من قاسم عبد الأمير عجام الى نجيب محفوظ .. رسالة وأشياء أخرى

قاسم عبد الأمير عجام

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM


د . نادية غازي العزاوي**

تحتلّ الرسائل الشخصية موقعاً مهماً في الدراسات الأدبية والتاريخية ، لقيمتها الوثائقية الممتازة في الكشف عن مواقف وحالات خاصة بحياة أصحابها أو بحركة أشمل ضمن حقبة زمنية معينة أو مجتمع ما .

ومن هذا المنطلق وقفنا عند هذه الرسالة المؤرخة في 3/11/1988 التي ارسلها المبدع الراحل قاسم عبد الامير عجام من محافظة بابل - ناحية المشروع / ادارة مشروع المسيّب الى نجيب محفوظ بمناسبة فوزه بجائزة نوبل .

نصّ الرسالة (1) :

 .........
تحية حارة واصدق التمنيات بموفور الصحة لعمر مديد من الابداع .ها انا اعود لتوي من امسية احتفالية اقامها اتحاد الادباء والكتاب في محافظة بابل تعبيراً عن سرور ادباء ومثقفي المحافظة بنهوض لجنة جائزة نوبل من كبوتها لتعيد اليكم حقاً كان لكم منذ زمن باختياركم للجائزة عام 1988 . وها انا استعيد مجدداً جو السرور والفخر الذي كان يلف الحضور جميعاً فاعود الى سروري الخاص لأرى ان كان يرقى فعلاً الى ما وضعنا فيه اختياركم للجائزة الكبيرة من تقدير للمعاني التي تمثلونها عطاء وابداعاً وسلوكاً .. واعود الى نفسي مرة اخرى متسائلاً عمّا اذا كنت قد وفقت وقد كنت محاضر الختام في الأمسية في ان اضع امام الحضور تلك المعاني التي ادركتها في عطائكم الثر ومثابرتكم النبيلة ... وحين اسعدني الحظ بمعايشتها قريباً منكم في مجلسكم الاسبوعي "بمقهى ريش" شتاء 1972 ازداد ادراكي لها عمقاً فكانت مادتي في مساهمتي بتلك الامسية . وحين استعيد استجابة الزملاء الادباء الحضور والحاحهم في دعوتي لنشر مساهمتي لما رأوه فيها من "جديد" اعاود التساؤل عما اذا كانت تلك المساهمة تستطيع فعلآً ان تكون تحية لك في عيد أدبنا العربي الذي صنعه فوزكم بجائزة نوبل أو فوزها بكم بتعبير أدق .
 
 لانني على فرحي الشديد الذي غمرني وانا اتلقى ذلك النبأ من اذاعة لندن صباح الجمعة 14/10/88 ، وهو الفرح الذي اغناني عن فطور ذلك اليوم واذاقني سروراً افتقده منذ سنوات ... لم اجد بي جرأة تكفي للكتابة اليكم بالتهنئة ربما لانني شعرت انني أنا أهل للتهنئة بجائزتكم لما نالني من احتفاء بما تمثلونه فناً ونبلاً ونزاهة . وهكذا بقيت استحضر لحظات الخير التي سعدت بها في مجلسكم واستقطر صفاء المعاني التي كانت ولم تزل خيطاً معقوداً بأدبكم في مصداقية باهرة ما أحوجنا اليها كقيمة ثقافية لحياة ثقافية واجتماعية نحلم بها . وهكذا لم اجد ما أساهم به في تلك الأمسية الا ذلك الخيط المتين بين مجلسكم انساناً معلماً وبين صرحكم الفني الجميل الذي ابدعتموه طوال عمر من الخصوبة والصبر الجميل والكلمة المختصة ... متتبعاً بعض حصيلتي التي منحني اياها قربي منكم .. متتبعاً اياها في اعمالكم ومواقفكم لنستحضر منها ( محاضراً ومستمعين ) تلك القيمة الثقافية التي تمثلون . وأياً كان حظي من التوفيق في اسهامتي تلك فانها تبقى وحدها مسرة لي وشرفاً كبيرين اضافة لسرورنا القيم بكم انساناً وابداعاً ، ولا يعدل ذلك الا قبولكم اياها حين تنشر ، بناء على رغبة زملائي .

هي تحيتي المتواضعة يا سيدي النبيل ، وهي بعض وفائي لما منحتنا اياه اضمها لتحية زوجتي التي كان لها حظ اللقاء بكم معي ... وتحية ( طفلنا ) الذي كان معنا في ذلك اللقاء وهو اليوم شاب يلاحق معي ما تنشره الصحافة عن جائزتكم بسرور كبير.


قاسم عبد الأمير عجام الى منضدة الكتابة في بيته
 
لعلكم سيدي تتذكرون ذلك المهندس الزراعي "المايكروبايوجيست" العراقي الذي جاء مصر متدرباً في الميكروبايولوجيا الزراعية (شتاء وربيع عام 1972) واطلعكم على مسودة مقالة عن "خمارة القط الاسود" التي نشرت فيما بعد في مجلة "الاقلام" العراقية بعددها التاسع العام 1973 لأفوز بعد نشرها برسالة منكم ... ذلك هو انا .اضفت لخبرتي التي نهلت في مصر قسماً منها جديداً بحصولي على شهادة الماجستير في المايكروبايولوجيا الزراعية من جامعة بغداد عام 1977 دون أن افارق الادب بل لقد انغمست فيه حتى ليصبح من سروري أن اكون في الصورة التي لوح بها الكثير من ابطال أعمالكم صورة العلم والفن متعانقين .. وعذراً للاطالة فشفيعي ان الفرح فياض وبحر محبتكم يمده بالمزيد.

اكرر تحياتي وقبلي على جبينكم المهيب وعمراً مديداً استاذنا العزيز .. عمراً مديداً ، خصباً وانت في القلب منا.(انتهى نص الرسالة).

 
يخرج قارئ الرسالة بملاحظات كثيرة : بعضها عامة ، والأخرى خاصة بشخص المرحوم قاسم :

1 الرسالة تجسّد عمق الرافد الثقافي في حياة الانسان العراقي عمقاً تؤيّده الشواهد في التاريخ القديم والحديث : فاكتشاف الكتابة منذ عام 3000 ق . م على هذه الأرض ، والمنجز المعرفيّ الضخم الذي خلّفته الحواضر العراقية : ( البصرة ، الكوفة ، بغداد ، الموصل ........ الخ ) في العصر العباسي والعصر الوسيط ، والنهم في تلقّف وقراءة ما يطبع وينشر في القاهرة وبيروت المقولة المتداولة في كثير من الاوساط العربية ، واقامة الأماسي والندوات الرسميّة والجماهيرية في البيوتات والمقاهي والمتاحف والمسارح بلا انقطاع خلال الحروب والأزمات العصيبة كلّها أدلّة تقطع بهذه الحقيقة ، حدّاً يبدو معه الانشغال الثقافي ومتابعة الظواهر الثقافية ورموزها وأعلامها وسائل يستعين بها العراقي على مواجهة الأزمات السياسية والاجتماعية التي تعصف بواقعه ، وامتصاص الصدمات والاحباطات المحيطة به ، وكأنّه بالثقافة يستردّ عافية وجوده ويفعّل طاقاته الخلاّقة التي يراد شلها أو قمعها أو صرفها باتجاهات غير بناءة ولغايات عبثية وفوضويّة ، فلا تكون الثقافة وسيلة "تطبيب" أو "تنفيس" بل ضرورة من ضرورات استعادة الوجه الطبيعي أو السويّ للحياة ، ومعنى من معاني "المقاومة الحقيقية": مقاومة الخراب بالثقافة .

ومن يدقق في التاريخين الواردين في الرسالة أعلاه : 14/10/1988 (موعد اعلان الجائزة) و 3/11/1988 (تاريخ كتابة الرسالة) ، يلمح صدق هذه التصوّر ، فالموعدان يقعان ضمن سياق لحظة حرجة جداً في الروزنامة العراقية السياسية المثخنة بالجراح ، فلم تكن الحرب العراقية - الايرانية قد مضى على انتهائها أكثر من شهرين ، والعراقيون ما زالوا لم ينتهوا بعد من احصاء خساراتهم البشرية والاقتصادية والنفسية الفادحة ، وقلّة من المثقفين الوطنيين - وقاسم منهم - كانت تعي جيداً حجم المأساة الحقيقية والمصير المجهول الذي ينتظرنا ادراكاً منهم أنّ الحرب أيّ حرب لا تخلّف سوى الرماد والفجيعة ، وهكذا كانت هذه الحرب الطاحنة بداية الدمار الشامل القادم- بالرغم من الادعاءات الكاذبة لطبول الاعلام المحليّة والعالميّة - .


ولكنّ المثقف العراقي في كلّ تلك المحن لم ينقطع عن زاده الثقافي ، لا بل قد يلوذ بهذا الزاد الروحيّ النوعيّ عن زاده المعاشيّ الاستهلاكي ، وهو ما ألمح اليه الراحل بعفوية مصوّراً ردّة فعله عند سماعه نبأ اعلان منح نجيب محفوظ جائزة نوبل :"وهو الفرح الذي أغناني عن فطور ذلك اليوم ، وأذاقني سروراً أفتقده منذ سنوات".وهكذا شارك المثقف العراقيّ في الاحتفالات التي عمّت العالم العربي في الاذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات واتحادات الأدباء في العاصمة والمحافظات في ذلك التوقيت الدامي من حياتنا الأمر الذي يعكس أكثر من دلالة :

الأولى : أنّ المثقف العراقي - بغض النظر عن الدور الاعلامي الدعائي الذي مارسته مؤسسات الدولة آنذاك مع أو ضد نجيب محفوظ - كان منشغلاً فعلاً وطوعاً بالحادثة وأهميّة التفات العالم الى المنجز الثقافي العربيّ بعد طول جحود ونكران ، مّما يمثّل صورة من صور انتصار عنفوان الحياة داخل الانسان العراقي على خرائب الموت المحيطة به .

والدلالة الثانية : حيويّة هذا الوعي الثقافي المنفتح على المنجز العربي والأجنبي القديم والحديث خارج الحسّاسيّات الاقليمية أو الطائفية أو العرقية أو الدينية الى حد ما بل انّ المشهد الثقافي العراقي يبدي في العادة احتفاء ملحوظاً برموز الآخر وأعلامه أكثر من احتفائه بأعلامه ، وهو توجه يحمل مؤشّرين متناقضين اذا بولغ فيه - : لأنّه بقدر ما يرصد انفتاحاً وتفتحاً على منجز الآخر فانّه يرصد تجاهلاً أو غفلة أو تجاوزاً للمنجز المحلي ، على خلاف ما نجده في ثقافات الشعوب الأخرى من تضخيم و تفخيم لأعلامها و انجازاتها .

2 تكشف الرسالة على المستوى الانساني نبل شخصية قاسم عجام وأريحيّتها وهي تتفجّر في عبارات الترحيب والتهليل وكأنّها تعيش لحظة انتصار : "شعرت انني أنا أهل للتهنئة"، هذا النبل الذي لا ينسيه الآخرين المحيطين به فسيتذكر زوجته وابنه واصدقاءه في اتحاد أدباء بابل ، فمن طبعه أن لا يستأثر بالأشياء وحده فكيف اذا كانت لحظة فرح ، وهكذا راح يتحدث عنهم بحبّ غامر:"أضمّها لتحية زوجتي التي كان لها حظّ اللقاء بكم معي .... وتحية ( طفلنا ) الذي كان معنا في ذلك اللقاء وهو اليوم شاب يلاحق معي ما تنشره الصحافة عن جائزتكم بسرور كبير" ، وتبدو كلمة"يلاحق" بليغة جداَ في دلالتها على عمق الانشغال الثقافي وجديته عنده وهما بعض ما كان يفيضه على من حوله من اهتمامات وتطلعات .

3تومئ الرسالة من بعيد الى مشروع قاسم المعرفيّ الذي جمع فيه بين التخصّص العلميّ والمتابعة الأدبية والفنيّة المثابرة والرصينة على نحو يشكّل فيه مع قلّة من نظرائه ظاهرة متميزة في الثقافة العراقية المعاصرة ، فالعلم والفن جناحا الثقافة اللذان حلّق بهما (2) لأنّه وجد فيهما جوهراّ متكاملاّ وليس متناقضاّ كما يتوهّم البعض ، وعلى نحو ما وضّح من واقع تجربته الشخصية :"وهذا ما ينسجم تماماّ مع ما توصلت اليه الدراسات العلمية المتعلقة بالابداع والتطور العقلي من أنّ الانجازات الفنيّة عموماّ والانجازات العلمية تنبع من مصدر واحد لدى الانسان وبنفس الطريقة ، فما يعرف في الفن بالالهام موجود على الجانب العلمي أيضاّ ........ وفي الحالتين يلعب الخيال دوراّ كبيراّ في الكشف الذي يتبلور عنه .... ان الخيال ليس ضرورياّ لانبثاق الاكتشاف وتناسقه فحسب وانما لفهم كثير من الصيغ والرموز العلمية المنشورة كالصيغ التركيبية للمركبات العضويّة ولفهم كيفية حدوث تفاعلاتها الكيمياوية وما ينتج عنها فانّ القدرة على تحليل تلك التراكيب وارتباطها يضيء تماماّ ميكانيكية تلك التفاعلات وهذا ما جربته أنا في درس الكيمياء العضوية"(ثقافة أم ثقافتان :ص 3 و4).

وهكذا تعدّدت بحوثه ومحاضراته في مجال تخصصه العلمي والمهني في العلوم الزراعية / أحياء التربة المجهرية (3) ، كما تعددت دراساته ومقالاته ومحاضراته في مجالات أدبية وفنيّة متنوعة ، منها : في نقد الرواية والمسرحية ، وفي النقد التلفزيوني اذ كان من المجيدين فيه على قلتهم في العراق ، وفي السينما ، وفي العمارة .وكلّ ما تقدم يجعلنا نفهم بوضوح عبارته في الرسالة " من سروري أن أكون في الصورة التي لوح بها الكثير من ابطال صورة العلم والفن متعانقين".

4 نجيب محفوظ نتاجاً وشخصاً ليس محطة عابرة في حياة قاسم الثقافية ، بل هي بعض أهمّ مرتكزاتها ، لقد قرأ مبكراً رواياته وقصصه وحواريّاته بشغف واستيعاب قراءة فاحصة تمخّضت عنها أكثر من دراسة جادة (4) رصدت قيماً فكرية وأيديولوجية معينة ظل قاسم يؤمن بها بيقين لم تزعزعه الانتكاسات التي منيت بها الحياة السياسية في العراق ودول العالم الثالث اذ جرى اجهاض أكثر الحركات التحررية والوطنية ولم تزعزعه التحولات الجارفة للثقافة في ابتعادها عن قضايا الجماهير والوطن ، وهي الرؤية التي ظل يلتزم بها التزاماّ فكرياّ وعقائدياّ، فأدب نجيب محفوظ بالنسبة له أنموذج راق يبرهن على أهمية "الواقعية" وتجدّد معطياتها وتنويعاتها في الأدب والفن ، وهو ماظلّ يدعو له باخلاص من أن الواقع منجم ثرّ للفكر والأدب وأنهما من الواقع واليه شرط توفر العناصر الكفيلة باثراء هذه الرؤية للحيلولة دون الوقوع في الجمود والرتابة والأحادية ، ومن هذه العناصر : وعي الأديب ، ورهافة احساسه بما حوله ، وتوظيفه الابداعي لأدواته الفنية ، وهو ما تحقق في أدب محفوظ اذ الصلة "دائمة متزايدة العمق والتجدّد بين أعماله الروائية ومراحل التطور الاجتماعي التي تصدر خلالها ....كنّا نرى في تلك المواكبة المثابرة للتطوّر الاجتماعي اخلاصاّ للمسؤولية الاجتماعية للمبدع وللابداع ، فانها أيضاً انعكاس لموقف متقدم يرى نجيب محفوظ الأدب باعتباره حلماّ فردياً يلتقي بأحلام الجماعة"(5).وان تطوره فنياً وتقنياً :" لم يتمّ لمجرد التجديد أو ملاحقة صيحة من صيحات المدارس الفنية ....... بل ان ذلك التطور حكمته قضيته الأساسية ... ادراكاً لحقيقة جوهر التطور الفني باعتباره تطوراً متصلاً بالتطورات الاجتماعية ذاتها .... وبذلك يكون تطوراً محفوظاً فنياً اخلاصاً لقضية الادب وما يتطلبه من تجديد بمثل ما هو اخلاص لقضية الدور الاجتماعي للابداع الأدبي"(6) .


ثم اتيح له أن يلتقي نجيب محفوظ في القاهرة سنة 1972 ، ولا يخفى أن لقاء المبدعين حالة ذات وجهين : فقد يثري هذا اللقاء علاقتك الروحية والفكرية بالمبدع ويعزّزها ، وقد يطيح بها ، فكثير من المبدعين كبار بما ينجزون ، ولكنهم ليسوا كذلك على المستوى الحياتي سلوكاً وعادات ، ما حدث لقاسم كان شيئاً مختلفاً فقد عاش لذة حقيقية في هذا اللقاء واستمتع بمواقف وقيم عرض لها بالتفصيل في الحوار الذي أداره مع محفوظ ، ونشر في مجلة "الثقافة" العدد 9 - أيلول 1972 ، ثم اعاد استلهام تلك القيم في الامسية التي أقامها "اتحاد أدباء بابل" بمناسبة جائزة نوبل كما ذكر في الرسالة وكانت المحاضرة بعنوان :" نجيب محفوظ بين مجلسه واعماله" ، لقد أعجبت بتواضع نجيب محفوظ ، وروحه الشعبية الساخرة التي استطاعت أن تستقطب شرائح وطبقات مختلفة من الناس ، وايمانه بالآخر وحريته ومعتقده وحقه في قراءة نتاجه ونقده من غير ان يمارس المؤلف عليه سلطة أو تعسفاً ، وكان قاسم شاهد عيان لبعض المواقف الدالة في هذا الجانب : "حين صدرت رواية "المرايا" كنت هناك (1972) ، وجاء الناقد فاروق عبد القادر وجلس في مواجهته وأعلن أنّه قرأ "المرايا" وله عليها ملاحظات وانطلق يقلبها ذات اليمين وذات الشمال بدءاً من شكلها ومدى امكانية اعتبارها رواية مروراً ببناء شخصياتها وصولاً الى تقسيمها الى دوائر أو مجاميع للشخصيات ، ونجيب مصغ اصغاء تلميذ لاستاذه .... .وحين استأذنت أنا لابداء ملاحظة التفت نحوي ضاحكاً بالطريقة ذاتها ليقول :وانت ايضاً ؟ اذا كان فاروق يلبس النظارة وقال ما سمعت ، انت شايف فيّ ايه ما دام حضرتك "بكتريولوجيست" وتشوف حتى الميكروبات المجهرية ؟

وبمثل هذه الروح يصغي ويناقش كلّ من يعرض رأياً مهما كان حساساً في أدبه أو في قضايا عامة ، وكثيراً ما كرّر أنه يجد في آراء بعض النقاد ما يحفزه على العودة الى اعماله ليمتحن فيها تلك الآراء لعلها تكشف ما لم يكن منتبهاً له"(7).

وأثنى على تبنيه في مجلسه للشباب قوىً وطاقات واعدة بالمستقبل ، ولذلك آمن بحقها في التغيير والتمرد على السائد والمألوف وابتكار أشكال وصيغ جديدة في التعبير عن رؤاها وأحلامها .ووجد في اخلاص محفوظ لحضور مجلسه موقفاً مبدئياً آخر موازياً لاخلاصه في ابداعه من حيث أن هذه المجالس منابع دائمة لهذا الابداع بما ترفده به من حيوات وشخصيات وأفكار متباينة ومتنوعة ليغرف منها جميعاً " وأول ما يحسّه من تعرّف على مجالس نجيب محفوظ أنّه يأتي اليه ويمضي فيه وقته بجدية بالغة تعبّر عن اخلاص شديد لقضية الأدب وعالم الفكر كجزء من اخلاص أشمل لقضية الانسان ، فليس موعده مجرد جلسة في مقهى ولذلك يحرص عليه حرصه على قضاياه الأخرى حتى أصبح وفاؤه لموعده ذاك من ثوابت حياته ، ولعلكم سمعتم أو قرأتم أنه غافل جمهور المهنئين والصحفيين وعدسات التلفزيون المحتشدين في بيته وأمامه لتهنئته بجائزة نوبل لكي يمضي الى مجلسه الاسبوعيّ في كازينو قصر النيل .......مثابرة تشير بحد ذاتها الى اخلاصه في ادامة نبع عطائه الفني"(8).

انها القيمة التي تبناها الراحل قاسم وهو يواكب الحضور والمشاركة الفعلية في البرامج الثقافية في أماسي اتحاد الأدباء ببابل الذي كان أحد دعائمه الأساسية ، ومحركاً اساسياً لكثير من اماسيه ، وجزءاً من ايمانه بجدوى مثل هذه الفعالية في نشر الثقافة بين الجمهور على تنوع مستوياته الخاصة والعامة ، وغرس هذا التقليد الحضاري فيهم .

5بقي شيء آخر مشترك بين المرسل والمرسل اليه ، أشير اليه بأسف يتعلق بالمصائر الدامية التي ينتهي اليها عندنا أصحاب الكلمة الحرة ، مصائر لا تليق بتواريخهم البيض ولا بمساعيهم الخيرة ، ولكنها الحقيقة الماثلة للعيان ، ولئن خابت الطعنة "المصرية"التي استهدفت رأس نجيب محفوظ وفكره ، فان الطلقات الغادرة في الزمن" العراقي الأهوج أصابت تماماً في 17 / 5 / 2004 ، فأسلمتنا الى مرارات الحزن والفقد .


الهوامش والمراجع

(1) تفضّلت أسرة الراحل قاسم عجام وأطلعتني عليها ، وأخصّ بالذكر والشكر منهم الاستاذ طه محمد حسن .

(2) تنظر مثلاً بعض دراساته : "جناحا النهوض : تأمّلات في موضوعة الثقافتين الأدبية والعلمية " ، مجلة آفاق عربية ، العدد 12 ، 1982 و"مواصلة الحديث في العمارة" ، آفاق عربية ، العدد 8 ، 1985 ,"ثقافة أم ثقافتان : دعوة للتفكير العلمي وضمّ رافدي الثقافة" ، بابل 16/1/988 .

(3) ينظر : الكتاب الذي أصدره عنه اتحاد الأدباء والكتاب - فرع بابل ، وهو بعنوان : "النور المذبوح : قاسم عبد الأمير عجام ، عين ثقافة العراق " : اذ وردت في السيرة العلمية ص 4-8 أسماء كثير من تلك الدراسات العلمية المتخصصة .
(4) على سبيل المثال : "الخوف والتخلف والموت في خمارة القط الأسود ، مجلة الأقلام ، بغداد 1973"،"رموزنا الثقافية بين الاستثمار والاهدار"الحلة 20/1/2003م .
(5)،(6)"نجيب محفوظ بين مجلسه واعماله" ص 3، 4، 8، 9.

(7) (8) م.ن : 11 ، 12 ، 2 .

* جاء اختيار هذه المادة ضمن فصل "مذكرات أو أشبه" كونها تتعلق بواحدة من أهم مراحل حياة الراحل، وتتعلق بايامه بصلته العميقة مع مصر وثقافتها وفي القلب منهما نجيب محفوظ.

**هامش المحرر:اختيار هذه الدراسة للدكتورة نادية العزاوي جاء اشارة الى جهد لافت للباحثة في مراجعة اعمال قاسم عبد الاميرعجام وسيرته الفكرية.الى جانب نباهة الباحثة في الوصول الى عنصرين ظلا يغذيان النتاج الفكري للراحل: الثقافتين الادبية والعلمية.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM