لماذا يحوّل العمل الأدبي الى السينما ؟

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM


نتحدث عن الأدب والسينما فنخوض حديثهما مطمئنين الى ما بينهما من صلات وتفاعلات متبادلة، كمن لا يجادل في حقيقة، وهي حقيقة فعلا تلك التفاعلات التي يؤثر عبرها الأدب في السينما بينما يستقبل هو بدوره تأثيرات السينما فيه بناء  ومعالجة.
ولقد وجد المتحدثون في هذه العلاقة الحقيقية بين الأدب والسينما العديد من موضوعات تجسدها، وآثارها، وسيجد غيرهم المزيد من الموضوعات مع استمرار تبادل التأثير والإثراء.
وكل ذلك مما يقع في الاجابة على سؤال ... كيف؟ وقلما توقف المتحدثون أو الدارسون عند سؤال ... لماذا؟ وهو ما نريد ان نتوقف عنده.
فلماذا يتحول العمل الادبي الى شريط سينمي؟ واي نوع أدبي اكثر ملائمة لذلك التحويل؟ ولماذا تعود السينما، وقد اخذت من الأدب، لتؤثر هي فيه، فيأخذ منها ربما مثل الذي اعطاها، أهمية وقدرة بناء، واسئلة أخر تتفرع عن بعضها وهي تبدأ بلماذا؟
 وإذ لا نستطيع، ولن نستطع، الاجابة على كل تلك الاسئلة في مساحة محدودة من دراسة أو مقال ... فلنحاول الاجابة على أولها ... لماذا يحول العمل الادبي الى عمل سينمي؟ وأي نوع من الاعمال الادبية؟
نقر، ابتداء، ان السينما قد استوعبت اكثر من نوع ادبي واحد ... فقد استثمرت الادب القصصي، رواية وقصة قصيرة، فأخذت من هذه وتلك لتأتي بها اعمالا سينمية متفاوتة الصلة بالأصل الذي اعتمدت عليه، واخذت من الشعر اقل مما اخذت من القصص، واخذت السينما السياسية من المذكرات والوثائق وربما حتى من الاخبار الصحفية، واخذت السينما التسجيلية من ذلك كله ومن الخطب والاحاديث المنشورة ناهيك عمّا اخذته هذه وتلك من الادب لتوظيفه ضمن مفردات جنسه الفني.
ولعل هذه المعلومة الاساسية تقود خطانا للإجابة على سؤالنا من باب ارتباط نوع السينما بما تأخذه من الأدب تبعا لأسبابها الخاصة، ولكننا لن نترك مسارنا للإستطراد وانما نتلمس الاجابات في الاسباب او المفاصل التالية:

اولا"   ... عوامل النوع الأدبي
حين تأتي السينما الى الادب، فَلِكَيْ تستثمر شيئا من نجاحه لحسابها او تقبس من أشعته الكثيرة، شعاعا أو اشعة ستكون للسينما ذاتها ما دامت قد بُثت بلغتها.
وفي هذا الباب تأتي الرواية في مقدمة الانواع الأدبية التي استثمرتها السينما كنص تقيم عليه المعالجة الدرامية ( السيناريو ).
على أن الروايات التي اتخذتها السينما نصوصا أو قاعدة لها، تبقى – مهما ازداد عددها – متميزة بما جعلها ويجعلها تلبي اهدافا فنية او فكرية او تجارية، وهي اهداف ترتبط، كما اشرنا، بنوع السينما المستفيدة من النص الأدبي، وبالمذهب الفني والمنطلق الفكري الذي يحرك عملية الانتاج من ناحية، وعملية البناء الفني من ناحية اخرى، ولهذا السبب بالذات يمكن ان نجد عملين سينميين مختلفين فنيا وفكريا مع انهما استثمرا نصا روائيا واحدا، فقد استثمرت السينما السوفياتية على سبيل المثال، رواية الجريمة والعقاب لديستويوفسكي بفلم يحمل الاسم نفسه واستثمرتها السينما المصرية باسم "سونيا والمجنون" وشتّان بين المعالجتين ومحصلتي الفيلمين.
واستثمرت السينما الامريكية رواية "الحرب والسلام" لتولستوي في فيلم بنفس الاسم واعتبر من الافلام الطويلة إذ يستغرق عرضه نحو ساعتين، غير ان السينما السوفياتية اعتمدت الرواية ذاتها لانتاج فيلم باربعة اجزاء كل منها مدته 4 ساعات، فلماذا؟ لماذا تجتذب اعمال روائية معينة تلك المدارس الفنية والفكرية المختلفة كي تتعامل معها سينمائيا؟
تكمن الاجابة في تلك الاعمال الروائية ذاتها، إذ تنطوي على:
1- بعد انساني يعبر عن قضايا وجودية عامة، او ملامح نفسية، او صراعات اجتماعية يشترك فيها بني الانسان في اكثر من مجتمع، وهذا ما توفر في العديد من الروايات باكثر من لغة، ولذا ترجمت عدد من الافلام الى اكثر من لغة واحدة مع ان الرواية التي كانت اساس الفيلم لم تترجم الى بعض او حتى كل تلك اللغات، لما في الفيلم من معان أو شفرات اجتماعية او فكرية بررت ترجمته بالرغم من ان صانعي الفيلم ربما اختاروا الرواية لتحميلها رسالة فكرية تتطلبها ظروف اجتماعية تخص المجتمع الذي انتجت فيه، او قد تعتمد رواية من ادب لغة اخرى غير لغة المنتج تذرعا بذلك البعد الانساني او سعيا للتمسك به، وغالبا ما يحصل ذلك عندما تترجم الرواية الى لغة المنتج وتثبت انتشارها بين جمهور القراءة، وهذا هو الحال بالنسبة لرواية "الجريمة والعقاب" واستثمارها في اكثر من فيلم، على ان بناء الفيلم ورسالته النهائية هما اللذان سيحددان هدف المنتج، كما سنشير اليه في مكان لاحق.
2– قضية محلية وطنية او اجتماعية ارتبطت بها مصائر او حياة قطاع من المجتمع بشكل مباشر وامتدت آثارها الى قطاعات اجتماعية اخرى بهذه الطريقة او تلك، مما يجعل نقلها من الأدب الى لغة السينما توسيعا للإحساس بتلك القضية او تخليدا لمعاناة اولئك المتأثرين بها، او حتى لمجرد التوثيق، ناهيك عما تحمله تلك المعاناة من صبر انساني يجتذب التعاطف معه حتى من قبل الناس في مجتمعات اخرى يحمل لها الفيلم تلك القضية، وفيلم "الظامئون" العراقي يقع في هذا الإطار، إذ يسجل محنة العطش او شحة الماء التي عانت منه اكثر من منطقة في ريفنا، غير انها تبقى قضية مما يمكن ان تقع في الصميم من معاناة شعوب عديدة مما يجعل لنقل رواية "الظامئون" الى السينما بعده الانساني اضافة الى ما فيه من استجابة للهموم المحلية.
3 – قد تمثل الرواية مرحلة اجتماعية من مراحل تطور مجتمع ما بما تنطوي عليه من احداث او ملامح مكانية، او شخصيات، او عادات اجتماعية، او صراعات سياسية، وبذلك تصبح امثال هذه الروايات اغراء دائما للسينمائيين لنقلها الى السينما لاكثر من سبب من اسباب عدة :-
آ– لجوانبها التوثيقية وما تعنيه بالنسبة لجيل عاش تلك المرحلة او اتصل بها بشكل او بآخر.
ب – لما فيها من صراع شخصيات واحداث وافكار.
ج – ولما تسمح به من إسقاطات فكرية ذات علاقة بمرحلة انتاج الفيلم، ولعل ثلاثية نجيب محفوظ خير مثال لذلك ... وقد أخرج حسن الامام عنها افلام "بين القصرين, قصر الشوق والسكرية" بطريقته التي تحكمها رؤيته ... وأثق ان لو اخرجها واعدها غيره من مثقفي او مفكري السينما إن صح التعبير لجاءت افلاما مختلفة.
وتصلح روايات غائب طعمة فرمان لتلبية تلك الاهداف لا سيما رواية "النخلة والجيران" وروايته "خمسة أصوات" ولقد نقلت الثانية الى السينما فعلا من خلال فيلم "المنعطف" من اخراج جعفر علي.


قاسم عبد الامير عجام: في مقالاته النقدية اشارات عميقة وواضحة
 
ويمكننا اضافة العديد من الروايات، عربيا وعالميا، كأمثلة للرواية الاجتماعية المؤهلة لانتاجها سينميا، ولنتذكر ان البعد الاجتماعي للرواية من أشد عوامل الجذب السينمي قوة واكثرها إغراء، ولعلنا نتصور قوة ذلك الاغراء من حقيقة الاستجابة له حتى مع عدم توفر الامكانيات الفنية، إذ كانت رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل اول رواية عربية نقلت الى السينما باخراج محمد كريم كفيلم صامت عام 1930.*
وإذ نقول بروايات مؤهلة للانتاج السينمي فاننا لا نعني اننا نحصر تحويل العمل الادبي الى السينما بروايات او قصص محددة الملامح وانما نستخلص الملامح المشتركة لتلك الاعمال التي حولت فعلا الى السينما والتي تتوفر في غيرها لتكون مشروعا او مشروعات قادمة وإلا فاننا مع ما يقوله عبد الغني داود في عدد آب 1984 من مجلة "الفنون" القاهرية – العدد 21 ص 19 -  إذ " القاعدة ان كل الروايات مهما بلغت من التجريد والذهنية يمكن ان تنقل سينمائيا، حتى رواية         "المحاكمة" لـفرانز كافكا التي يصعب تحويلها الى سينما لأنها تحمل ابعادا ميتافيزيقية وفلسفية ولا تعتمد على الجمل الحوارية او الوصف او الحدث الدرامي وتعتمد على الرؤية الذهنية "(1) ولذا فان استمرار تأملنا في الاعمال الروائية المؤفلمة سيمضي بنا الى ملامح اخرى فضلا عما ذكرنا.
4 – قد تخصص روايات معينة لشخصية محددة كسيرة حياة او سيرة فكرية – سياسية والاخيرة اكثر اغراء بالتعامل معها سينمائيا لاسيما اذا كانت قد ارتبطت باحداث سياسية خطيرة.وبالنسبة لهذه المسألة بالذات تكون المذكرات السياسية منافسا لرواية السيرة، ومن امثلة هذه الروايات "العودة الى المنفى" لـ محمد عبد المعطي ابو النجا التي تسجل سيرة حياة المفكر والصحفي الثائر ( عبد الله النديم )، ويمثل فيلم "قاهر الظلام" نموذجا لاعتماد سيرة حياة مفكر كبير لتحويلها الى السينما إذ اعتمد على سيرة حياة طه حسين التي كتبها بنفسه تحت عنوان " الايام " بجزئيها.
5 – الروايات التاريخية التي تتناول مختلف العصور، مشروعات دائمة للانتاج السينمي عالميا وعربيا، خاصة وان العديد من الاحداث والمراحل التاريخية تسمح بان تكون حاملا لرسائل فكرية تخاطب جمهورا واسعا لتعلقها بقضايا معاصرة.
بل ان ثمة اعمالا ادبية، روائية، تضمنت احداثا معاصرة فصارت تنتمي للرواية التاريخية من جهة وللرواية السياسية – الاجتماعية من جهة ثانية كرواية " رد قلبي " ليوسف السباعي التي حولت الى فيلم بالاسم نفسه، او رواية "رجال تحت الشمس "لغسان كنفاني التي حولت الى فيلم "المخدوعون" ممثلة صفحة من تاريخ القضية الفلسطينية.
 وتقع ضمن هذه الدائرة روايات عربية عديدة تحمل قضية اجتماعية وتؤرخ لمرحلة سياسية او اجتماعية محددة كرواية "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ التي اخرجها كمال الشيخ في واحد من اهم افلامه أو كرواية "شيء في صدري" او رواية" لاشيء يهم " لاحسان عبد القدوس وتؤرخ رواية "نجمة أغسطس" لصنع الله ابراهيم، اجتماعيا وسياسيا وحتى معماريا لمرحلة بناء السد العالي في مصر .. وما اكثر الملامح السينمائية في بنائها الفني !!
وربما يتذكر كثير منا فيلم "ثورة العبيد" او "سبارتكوس" المأخوذ عن رواية هوارد فاست التي ارخت لثورة العبيد ضد الامبراطورية الرومانية، ناهيك عن فيلم "الحرب والسلام " الذي سبقت الاشارة اليه.
ولا تتعطل قاعدة كل الروايات يمكن نقلها للسينما التي اشرنا اليها عند تطبيقها على القصص القصار !... ولقد حولت فعلا العديد من القصص القصيرة فعلا الى افلام ناجحة قصيرة او طويلة او متوسطة الطول، وعادة وكالروايات، تصلح قصص قصار للسينما اكثر من غيرها لكن الافلام الناجحة غالبا اعتمدت قصصا امتازت بدرجة عالية من كثافة الفكرة وقوة إشعاعها وتميز شخصيتها الرئيسة، او رسمت ولمثلها يميل كثير من السينمائيين، صورة توحي بملامح واقع اجتماعي او تحيل الى حادثة متفردة ترتبط بفكرة اكبر أو الى شخصية أو تجربة نفسانية معينة.
 والقصص القصيرة تسمح غالبا للمخرجين – لاسيما للمتميزين منهم – ان يجتهدوا بالتصرف بها بما يجعل الافلام المأخوذة عنها تنتمي لسينما المخرج، أو كأن المخرج مؤلفا" ثانيا".
على ذلك، حولت كثير من القصص القصيرة الى اعمال سينمائية ناجحة ومنها "دنيا الله"  و "أيوب" لنجيب محفوظ،  و"  5ساعات " ليوسف ادريس، وله ايضا حولت قصة " في ورق سيلوفان" الى فيلم جميل بإسم "على ورق سيلوفان" وغيرها.
على أن الشعر كان اقل الانواع الادبية اجتذابا للسينما، لكننا لا نفتقد كليا اعمالا سينمية – تسجيلية أو وثائقية خاصة قامت على قصائد او مختارات شعرية توفر فيها صراع درامي او إحالات الى علاقات او رموز فكرية أو تاريخية.

ثانيا   ... عوامل تتعلق بالمنتج
كأننا إذ نتوقف عند هذه العوامل نتوقف عند جوهر السينما باعتبارها وجهة نظر ... معلنة أو خفية، مباشر كان ذلك الاعلان أو غير مباشر. فليس المنتج السينمائي إلا وجهة نظر تعبر عن عوامل اجتماعية ( سياسية، فكرية ومادية )، فمن اتخذ الانتاج السينمائي وسيلة للتجارة والربح غيره تماما او نقيض حاد لمنتج يرى في السينما وسيلة من وسائل التوجيه بكل انواعه.
غير ان النقيضين على مابينهما من تباعد في الاهداف والوسائل يتعاملان مع النصوص الادبية في محاولة لتوظيفها لما يخدم أهداف كل منهما. ولذا فان اختيارات شركات الانتاج السينمائي ستخضعه للاهداف التي قامت من اجلها، وتبعا لتلك الاهداف يتعامل المنتجون مع مخرج أو مخرجين بما يتفق وذلك التوجه.
 بل ان معالجة العمل الادبي المختار ستختلف اختلافا كبيرا تبعا لتلك الاهداف حتى لنجد من الممكن بل ومن الطبيعي، اختلافا حادا في انتاج فيلم سينمي عن فيلم آخر مع انهما يقومان على العمل الادبي ذاته، فحين تعامل حسن الامام مع ثلاثية نجيب محفوظ أسقط جوانبها الفكرية وسماتها الاجتماعية لصالح ملمح واحد فيها كان النص قد وظفه لخدمة تلك الجوانب بالاساس، حين اختار اجواء ( العوالم ) وسهرات الرقص والقصف والمجون وكأنها جوهر ذلك العمل الروائي الخالد فأضاع الرسالة الحقيقية لتلك الرائعة الروائية.
 ولعل واقعة تكليف هوليوود لـلمخرج ايزنشتاين باخراج فيلم عن قصة "مأساة امريكية" مثل حي آخر لما قلناه. فقد وضع أيزنشتاين السيناريو معتمدا تلك القصة الامريكية ووافقه مؤلفها ،درايزر، على تلك المعالجة، غير أن رئيس الشركة المنتجة، وهي شركة "بارامونت المتحدة"، لم ينظر في السيناريو ولا في اي من فقرات المعالجة السينمائية للقصة وانما سأل المخرج، ايزنشتاين، عما اذا كان البطل حسب السيناريو المذكور مذنبا أم غير مذنب، فلما رد ايزنشتاين بانه لم يكن مذنبا لأنه ضحية ظروف اجتماعية واقتصادية خضع لها عبر حياته وتكوين شخصيته، وكان لا بد للسيناريو ان يوضحها، كان جواب مدير الشركة جاهزا وهو رفض ذلك السيناريو لأنه "يعد تحديا خطيرا للمجتمع الامريكي" وانه كمنتج يفضل "معالجة بسيطة عن استقصاء في جريمة بوليسية" وهكذا رفض النص بالرغم من انه يقوم على حقائق بنسبة 99% وان الموقف من تلك الحقائق لم يزد عن 1% من مجموع المعالجة، ولأن الشركة كانت تريد ادانة البطل الذي كان بالنسبة لها مذنبا (2).
وقد شهد عالم السينما انماطا من الانتاج والمنتجين أبرزها ذلك الذي مثلته السينما الامريكية والسينما الغربية المتأثرة بها او السائرة على نهجها حتى خارج الغرب، والسينما السوفياتية والسينما الاشتراكية عموما بمختلف اجتهاداتها فضلا عن محاولات مستقلة تدبر طرقا عملية لانتاج افلام او مشروعات سينمية محددة، وهي مشروعات رأي غالبا، ولعل ابرز التناقضات في نمطي الانتاج الرئيسين المتعارضين لا تكمن في المعالجة السينمائية، او في توجيه محصلتها فقط، ولا في اختيار الاعمال الادبية وتوجهاتها فقط، وانما تبدأ اصلا من حجم العلاقة مع الادب.
فقد مثلت السينما الاشتراكية، والسينما الملتزمة بكل توجهاتها الثورية او الاجتماعية ميلا دائما نحو الاعمال الادبية، وتعاملا فنيا متطورا مع غرر تلك الاعمال، لما في الاعمال الادبية من فكر ومجازات فنية تتسع بدورها لتحويلات اخرى تمارسها لغة السينما بمختلف آلياتها مما يسمح بقراءة او قراءات متجددة للعمل الادبي تتفق مع اهدافها السياسية والفكرية وتوجهها نحو بناء وعي اجتماعي وذائقة فنية رفيعة.
على العكس من ذلك، اعتمدت سينما التجارة قصصا او نصوصا، معدة لها على الاغلب، نحى اغلبها نحو المغامرات واعلاء شأن الفرد المغامر او تمجيد الحروب او الجنس او الهزل الرخيص، ولذا اتجهت – اذا اتجهت – نحو الاعمال الادبية التي توفر لها ذلك المدد بهذه الدرجة او تلك.
وعلى ذلك يمكن القول ان عوامل النوع الادبي التي مررنا بها ومضامينها تبقى ساحة مفتوحة لحركة الجهة المنتجة ( عوامل الانتاج ) لتتعامل مع هذه السمة او تلك من سمات العمل الادبي، فان ما يجتذب منتجا ما الى ملمح في عمل ادبي ما قد لا يجتذب منتجا غيره، وما قد يراه منتجان في ملمح واحد من العمل نفسه لا يكون متطابقا او متفقا بالضرورة، فشتّان مثلا، بين فيلم "سونيا والمجنون" الذي انتجته السينما المصرية عن رائعة دستويوفسكي "الجريمة والعقاب" وبين الفيلم السوفياتي الذي يحمل اسم الرواية ذاتها.
واحساسا بالدور المركزي للجهة المنتجة في إظهار اي مشروع سينمي الى الحياة وادراكا للقوة التي تمتلكها للتأثير على توجهات المشروع وربما حتى تفاصيله،  انبثقت في مراحل معينة من تاريخ السينما وفي اقطار شتى لا سيما في اوروبا وامريكا ما عرف بالجماعات السينمائية في محاولة للتحرر من هيمنة احتكارات السينما في هوليوود والسينما الاوربية كجماعة السينما الجديدة او كتلك المحاولات التي حاولها السينمائيون السود في امريكا للانتاج المستقل دونما نجاح كبير او كذلك الانتاج المستقل الفقير الذي اسفر عنه فيلم "بطاطا ... بطاطتان" التي رفضت هوليوود تمويله.
 وبالرغم من ذلك استمر افراد في هذه الجماعة او تلك يجتهدون لا فيما يختارونه للسينما من موضوعات تعتمد على الادب، وانما حتى في علاقة الأدب بالسينما وتفصيلاتها مع هذا النوع الادبي او ذاك ...  واكثر ما صدرت تلك الاجتهادات عن مخرجين مما يفتح الباب للولوج في عوامل اخرى من عوامل تحويل الادب الى السينما ... وهي عوامل المخرج.

ثالثا"   ... عوامل المخرج
خلال تطور السينما العاصف في الشكل والمضامين ... في الآليات وطرق الانتاج ... في التقنيات واجهزة التنفيذ، وفي نمو الثقافة السينمية والخبرة التطبيقية خاصة، برز مخرجون صار بعضهم منظرين لهذا الفن الخطير ولهم آراء واتجاهات في كل ما يتعلق بالسينما، وصار بعضهم نواة للتجمعات السينمائية التي اشرنا اليها آنفا ... وفي اطار تلك الجماعات والنظريات الجديدة، او الاجتهادات، التي شدد العديد منها على خصوصية فن السينما بل واستقلاليته، بالنسبة للبعض من المنظرين والمخرجين،  برزت آراء تقول بعدم حاجة السينما للأدب !! وان انتاج فيلم عن رواية طرح فيها مؤلفها افكاره، كتسخين وجبة طعام باردة كما يقول المخرج الفرنسي آلان رينيه،  ويشدد المخرج السويدي انجمار برجمان على استقلال السينما عن الأدب بالقول " يجب ان نتجنب عمل الافلام من الكتب"(3) على العكس من ذلك غامر آخرون بالتوجه نحو اعمال روائية بدت وكأنها لا تصلح للسينما ووسائلها لما فيها من افكار او بنية فنية، او غور في اعماق نفسية متداخلة، حتى تم اخراج رواية معقدة كرواية " المحاكمة " لكافكا او رواية "غرام سوان" لمارسيل بروست، بكل ما عرف به من صعوبة، كما فعل شلندروف وقدمها في مهرجان ( كان ) السابع والثلاثين عام 1984، وفي هذا المهرجان نفسه توجه مخرج آخر الى عمل أدبي فيه " تأمل فلسفي عن الثورات وعن المرأة وعن الحب" هو قصة "البيت والعالم" لشاعر الهند طاغور، وهي قصة يقول عنها د. رفيق الصبان انها تنتمي الى التحليل النفسي والاجتماعي اكثر مما تحتوي من احداث ومواقف درامية انفعالية، ذلك هو المخرج  ساتياجيت راي.
 ان ذلك التباين، بل التناقض، في الموقف من الادب ينطوي على اتفاق عميق، هو الثقة بقدرة السينما كفن على التعبير عن ادق القضايا، والاحاسيس النفسية، فما الدعوة الى تجنب عمل الافلام من الكتب إلا ثقة مطلقة بلغة السينما الخاصة وقدرتها على ان تصنع أدبها الخاص وجمالياتها الخاصة، وما اقتحام الاعمال الروائية الصعبة او غير التقليدية إلا الوجه الآخر للثقة بقدرة السينما، بلغتها وبجمالياتها، على تجسيد ما احتشد بين السطور في تلك الاعمال الروائية.
ومحصلة ذلك، إغناء للتجربة السينمائية وصقل لأساليب اخراجية، وبالتالي تألق لأسماء لا يمكن لمؤسسات الانتاج إلا ان تجد صيغة مناسبة لاستثمار مواهبهم، مثلما لا بد لهم من ان يجدوا هم، كفنانين متميزين، الصيغة التي تتيح لمشروعاتهم ان ترى النور من خلال نافذة من نوافذ الانتاج.
على ان المخرجين الكبار، او اكثرهم، مازالوا يجدون في الادب والرواية خاصة معينا للسينما، وانهم ليجدون في اقتحام النماذج الصعبة من الأدب فرصة لممارسة خبراتهم المضافة، واجتهاداتهم الجديدة حتى لو سبق لبعض الاعمال الأدبية ان نقلت الى السينما، بل انهم، او بعضهم بتعبير ادق لينظرون الى تلك الاعمال السينمية باعتبارها تحديا لهم أو اغراء لمعالجة اصولها الروائية مجددا لتقديم رؤى جديدة واساليب جديدة، وربما بتأثير هذا الهاجس او بسببه  نقلت رواية "جاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجيرالد الى السينما ثلاث مرات (5).
وانطلاقا من هذه الثقة الكبيرة بجماليات السينما، يمكن ان يقتحم المخرجون ذو الاساليب ألوانا أدبية غير الرواية ... كالشعر مثلا، بل انني ارى ان ذلك الاتجاه الذي بتطرف في مقولة استقلالية السينما او استغنائه عن الأدب، اقرب ما يكون للاستفادة من الشعر العميق لما فيه من مجازات وتحويلات لغوية أو صورية، وان الحرص على الاتيان بالجديد، سينميا، قاعدة لامتداد اضواء السينما الى مساحات من الأدب لم تدخلها السينما التقليدية, وعلى هذه القاعدة دخلت او يمكن ان تدخل اعمال ادبية ( قصصية أو غيرها)  في مشروعات سينمية جديدة ما كان متوقعا انها تصلح للمعالجة السينمائية.
نعم، ذلك لأن الثقافة السينمية الجديدة لم تأت مجرد ثقافة حرفية متخصصة وانما تكونت في خضم التيارات الفنية التي تضطرب في بحر الفن، او يضطرب بها، على اتساعه، والتيارات الفكرية والفلسفية التي افرزت بدورها تيارات فنية او تجادلت معها فاغتنى المتجادلان، ناهيك عن تأثير الثورة العلمية والمعلوماتية ووسائل الاتصال ... تقنية واسلوبا وتنوعا وغزارة.
ان تلك الثقافة الخصبة لا يمكن ان تعمل سينمائيا دون ان تغير تعامل السينما مع الأدب ودون ان تغير أساسا من نقطة الانطلاق في فهم العلاقة بينهما. لذلك، لا نشك في ان تنوع وقدرة عدد من مخرجي السينما قد أثّر بدوره على مؤسسات الانتاج التي لا تستطيع – حتى لمجرد الهدف التجاري – ان تهمل مشاريع العديد منهم ومنها اختيارهم لأعمال روائية بعينها لهدف وضعوه لانفسهم بصرف النظر عن الصيغة التي وجدها الطرفان لاخراج ذلك المشروع.
على هذه القاعدة يمكن ان نفهم اختيار المخرج البرازيلي دوس سانتوس  الذي كان من نجوم السينما الجديدة في الستينيات من القرن المنصرم لمذكرات الثوري اليساري جرازيلاتو رالوس عن فترة سجنه متنقلا بين سجون البرازيل خلال سني الحرب العالمية الثانية وفيما بعدها ليخرجها فيلما بإسم "مذكرات السجن" ويشارك به في مهرجان ( كان ) 1984 ، وعلى القاعدة ذاتها يمكن ان نفهم مسارعة هوليوود للتعاقد مع بطلة فيلم " بطاطا .. بطاطتان" بعد ان حاز الفيلم الذي رفضت هوليوود تمويله ولكنه نجح جماهيريا بعد ان نجح صانعوه بانتاجه مستقلين عن هوليوود بميزانية متواضعة لم تزد عن 40 ألف دولار، وبعد ان حازت البطلة جائزة التمثيل في مهرجان كان ! بل وتعاقدت حتى مع مخرج الفيلم  لاري بيرس وكاتبي السيناريو بل ومع منتجه أيضا(6).
كما ان الاختلاف او الاجتهاد في تعامل الاخراج مع النص الأدبي تبعا للمدرسة الفنية والفكرية للمخرج او مذهبه الفني، هو الذي يحدد ماذا تأخذ السينما من النص الأدبي المختار وماذا تدع، فليست السينما مجرد نقل لاحداث الرواية او تصوير لها، وليست تابعا للأدب اصلا، وانما هي فن قائم بذاته ولذا فانه هو الذي يقرر ما يأخذ وما لا يأخذ من فن الأدب وفقا لفهم المخرج مسؤولية الفيلم بالنسبة للنص الأدبي ... هل هو الالتزام الكامل به ام الاخلاص لفلسفة النص العامة فحسب؟ ام مجرد الانطلاق منه وابتكار بناء جديد عليه قد يوافق او لا يوافق عليه مؤلف النص الأدبي؟
في هذه الدائرة، كما نحسب، يمكن ان نجد سبب اختيار قصص قصار – لا روايات – من قبل بعض المخرجين لاخراجها للسينما، باعتبار ان القصة القصيرة اقرب ما تكون لبناء الفيلم السينمائي, كما يقول هتشكوك ! او لما تنطوي عليه القصص القصيرة المتقدمة فنيا من كثافة في الفكر او البناء او فيهما معا، ولنتذكر قصة" النداهة" ليوسف السباعي وما فيها من كثافة ودقة موضوع وكيف حوّلها حسين كمال الى ذلك الفيلم الذي حمل عنوان القصة نفسها.
وفي هذه الدائرة تماما نجد تفسير اختيار بؤرة معينة من النص الأدبي دون مراكز البث الاخرى فيه فتعتمد فصول من رواية على حساب فصولها الاخرى مع ان الفيلم يقوم على الرواية كلها، اما رأي المؤلف الأدبي فيبقى خاصا به ... فثمة من ابتهج لما رآه عن عمله وثمة من سكت مستغربا او حاول الاحتجاج على ما طرأ على عمله من تغيير، وهذه مسألة قائمة بذاتها.
على ان من المخرجين من اتقن الحرفة متفوقا بجانب معين منها ... كمخرجي افلام الحركة او كمخرجي المغامرات ... الخ، وهؤلاء مشروع للعديد من المؤسسات الانتاجية لانتاج افلام تقع في اللون الذي عرفوا به، ولذا تتوجه الى اعمال ادبية معينة توفر لهم ذلك اللون او ان يقترح المخرج قصة يراها ملائمة له او مما يتمنى ان يتعامل معها سينميا.
     بل ان ما يتمنى بعض المخرجين ان يتعاملوا معه من الأدب كان وراء العديد من الافلام، وما اكثر ما اعلن هذا أو ذاك من المخرجين اعجابه بشخصية معينة، نعم بشخصية محددة، في عمل أدبي فتمنى ان يجسدها في عمل سينمي من صنعه وانه يسعى لتحقيق ذلك ... بل وقد يرشح لها ممثلا معينا يراه مناسبا لتجسيدها ! وان العديد من هؤلاء المخرجين استطاعوا اقناع جهة الانتاج بمشروعهم – الامنية، ليعيدوا خلق او بناء الشخصية الروائية التي اجتذبت اعجابهم !!
وليس نادرا ان يتقدم مخرج الى جهة انتاجية ما مقترحا عملا روائيا معينا بتأثير ممثل معروف أعجب هو بشخصية في ذلك العمل وتمنى ان يتقمصها وان يجسدها على الشاشة وربما تمناها باخراج فلان من المخرجين !!

رابعا : آلية التأثير السينمائي
تلتقي العوامل الانتاجية، سواء كانت جهات الانتاج حكومية او خاصة، شركة او فرد، مع عوامل المخرج في انها جميعا تراهن على فعالية السينما وقوة تأثيرها على المتلقي، فليس سرا ان السينما لم تعد مجرد شريط صوري ناطق وانما اصبحت لغة تأثير متكاملة تجتمع في تكوين مفرداتها الصورة والصوت، نطقا وموسيقى ومؤثرات صوتية شتى، واللون، ناهيكم عن التمثيل وتكوين المشهد وزوايا الكامرا وحركتها وتحريكها، ولم يعد ذلك الشريط الصوري المحتشد بتلك المفردات مجرد تعاقب تحكمه السببية او رواية قصة تتوالى احداثها وصولا الى خاتمتها، بل صار محصلة لعمليات تحليل وتركيب تلخصها او تكثفها عملية المونتاج، فان تحكم المخرج بتعاقب المواقف او المشاهد والاحداث صيّره مؤلفا للعمل المرئي، وحوّل الفيلم الى عمل ذي رأي يعلنه او يشير اليه متضمنا في الاحداث وبناء الشخصيات وحوارها وعلاقاتها.
وكل اولئك تطورات او تحولات فنية بنائية زادت من جاذبية فن السينما ووسعت من جمهورها عددا، ووسعته تنوعا. والحق ان مجرد اعتماد السينما، او مبدأ عملها، على الصورة يجعلها مشروعا دائما للتلقي من قبل الجمهور الأمي و/ أو المثقف او نصف المتعلم معا، فليس جديدا القول ان 98% من معلومات الانسان تأتي من خلال حاستي  البصر (90%) والسمع (8%)، وهذه الحقيقة تغري اي منتج سينمي او مخرج يريد لعمله الانتشار والتأثير، ان يمضي بمشروعه قدما واثقا من توفر الاساس الطبيعي وسعة القاعدة الاجتماعية لتلقي ذلك العمل، وهو ما لا يتوفر لأي عمل أدبي مهما كان حظه من قوة الحرفة الابداعية.
هنا سيتوجه المنتج الى ما ينسجم مع قناعاته واهدافه من اعمال أدبية ليمنحها من خلال السينما ما لم يكن لها من حظ الانتشار وقوة التأثير من خلال الكلمة، ولطالما انتشرت اعمال متوسطة القيمة او ادنى من ذلك من خلال اضواء والوان السينما بينما بقيت قمم أدبية تتألق في دوائر الثقافة والنقّاد ومحبي الأدب فحسب.
واستنادا للحقيقتين ذاتهما ( التأثير الصوري / السمعي، و سعة التلقي ) حلم ويحلم كثير من المخرجين المثقفين بنقل قصص اعجبوا بها، أو رأوا في شفراتها الفنية محمولات فكرية او نفسية يمكن للسينما ان تبلغ بها ذروة فنية، فيسعون لاخراجها متوسلين لتحقيق نزوعهم او مسعاهم ذاك بأكثر من وسيلة للتفاهم مع المنتجين او اقناعهم باعتمادها، وما اكثر الاعمال السينمائية التي رأت النجاح من خلال ذلك المسعى او التفاهم !!
على ان ما يعمق من أثر العاملين المذكورين الحقيقتين اعلاه، عامل ثالث لا يقل عنهما اهمية وقوة فعل ، وهو عامل بنائي، هو تشابه آليات السينما مع آليات الرواية والقصة القصيرة، وبخاصة في تناوب السرد والحوار وما يتخللهما من وصف، وحتى في توظيف الزمن والتعامل معه استرجاعا او تقديما.
ولعلنا لا نغالي إذ نقول ان السينما تستطيع ان تبني مشهدا، تركيبا ووصفا ... بكفاءة اكبر وتأثير اعمق مما انجزته الرواية في العديد من الصفحات، ناهيك عما يضيفه التمثيل المتقن من عمق للمشهد او قدرة على التأثير او إثارة للخيال، فالسينما قادرة بالتمثيل والاداء المتقن على ان تنقل شخصيات روائية الى مديات من اشعاع التأثير – بالتفاعل مع المكونات المشهدية – الصورية والصوتية – لم تستطعها بالكتابة ادبيا، فمن كان، مثلا، اكثر وضوحا للمتلقي ... عيسى الدباغ بطل "السمّان والخريف" في الرواية ..أم عيسى الدباغ الذي جسده محمود مرسي في الفيلم؟ وبالمثل، أيّ سعيد مهران كان الاشد تأثيرا ... سعيد مهران الرواية ام سعيد مهران الذي رأيناه في فيلم "اللص والكلاب" بأداء شكري سرحان واخراج كمال الشيخ؟ لقد كانت غربته التي جسدتها السينما اعمق وأحفل بالدلالة، وكان مشهد الكلاب وقوات الشرطة وهي تحاصره في المقبرة وحيدا، مما يمكن الكتابة عنه وبِوَحْي من جزئياته تحليلا خاصا أو حتى قصة قائمة بذاتها ... إذ تحضر صورة البطل المحاصر وتوزيع عناصر المشهد في فضاء الكادر، وضجة الاصوات وامتداد تاريخ كل عنصر في تزاحم او تفاعل اوسع بكثير مما في خاتمة الرواية، بل ان هذا المشهد يقول ببلاغة وعمق ما حملته الرواية – سعت اليه او لم تسع – عن مأزق الحل الفردي للأزمة الاجتماعية، وغربة المتمرد الفرد وهشاشة تمرده إزاء شراسة الظلم الاجتماعي.
 ان تكرار تلك البلاغة في اعمال سينمائية عالمية وعربية يبقى إغراءا دائما لمعاودة التجربة مع اعمال جديدة لا لنجاحها وخصوصية قراءتها للعمل الادبي فقط وانما لانها، كما الاعمال الروائية الجديدة، تأتي بآليات واجراءات فنية جديدة تعمق الاغراء وتزيد الثقة بالنتيجة.
على ان ذلك كله يسقط في الفجاجة والقسر او التسطيح دفعة واحدة إن لم يتوفر للمشروع مخرج يتقن تلقي الشفرات الأدبية, وان لم يتوفر كاتب سيناريو يتقن ذلك اتقانه معرفة امكانيات الآليات السينمائية في تكوين المشهد ويعرف مصادر التأثير داخل ذلك التكوين، ولذا قد تسقط غرر الاعمال الأدبية في مشروعات السينما التجارية لأن الاخيرة تأخذ من الاولى ما يحقق لها الربح وتدع الباقي حتى لو كان هو جوهرها وحامل سرها، وتلك هي – دونما مبالغة – قراءة العقل النفعي التجاري على اية حال، اما العقل المبدع فله قراءاته، لا قراءة واحدة، حتى للعمل الأدبي الواحد، ودائما تستطيع السينما ان تستجيب لتلك القراءات، وهذا ما يفسر مثلا اخراج عمل أدبي واحد للسينما اكثر من مرة بأشكال مختلفة، ( وقد ذكرنا أمثلة لذلك ).
 ولقدرة السينما على إغناء العمل الأدبي قد تبدو بعض الاعمال المتوسطة القيمة اكثر بريقا ... إذ قد يكتنز ما كان مترهلا، وقد يكتسب عمقا ما كان سطحيا بفعل الاداء، التكوين المشهدي، شكل الممثل، او بفعل المؤثرات ومفردات اللغة السينمائية الاخرى وهذا لشدة عمقه ما قد يكون او ما قد يراه البعض من سلبيات السينما في تعاملها مع الأدب او على الاقل هو ما رآه  جورج ديهاميل في كتابه " دفاع عن الأدب" من الوجهة المعيارية تحديدا، إذ يقول عن الرواج الذي تحدثه السينما للاعمال الأدبية العادية انه : "قبر مذهّب للموهبة غير الممتازة"!! وانه يمارس نوعا من الحصار للاعمال الفنية الحقيقية(7) وربما لقدرة السينما في نقل أبعاد عميقة من الاعمال الأدبية الكبرى حتى ليحس متلقيها وكأنه عرف مبدعي تلك الاعمال، يتحسس ديهاميل نفسه ما قد يكون، كما يراه، سلبية اخرى للسينما تكمن في هذه القدرة بالذات وهي انها " تسمح لبعض المدعين بإدعاء الاطلاع على القمم الأدبية دون ان يقرأوها، وتسمح لهم بالثرثرة عن كتّاب لم يقرأوا لهم لمجرد انهم شاهدوا افلاما عن اعمالهم كأولئك الذين يثرثرون عن سكوت فيتزجيرالد دون أن يقرأوه "(8).
غير اننا لا نذهب مذهب ديهاميل وانما نعتبر هذه القدرة جسرا للمتلقي العادي للرحيل الى عوالم راقية تملأ نفسه بالحلم وتجدد رغباته وتحرك فكره، وان نجاحات السينما في تجسيد الاعمال الأدبية فرصة متجددة للأدب الجاد ان يتقدم الى مساحات لم تكن تصلها كلماته، وذلك هدف عزيز ليستحق الجهد في إعادة بناء العمل الأدبي ... بلغة السينما.
     
 هوامش:
(1) عبد الغني داود – 1984, الرواية والفيلم بين الاديب وفنان السينما مجلة       "الفنون".
 (2) سيرجي ايزنشتاين – مذكرات مخرج سينمائي ، ترجمة انور المشري، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ط1 القاهرة  1963 ص 162-164.
(3) مصطفى محرم – 1984، العلاقة بين الفيلم الروائي والادب – مجلة "الفنون " القاهرة ع21 آب 1984 ص 11-12.
(4) د. رفيق الصبان – السينما والادب في مهرجان كان 1984 ن م ص 14-15.
(5) عبد الغني داود – مصدر سابق.
(6) قاسم عبد الأمير عجام – 2001 – الضوء الكاذب في السينما الامريكية، الموسوعة الصغيرة  ع 445 – دار الشؤون الثقافية – بغداد ط1 ص 63-64 نقلا عن يوسف العاني "هوليوود بلا رتوش".
(7)  * عبد الغني داود – الرواية والفيلم م.س ص 31 .
(8) عبد الغني داود – الرواية والفيلم م.س ص31.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM