاصمة بسمعة الكتابة السياسية والبحث التاريخي، ومع تزايد تلك الكتابات تتراجع الرغبة في القراءة وتبقى الصفحات التي صارت تشغل مساحات كبيرة من المجلات والصحف دون قراءة، مما انزل بالقراءة ضررا لا يقل فداحة عما لحق بالحياة الجامعية ورصانة البحث التاريخي او السياسي، إذ هجر كثيرون قراءة المجلات التي يفترض انها أوعية البحث الثقافي، لقرفهم من احتشادها بتلك الاعمال.                
وفي المنتديات الجامعية صار لحملة تلك الدرجات القائمة على تلك العناوين أن يهيمنوا على المناصب القيادية فيها ويتحكموا بالمناهج والاساتذة والطلبة، بينما تبتعد الجامعة مع تلك الهيمنة عن تقاليدها.                                                               
بذلك فان السعي لفبركة فكر للحزب الفاشي وقائده كان سعيا فاشيا لتعميم الدعاية واسباغ الصفة العلمية عليها في ذات الوقت الذي يُحكم الحزب هيمنته على الحياة الجامعية ويطوق الافكار الاخرى ويمنعها فرصتها من مجرد الوجود لا الانتشار.        
غير ان ما رافق اعداد تلك الدراسات كان كارثة اجتماعية حقا، تصبح الكارثة الثقافية التي مثلتها مجرد نتيجة لها أو وجهها الآخر، إذ ان ظروف التساهل المحيطة باعداد تلك الاعمال دفعت للمزيد من التفريط حتى بابسط الشكليات، وصولا الى استئجار كُتّاب لتلك الدراسات – وما اسهل ان تعد دراسة في حنكة القائد العسكرية استنادا لمقالات في جريدة "القادسية"! او في عمق توجيهاته الاقتصادية استنادا لمقالات مدير مدرسة الاعداد الحزبي المنشورة في "الثورة" !، وهكذا صرنا امام سرطان ينتشر، فإذا باستئجار الكتاب ينتقل من تحرير ( ابحاث ) فكر القائد والحزب الى موضوعات في تاريخ العراق او العالم العربي أو أو أو ..... وصارت لدينا تحت خيمة البعث تجارة كتابة الرسائل الجامعية، فبئست التجارة وبئس الحال !!                                        
على ذلك فان قرار مجلس الحكم بإلغاء تلك الشهادات مجرد ازالة لباطل كان يُراد له ان يكون حقيقة ، كما ان قرار المجلس بفحص الشهادات العلمية ( التي منحت لازلام النظام السابق واعوانه والبت بمصداقيتها ) ومنح لجنة الفحص ( صلاحيات استدعاء حملة الشهادات الممنوحة بغير وجه حق, واصدار قرار لسحب تلك الشهادات العلمية ) يعزز قرار الالغاء وكلاهما خطوة هامة على طريق اصلاح الحياة الجامعية وتحريرها من باطل الحزب الفاشي وستكون خطوة اكثر ثباتا حين يتجاوز الفحص مجرد القراءة وفحص المضمون الى البحث عمن كتب تلك الرسائل ونشر نتائج التحقيق لما في ذلك من معنى الانتصار للحقيقة العلمية والحرص على تحرير المادة الثقافية من زيف السياسة الفاشية واكاذيب الطغيان.                                                                                      
ولعل منهج عملي يؤكد ان لا فصل أوانفصال بين الثقافي والسياسي .. بل ان الثقافي الحق لن ينشر اجنحته إلا في سماء سياسة نظيفة تؤمن بالحرية وتحترم ارادة الانسان ودونكم ثانية سياسة ( البعث ) وكيف دمرت الثقافة والمثقفين وافسدت الحياة الجامعية باخلاقيات المنفعة والتسلط والزيف !!                   
*مقالة مكتوبة في  29/1/2004



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM