نور الأوراق السُمْر

تاريخ النشر       02/11/2009 06:00 AM


قاسم عبدالأمير عجام*

دعوني اقاوم لجلجة الحديث عن النفس بالبدء في الحديث عن آخر لن يلبث ان يقودني الى حيث جئت لأعرضه امامكم، ودعوني أقلب في اوراق الشأن العام لعلي اجد بينها مدخلا سلسا الى الأنا.
ولعلها محاولة ميسرة ما دمنا اليوم في عيد من أبهى الاعياد التي تطلق أناشيد اهل الكلمة واقلامهم في سماوات من الذكريات والامنيات، انه عيد الصحافة العراقية، التي تستقر اليوم على قاعدة عريضة من تجارب الكلمة المسؤولة وترفدها بأنهار من سطور الحُلم بغد كريم للعراق وحاضر جميل لأهله، وتتألق في تلك السماوات نجوم لا تُنسى من شهداء الكلمة الموقف ... كان لكثير منهم – إن لم نقل لكل منهم – سماته ورنين صوته الخاص فرحلوا لتبقى سطورهم ترفد التجربة الصحفية وترفد الشخصية العراقية بمثل المصابرة والثبات على الموقف النبيل.


نعم انه لشرف لي ان استعيد شيئا من ذكرياتي المتعلقة بالصحافة والتعامل معها في هذا اليوم، واذا كان صديقي العزيز شكر حاجم قد اسماها "تجربتي مع الصحافة الثقافية"، فله ما يرى، لكنني – دونما أي ادعاء بالتواضع -  اتلجلج في تسميتها تجربة، ولذا أسارع لاستدعاء ذكرياتي مستعينا بشرف المناسبة لعرضها بانتقاء تفرضه فسحة الوقت المتاح لتذكر كهذا ولكم بعدها ان تجدوا فيها ما ترون، تجربة ... ذكريات تكوين ثقافي ... حكاية حلم مستمر كان يتجدد بالكتابة أو يستمد منها حيوية مضافة كي يستمر في الاتقاد استمراره في إشعال القلب بآمال وانتظار ما هو أجمل.

***

هذه أوراق ملونة كانت في ادراجي منذ سنوات ... أهدانيها أخ عزيز وأخجلني إذ برر هديته بانها تحية لجمال قلمي واعجابه بخطي، ولست ادري لماذا ظننت بها كلما احتجت ورقا لموضوع كتبته حتى اللحظة التي بدأت أدير بها البدء بهذه الذكريات – وما اصعب البدء في الكتابة بالنسبة لي - !! فاذا بهذه الاوراق الملونة تقفز الى الذهن باعتبارها أحلى ما يليق من اوعية الكتابة لاحتضان ذكرياتي عن الصحافة...
واقول عن الصحافة، ولا احددها بالصحافة الثقافية، لأنني بدأت اولى صلاتي وتطلعاتي الثقافية بتلك الصفحات السمر ذات الرائحة المتميزة التي تسمى الجرائد، ومن خلال الاضواء التي كان يشعها هذا القلم او تلك المقالة كنت استشرف عوالم قاص لم اسمع به من قبل او شاعر ما، وبين خبر او اخبار على صدر هذه الجريدة، وخبر أو اخبار في محليات، تلك كانت اكثر من معلومة تسري واكثر من سؤال ينهض والمحصلة حافز على مواصلة المزيد من القراءة والمزيد من الاستفهام عما وراء سطور الأوراق السمر أو صفحات الكتب التي اشارت إليها.
واقول عن الصحافة، ولا احددها بالثقافية، لأنني بعد عمر من معاشرتها بالإصغاء او المشاكسة، بعد عمر من الاختلاف والاتفاق، أؤمن ان الصحيفة، والصحيفة المسؤولة خاصة،مدد ثقافي دائم، ولو أحصى كل منا حصيلته من صحف سنة واحدة مثلا او حتى عدة شهور لربما أدهشته الحصيلة، معلومة أو معلومات في الجغرافية، ومعلومة او معلومات في جديد علوم الطبيعة، وجديد أو مفاجيء في وقائع معاشية قائمة لا ندري بها، وسيرة أو شيء من سيرة لسياسي راحل او مفكر مقيم، وصدى لعمل فني أو اصداء لواقعة سياسية، تحليل لواقع اقتصادي تعاني منه دولة افريقية، وضوء على خلافات سياسية تهز النظم في بلاد آسيا !!... كتاب في الأدب، وقصيدة أو نقد لعمل سينمائي، واسماء تدخل الذهن والقلب واخرى تستدعي الاستنكار ... وغير ذلك كثير، قد يجتمع كل ذلك في يوم واحد أو يتعاقب عبر ايام الاسبوع، صحيح انه وحدات صغيرة ولكن الوحدات إذ تتشابك او تتجاور تشيد بناء، ولو دققت بها أو حتى بما احتفظت به منها، لرأيته مكونات لا غنى عنها لمثقف أو لساعٍ الى ثقافة، نعم وحتى الاعلانات التي تنشرها الصحف تحمل من زمنها معنى أو مؤشرا أو دلالة اجتماعية فكرية، ولو توفر لها عقل يقظ وضمير باحث لوجد فيها قاعدة لبحث علمي رصين في دائرة أو حقل مما يختص به مفكر أو سياسي أو عالم اجتماع، ولقد انجز د. رفعت السعيد فعلا دراسة اقتصادية – سياسية عن المجتمع المصري في بداية السبعينيات استنادا لتحليل دقيق للاعلانات المبوبة التي كانت تنشرها الصحف المصرية في تلك الفترة، بل وقد استشرف في دراسته تلك التي نشرتها مجلة "الطليعة" عام 1972 مستقبل الاقتصاد المصري وبعض ازمات المجتمع المصري وهو ما حدث مع ما عرف بالانفتاح الاقتصادي. الصحافة، كما ارى، لون من الثقافة وقاعدة للثقافة العامة اما ما نسمع او ما نتداول تعبير "كلام جرايد" او ما يشبه فتلك قضية اخرى.
هي إذن، كما ترون، ثقة كبيرة بالصحافة واشعر انها ثقة في محلها مع إدراك كامل لخطورة الانحراف عن تلك القدرة على التثقيف باتجاهات ضارة، انتهجتها صحف تملكها مؤسسات لها اهدافها البعيدة عن ذلك في الكثير من دول العالم،وفي عالمنا العربي للأسف أمثلة عديدة منها.     
على ان تلك الثقة ان كانت حصيلة متابعة طويلة عبر مرحلة الوعي فان جذرها ينتمي الى نوع من الألفة يمتد الى الصبا.
***
كان وجيها من وجهاء محلتنا في مدينة المسيب ... وكانت علوة الحبوب التي يملكها ويديرها تقع في مقدمة زقاق بيتنا، فكان لا بد من مروري عليه كلما خرجت من البيت او عدت اليه ... وكنت أراه بطوله الفارع يتابع عمله وراء مكتبه أو قرب القبان دون ان يخلع عقاله،اما حين يكون خليا من العمل فانه ينصرف الى جريدته ينشرها امامه مقبلا على قراءتها بشغف وكثيرا ما اعترضني – معتمدا على مابينه وبين والدي من صلات المودّة – وعلى مابين اسرتينا من جوار في السكن – ليجرني الى محل جلوسه وغالبا ما كان والده الشيخ يجلس قريبا منه ليطلب مني قراءة سطور في الجريدة أو تهجِّي جملة او آية قرآنية ليستمتع بقدرتي على الاجابة الصحيحة رغم صغري،فقد كان امر تفوقي في اتقان قراءة القرآن منذ الصغر معروفا حتى خارج محلتنا،بفضل والدتي وخالتي رحمهما الله اللتين تولتا تعليمي القراءة حد الاتقان،وانا مدين لهذا الاتقان لأنه حبب لي القراءة والكتابة ولولاه ما كان الذي كان في حياتي.
ولم يكتف المرحوم حمادي هذا بذلك وانما كان يرسلني الى صاحب المكتبة لأجلب له جريدته إن تأخر وصولها اليه،كانت جريدة "الشعب"وفي أحيان متباعدة "الزمان"  ربما في عطلة "الشعب"، وكنت إذ أعود اليه بها أقرأ اغلب عنواناتها الرئيسة دون استيعاب طبعا لما تتحدث عنه،ولقد ظلت الجريدة اليومية وحمادي ومكتبه في العلوة مشهدا يوميا لم يتوقف حتى ثورة الرابع عشر من تموز ... لكن استمراره غرس بي أول احساس بأن الجريدة لا بد ان تكون ضرورية كالزاد بحيث لا يخلو منها مكتب هذا الرجل – وانها يمكن ان تقرأ لا من قبل (الافندية) فقط وانما من قبل رجل كاسب يرتدي الدشداشة والعقال او الصاية والعقال مثل حمادي.
 ذلك لقائي الاول المتجدد طويلا مع جرائد العهد الملكي .... لكن لصباي محطة ثانية مع الصحافة الثقافية المتخصصة أيضا،فقد كنت في الصف الثالث الابتدائي او الرابع ... حين كنت اذهب ايام الجمعة او العطلة الى دكان الخياطة الذي يملكه ابن خالتي،ويلتقي فيه عدد من شباب المحلة بينهم جارنا الأعز هادي أو هادي السيد كما كان يلقبه الناس( نسبة الى أمه العَلَوية) وكان قارئا نهما أشاد في بيته المجاور لنا مكتبة مدهشة في وقتها ... وبينهم واحد من معارفنا وهو جندي لكنه يقرأ ... فهو جندي كاتب, ،وكنت استمع لأحاديثهم التي تتردد فيها اسماء سياسية وأدبية وعناوين مجلات وجرائد ... وفجأة يلتفت الجندي نحوي ليسألني : هل تذهب الى المكتبة وتجلب لنا مجلة "الآداب"؟ ... لم أسمع بهذا من قبل ! لكنني أطعت،وقد وضع في يدي مبلغا مرعبا إنه 120 مائة وعشرون فلسا ثمنا للمجلة،أيعقل هذا؟ أكل هذه الثروة ثمنا لمجلة؟ أسرعت بكل تلك الدهشة لأرى هذه "الآداب" الغالية ... وعدت بها متصحفا،وما زلت اتذكر ان العدد الذي جلبته كانت تتصدره قصيدة نزار قباني "خبز وحشيش وقمر" وما اكثر اعجابي وقتها بخط العنوان!!
وحين سلمت المجلة لفاضل،وهو الجندي،أدهشني بطريقة ترنمه بالقصيدة وانفعال الآخرين بها،ليثير بي تساؤلات خفية عن قدرة الجندي على دفع 120 فلس ليشتري مجلة لا صور فيها !! وعن السر الذي يجمع بين خيّاط وجندي وطالب مدرسة ليصغوا الى قاريء مجلة !!
حاولت ان اقرأ فيها حين تركوها على ماكنة الخياطة ... لكن احدهم – لعله كان هادي – قال لي باسما ... لا تستعجل !! لكنه بذلك أشعل فضولي، ولكن كيف؟
اذا كان ممكنا إدخار 12 فلسا أو اربعة عشر فلسا فيما بعد ثمنا للجريدة ... فأي دهر سيمضي لجمع 120 فلسا؟وما بين جريدة حمادي اليومية وجرائد ومجلات دكان الخياطة إياه؟ تقدمت الى الصف السادس الابتدائي وقد امتلأت بالرغبة في ان تكون لي جريدتي أنا ... أسوة بأحب أساتذتي إلي في المدرسة وهو يطوي جريدته حول كتابه الذي لا يفارقه وهو يدخل الى الصف ... حتى إذا ادخرت ثمنها اسرعت الى المكتبة واشتريت ... أي جريدة تتوفر لديك يا عم؟.... فكانت جريدة "البلاد".
سمراء تكاد تميل الى الصفرة كانت اوراقها، وكان عنوانها الكبير جميل الشكل بخط الرقعة غامق السواد :"طلّق الشاه ..... ثريا"!! وماذا يعني ذلك؟ لا ادري ولكنني الآن امتلك جريدة،هل اقول لحمادي ام اقول لهادي اولا؟ وماذا ترى سيقول والدي لو علم؟؟ ... الكتمان سيد القرارات ولكن لا بد من قراءة الجريدة رغم كل الامتحانات !!
على الصفحة الاولى انزوى خبر صغير يقول عنوانه : "إستقالة الفريق عفيف البزري من رئاسة اركان الجيش السوري"، وفي احدى الصفحات الداخلية عمود موقع باسم كاتبته :سلوى زكو،عجبا،هل تكتب النساء في الجرائد؟؟
في دكان الخياطة سخروا من خبر طلاق الشاه لثريا كما استمعوا اليه في نشرة اخبار الراديو،لكنهم بالمقابل اهتموا بالخبر الصغير ... خبر استقالة الفريق عفيف البزري, وهذا درس آخر في التعامل مع الاخبار الصحفية،وجدتني انتبه اليه مرة بعد مرة،ولا عجب فالخبر خلاصة موقف او مواقف بالارتباط ربما باكثر من قضية أو طرف.
***
وتفجرت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958, فصدرت صحفها تباعا،حقا ان الجرائد التي كانت تصدر قبل قيامها قد غيّرت ثوبها وعناوينها ولذا هجرها الناقمون على الثورة وكان حمادي أولهم إذ اوقف اشتراكه بالجريدة ولم يسمح نفسه حتى مجرد الاطلاع على ما تكتبه صحف العهد الجديد،أو حتى صحف العهد الملكي ما دامت قد غيّرت منهجها !! لكن الصحف الجديدة اختلفت في الشكل والمضمون.
 لم يعد صاحبنا،أو صاحبكم،مجرد صبي يحسن القراءة،فقد امتدت يده الى رفوف مكتبة جاره الأعز هادي وقرأ مستمتعا اكثر من رواية من روايات جرجي زيدان عن تاريخ الاسلام ... وقرأ اكثر من جريدة من جرائد العهد الملكي وألفها ... ولذا كان طبيعيا ان يتابع جرائد العهد الجديد.
والحق انني واكرر ذلك،صنيعة ثورة 14 تموز،على ان الدقة تقتضي ان احدد انني صنيعة صحفها الجديدة بالذات،اضافة لتأثيراتها الاخرى،إذ لم تكن تلك الصحف مجرد حاضنة لمواقف الثورة او مجرد داعية للنظام الجمهوري،وانما تجاوزت ذلك الى بناء سماتها الثقافية باكثر من اسلوب ... غير انها تلتقي فيما يمكن اعتباره شمولية التثقيف حقا،ان قضايا الثورة والنضال ضد الاستعمار والاستعمار الجديد،كما كان يتردد وقتها، تأخذ الحيز الاكبر في معظم الصحف إلا ان القاريء يجد نفسه شاء أم أبى في خضم حركة الاحداث العالمية،والتطورات الاقتصادية في البلدان المتقدمة واضواء على النظريات الفكرية والاقتصادية او مناقشة لها،ناهيكم عن التعريف بأعلام الأدب والفن والحركة الثقافية العالمية والعربية.
ولست هنا في باب تقويم تلك الصحافة ولكنني اشير اليها باعتبارها عامل جذب مدهش ومهاب معا للقراءة وحافزا للمتابعة، بل سمِّها الملاحقة، خاصة وان المكتبات قد امتلأت بكتب تفرض الحيرة على من يختار ... أدب،تاريخ،سياسة،اقتصاد ... الخ،فاذا علمنا ان تلك الصحف تتابع يوميا تلك الكتب إن لم يكن بالتعريف والعرض او النقد،فبنشر خبر عن الاصدارات ... او على الاقل بالاعلان عنها،فلنا ان نتصور حيوية العلاقة المتبادلة بين الكتاب والجريدة،وحيوية تأثيرهما المشترك على الجمهور القاريء الذي كنت واحدا منه ... وبالذات واحدا ممن شدتهم توقيعات معينة أو اسماء تكتب أعمدة يومية أو سياسية لما فيها من خصوصية الاسلوب وعوامل البناء الفني للمقال.
وإذا كان بي ميل مبكر للقصة – بتأثير عوامل عدة لعل ابرزها تأثير الوالدة وسحر قصصها – فان حفاوة تلك الصحف بالقصة القصيرة،الى جانب الوان الأدب الاخرى،قد صادف ذلك الميل ليكون بحثا عن القصة في اكثر من صحيفة يومية أو اسبوعية وقد حدثتكم من قبل عن تأثير استاذنا السيد هادي الياسري في هذا المجال من خلال قصصه في جريدة "الحضارة"الاسبوعية،وجاء الوقت الآن كي احدثكم عن ذلك الصديق الكبير الذي اشرت اليه قبل قليل بالجندي الكاتب،فقد تلمس بي ذلك الميل القصصي فإذا به يفتح لي عالما من اسماء كتّاب القصة العرب والعراقيين والأجانب ... وكان قد قرأ لي ذات يوم قصة له منشورة في مجلة الاسبوع التي كانت تصدر كملحق لجريدة"الشعب" ،وبذاك وباختياراته،وبما تنشره صحف تلك الايام،ألقى بي بذرة الهوى القصصي لتجاور بذرة الطموح لكتابة مقالات كالتي تحتل اركان صفحات جرائدها،ويبدو ان بذرة المقالة كانت اكثر حيوية من بذرة القصة،إذ كانت المقالة اول ما كتبته مبتدئا بالنشرات المدرسية التي كانت كل منها تطمح ان تكون جريدة!!
 وكانت المقالة او ما كتبته للجرائد لتكون اول ما نشر لي وكان ذلك عام 60 أو 61، بعد ان تلقّى ميلي الأدبي دفعة من الاطلاع والالمام باصول الكتابة مما حدثتكم عنه وانا أقر امامكم بفضل استاذي سعدي عباس علوش الذي كان يدرسنا اللغة العربية والادب العربي في متوسطة الحلة عام 59-60،فكان ان أثمر الهوى الادبي والاحساس بالالمام بمباديء اللعبة الادبية،مقالة ارسلتها الى جريدة "الرأي العام" مع رسالة لرئيس تحريرها فيها بث عن معوقات تحقيق الطموحات الأدبية والثقافية للشباب في مدينة صغيرة كالمسيب،وإذ نشرت المقالة كاملة والرسالة ايضا لتشغلا اكثر من صفحة كاملة مع تنويه للمحرر في ركن آخر من اركان الجريدة بالمقالة والرسالة باعتبارهما مثلا لما اثمرته الثورة في الشباب من تطلعات وقدرات ثقافية،اصبحت الكتابة هي الاستمرار الطبيعي للقراءة الجادة والثقافة المسؤولة ولا بد من امتلاك أدواتها وكان الجو الذي نحياه يشعل الرغبات الكبار،وكان الشاب محاطا بالعديد من الاضواء الهادية ... المعلمون في المدرسة،الصحف وما تنشره،المثقفون أصحاب التجربة !!...
  تكرر النشر إذن، ولم تعد "الرأي العام" وحدها محط الأمل،ولذا كان الفرح يتفجر بي كلما فتحت لطرقاتي باب اخرى من ابواب صحفنا،ويستدعي موضوعات أُخر ويحفز على تجويد مضاعف ...لتنشره "الحضارة" ثم "الثبات" و"البلاد"... وغيرهما.
 لم يكن ثمة وسيط بين الجريدة والقلم الجديد،إذ لم اعرف لأي من تلك الجرائد مكانا او مقرا سوى عناوينها البريدية، فكنت ارسل لها بالبريد ويأتي الجواب نشر المقال مؤطرا كي يحتل عمودا على الصفحة الثانية مرة أو في الصفحات الأدبية مرات،بل اذكر ان محرر الزاوية الثقافية في جريدة "الحضارة"،ولم اعرف من هو،حين أغلقت الجريدة تحول الى جريدة اسبوعية اخرى هي جريدة "الانسانية"، نشر في هذه الاخيرة نداء الى عدد من الاسماء كي تواصل كتابتها في صفحتي الأدب والطلبة للجريدة، وكان من بين الاسماء محمد الجزائري وأسمي وآخرين مع اني لم اكن قد نشرت في "الحضارة" كثيرا، انه الاستعداد لاحتضان الجيد والواعد دونما وساطات أو معايير سوى الاتقان.
وبعد العديد من المقالات والخواطر وقصة او قصتين صرت اتطلع نحو الفوز بالنشر في المجلات الشهرية الثقافية والاسبوعية خاصة مجلة "المثقف" ومجلة"14 تموز"الاسبوعية ... إلا انها اغلقتا مع ما اغلق من صحف حين ارتدت الثورة على اعقابها وتفشّت الفوضى والاحتراب ومحاربة الرأي،بل ان الاحتراب السياسي قد افرز احترابا صحفيا شرسا خرج عن معايير الحد الأدنى اللازم لهيبة المطبوع العام إذ أدمنت عدد من الصحف، الشتائم والتحريض ضد الخصم مما افقد الصحافة كثيرا من الهيبة،على ان ذلك موضوع آخر.
محصلة صحافة تموز ....
لست هنا بالطبع لسرد وقائع متسلسلة عن تطورات ومفاجآت الصحافة العراقية مرحلة فمرحلة وانما وقفت عند صحافة ثورة تموز الاولى لانها بالنسبة لي اساس تجربتي لا مع الصحافة الثقافية كما في عنوان هذا الحديث فحسب وانما اساس علاقتي بالثقافة عامة. فان محصلة تأثيراتها المختلفة ان الكتابة مسؤولية خطيرة وانها لا بد ان تنبض نبض عصرها وان تنغمس في هموم ومتطلبات التقدم وانها لا بد ان تنطوي على حرارة من ذات الكاتب وسمات الشخصية كي يمضي للمساهمة في احداث عصره ومجتمعه.
وان الصحيفة،لا بد ان تضع القاريء في محيطه محليا واقليميا وعالميا ... بما لا يجعل القاريء اليومي غير المثقف غريبا عن الجو الثقافي بل على العكس ينمي فيه ثقافة تزداد رصانة بالتراكم والتغذية المستمرة بالمعلومات والمستجدات ودراستها او محاورتها، وانها تفقد دورها ومبرر صدورها اذا تخلت عن هذا الدور الاعلامي والتثقيفي.
لذلك ليس مبالغة ان أقول ان عرس الحرية الصحفية القصير قد اضاف لعمري عمرا ووعيا جعلني أزن الممارسة الصحفية بمعايير الثقافة وحق القاريء بالاطلاع على الحقيقة واحترام عقله وسعيه للتواصل مع ايقاع عصره ووقائعه وأولا وقبل كل شيء مع قضاياه ومفردات حياته.
بتلك المحصلة تلقيت صحافة الستينيات التي راوحت بين شتى المتناقضات وتجاذبتها تيارات متغيرة،تبعا لمتغيرات موضوعية وذاتية تتعلق بهذه الصحيفة او تلك،غير انها لا تخلو من ومضات لها آثارها بين الحين والآخر،ولكن دونما اضافة عميقة يمكن ان تدعيها أي من صحف تلك الفترة الرسمية ... إلا من خلال هذا الصوت أو ذاك الذي يرتفع في هذه المناسبة او يجد صداه في صحيفة اخرى،بعد ان تسلل شباب الثقافة الستينيون الى الصفحات الثقافية في الجرائد الصادرة آنذاك،على ان الامانة تقتضي التنويه بجريدة "الانباء الجديدة" واحتفائها بالكتابات الجديدة وبدور عبد الرحمن مجيد الربيعي الذي يحرر صفحاتها الثقافية في ذلك الاحتفاء والدعوة للمضي في التجريب.
غير ان الوسط الثقافي عموما كان منفعلا بالوافد من الثقافة اكثر منه فاعلا وهنا نذكر دور مجلات"الآداب" اللبنانية،"الهلال"،"الكاتب"و"الطليعة" المصرية إذ تفاوتت في التأثير تبعا للعديد من العوامل.
بالنسبة لي وجدت ان "الآداب"  قد مضت بعيدا نحو الاتجاه الوحدوي حتفية بنمطه نشرا وترجمة مما لم اجده معبرا عن حاجة مرحلتنا كمجتمع عربي قطريا او اقليميا.

ثلاثي الثقافة المسيسة
على العكس من ذلك،وجدت في مجلة "الهلال" ابتداء من عام 64 حين تسلمت ادارتها وتعاقبت عليها شخصيات تقدمية، رافدا من روافد بث الفكر التقدمي في السياسة والأدب وقضايا المجتمع عامة،وتصاعد واستقر ذلك التوجه في الاعوام اللاحقة ولعل موسوعة الهلال الاشتراكية التي نشرتها في اعداد متصلة تمثل ذلك التوجه الرصين والمتوثب معا بكل ما فيه من عمق وتفتح لمتعقبها بموسوعة المأثورات والفنون الشعبية ... ناهيك عن اعدادها الخاصة المتميزة، فعدد عن السينما وعدد عن القصة القصيرة،وثالث عن طه حسين ومنجزه،ورابع عن نجيب محفوظ وعالمه،ثم عن الحكيم ومسرحه وأدبه،وعدد عن الضحك والفكاهة أو عن أدب المقاومة !!!
اما مجلة "الكاتب" برئاسة احمد عباس صالح ومجلس تحريرها الذي كان يضم يوسف ادريس ومحمد أنيس وسعد زهران،فقد حفلت بنقد الحلقات المحافظة في دوائر الثقافة والتعليم الجامعي ودعت الى أدب جديد وفكر سياسي يواكب العصر والتقت على صفحاتها شخصيات فكروسياسية وفن من عرب واجانب،بينما تولت مجلة "الطليعة" المصرية نقد التجربة المصرية في التوجه الاشتراكي من خلال الانغماس في التجربة والتحاور مع منجزها ... وقد تصاعدت نبرة ذلك الانغماس النقدي عددا بعد عدد حتى اصبحت نافذة على يوميات البناء وتحدياتها والتيارات التي تتجاذب عملية التغيير.
وإذ خصصت صفحات للإبداع، ادبا وفنا،ثم تطورت الى ملحق ثقافي فقد استقطبت الموجة الستينية في الأدب والفن ليكون كل عدد من اعداد المجلة كتابا من الوزن الثقيل.
 لقد وجدت في هذا الثالوث مددا أحاطني بحرارة الفكر المرتبط بقضايا الانسان وكان لي خلال سنوات الدراسة الجامعية الدولية خير عوض عن فقر الصحافة العراقية في العهد العارفي.
 وإذ أشير الى هذه المجلات المنابر،فلكي اعرضها شهادة على ان الفكر التقدمي إذ يتسع لمكونات الثقافة كرؤية شمولية للحياة والتجديد،يستطيع ان يضيء دربا للتغيير يبدأ بإضاءة اعماق الانسان نفسه واثرائها بمتعة راقية تحفزه على التفاعل مع مفردات يومه ومسؤولية قضايا مجتمعه،واقدمها ايضا نموذجا متطورا للمتعة الراقية قراءة وتعلما،وبكلمة اخرى اقول ان هذه المجلات ما كان لها ان تنجز ما انجزته لو لم تمارس البعد السياسي - الاجتماعي للثقافة ولو لم تمارس السياسة من خلال الثقافة.


مجلة "الهدف" ....
 ولقد تكررت هذه النظرة في مطبوع آخر هو مجلة "الهدف"... مجلة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اصدرها الشهيد غسان كنفاني سوى انها سياسية لكنها في الواقع قدمت السياسة كحاوية واسعة للثقافة،إذ لا يخطيء قاريء هذه المجلة القاعدة الثقافية التي تسند تحليلاتها السياسية مهما صغرت الوقائع التي تعالجها،فثمة ارتباطات واصول اقتصادية او مكونات عقائدية او حتى جغرافية لا بد ان تشير اليها وتضيء بها الموقف السياسي او القضية التي هي بصددها.
حقا انها كانت لسان فصيل فلسطيني مسلح لكن البعد القطري لم يهيمن على اهتمامها القومي والعالمي بل لعلها كانت قومية اوضح مما هي فلسطينية،مثلما لم يهيمن الكفاح المسلح على الفكر السياسي والنظرية ... وانما وفرت للكفاح قاعدة فكرية وثقافية تملأ المقاتل قوة روحية وأفقا يلهمه تطلعا دائما الى المستقبل.
 هكذا،وعددا بعد عدد تتعمق صورة المجلة ويشتد صوتها وضوحا وقوة ،وعددا بعد عدد تعيد لي انا تلك الرغبة في معاودة الكتابة.
حقا ان الظرف الذي صدرت فيه "الهدف" بعد سنتين من هزيمة الخامس من حزيران كان مفعما بالروح المتمردة والنزوع الثوري الذي يحفز المثقف المسيس على العطاء، إلا ان النموذج المتحقق بشكل مطبوع ثري يلهم النزوع الثقافي بشكل متصاعد وحميم،حتى انني جدولت خطة للتثقيف الذاتي في ضوء الشمول والاتساع الذي تضعني فيه المجلة اسبوعا بعد اسبوع كان من مفرداتها البدء بتوفير نواة لما أسميته بالمكتبة الفلسطينية داخل مكتبتي.

"الثقافة الجديدة"و "الثقافة" ....
  تزامن صدور"الهدف"مع صدور"الثقافة الجديدة" كجزء من الجو الجديد بعد السابع عشر – الثلاثين من تموز ولكن "الثقافة الجديدة" بعد اعداد قليلة صارت تغلِّب السياسي على الثقافي وكأنها قلبت المعادلة بالمقارنة مع "الهدف"،وربما لذلك غادرها صاحبها ورئيس تحريرها صلاح خالص ليصدر مجلته الخاصة "الثقافة"التي حملت شعار "الثقافة الجديدة " ذاته بكلمات أخر.
 كان ذلك في شباط 1971 حين صدر العدد الأول من الثقافة ... وجاء عددها الثاني وفيه تلك المزاوجة بين الفكر والابداع بين السياسي والثقافي ولكن بنوع من التوازن، كنت وقتها ممتلئا بقراءات ما يمكن ان اسميه فترة الصمت عن النشر بعد ان كانت البداية قد أشعلت بي جملة طموحات لمواكبة النشر مع تطور القراءة ولكن جو الردة العارفية أبقى البداية عند خطوتها الاولى ... وأبقتني اكتب لنفسي، حتى اذا أشعلت "الهدف"الرغبة في المعاودة والحقت "الثقافة" في دعوتها للمشاركة في مشروعها كان قرار العودة للنشر قد اصبح بالنسبة لي حاجة شخصية.
 والحق انني أريد ان اقف عند هذه المسألة ... وهي انني منذ التكوين وجدت في الكتابة وسيلة كبرى للمثقف ان يسهم في حياة شعبه وزمنه،وتطبيقا لذلك كان كل مقال كتبته يلبي حاجة فكرية نضجت بي من خلال معايشتي للاحداث محليا وعربيا أو عالميا.
 لم يكن النشر هدفا لي حتى بعد مئات من المقالات والدراسات التي انجزتها ونُشرت،لا سعيا وراء نجاح شخصي ولا تطلعا لترقية علمية أو اكاديمية ولا حسابا لمكافئة مادية،أجل ودونما اي ادعاء للزهد او التواضع فان الأمر كان كذلك ومازلت، بل تشددت فيه بتأثير ما رأيت من حسابات مسبقة لما يدفعه هذا المنبر او تلك المجلة،لدى كثير من الكتّاب مع الأسف.
 واذكر في هذا المجال واقعة صغيرة هي انني بعد أن كتبت لجريدة "الثورة" اول مقال لي ابان مسؤولية الشاعر الراحل عبد الأمير معلة لقسمها الثقافي،استبطأت نشره فإرتأيت ان استفسر عن مصيره بشكل مباشر،حتى اذا علم الاستاذ معلة بوجودي في استعلامات الجريدة،رحب بي في مكتبه وأنبأني انه تقديرا لمقالي هذا وما فيه من افكار واسلوب خرج عن سياق القسم الثقافي باستثنائين .... اولهما :انه سمح لطول المقال ان ينشر كاملا حتى بنشر تتمته على صفحة اخرى مع ان تصميم الصفحة الادبية ان تمتليء داخلها دون تتمات وثانيهما :انه قرر للمقال مكافأة اكبر من مكافآت النشر المقررة للصفحة !... ولم أدر عمّ يتحدث أو اية مكافأة يعني حتى أضاف رحمه الله ... وسيصدر مقالك كاملا بعد يومين ويمكنك ان تمر على الحسابات لاستلام مكافأته !! فعلمت انه يشير الى مكافأة نقدية ! وكان الأمر كله مفاجأة بالنسبة لي فقد كان كل ما نشرته قبل ذلك المقال دون مكافأة.
 ما اريد قوله هو ان المقالة او الكتابة لن تجد حياة حقيقية حتى تنطلق من نفس كاتبها كحاجة تمس اعماقه،حتى تحمل عنه رسالة ملحة هي اسهامه في الشأن الاكبر الثقافي او السياسي ودون تلك اللذعة الشخصية يبقى القول كتابة تكاد تكون ملساء ... واسارع للقول ان الموضوعية حتى في البحث الاكاديمي لا تنفي السمة الذاتية وهي هنا تصريف قناعات الباحث الجمالية بين مفاصل البحث.
 بتلك الرغبة للمشاركة في الشأن العام عدت الى الكتابة،وبها لبيت دعوة مجلة"الثقافة" الموجهة لكل المثقفين للاسهام فيها ... ولقد بدأت بنقدها هي،نقد عدديها الاول والثاني نقدا شاملا صريحا،وكأنني اختبر صحة دعاواها في احترام حرية الرأي،لم يوفر حتى شكل الغلاف او نوع الخطوط وشكل تصحيف المتن دون إغفال لحقيقة انها لم تبرر نفسها كمجلة مستقلة عن المجلة التي انسلخت عنها وان عليها ان تفعل ذلك أو ان تبقى رقما في المتشابه من المجلات.
نشر نقدي كاملا، فأغراني بمعاودة الكتابة اليها ثم اللقاء برئيس تحريرها الاستاذ الراحل صلاح خالص رحمة الله عليه وطاب ذكره ... ليكون اللقاء بداية صداقة سعدت بها واتشرف بالوفاء لها ... وبداية تجربة للكتابة المتواصلة شهريا دون قيد أو حتى مقترح لموضوع.
 تستحق تجربتي مع "الثقافة" وقفة لوحدها لكنني لا أجد مبررا لفصلها عن مسار تكويني وما استطعته ولذا وضعتها في سياق ذلك المسار،وإن كان لا بد من توقف عندها فلكي أشدد على السماحة الفكرية التي تحلت بها هذه المجلة وانفتاحها على المكونات الثقافية ... علمية أو فنية دونما مغادرة للبعد السياسي للثقافة بل بادامة حضوره في كل ألوان الابداع شفافا،متمشيا في النسيج العام للمادة الثقافية المنشورة حتى لو كانت تقريرا عن مؤتمر علمي لبحوث الدماغ ... او دراسة في علم النفس واختبارات الذكاء.
أولت هذه المجلة الحياة الجامعية اهتماما دائما وتفصيليا لا لأن رئيس تحريرها استاذ جامعي رائد ومن مؤسسي جامعة بغداد فقط بل لأنه كان يرى في الحياة الجامعية المعافاة اكبر عوامل عافية التطوير الاجتماعي ... وانها المجال الأمثل لحرية الابداع والبحث ووضع قواعد الانطلاق.ولقد مارس رؤيته تلك في ان جعل المجلة ميدانا لحرية الكلمة والدعوة اليها ونقد ما يحول دونها.
 وسأكتفي بذكر مثل لهذه الممارسة،قدمت مقالا واسعا عن الواقع الثقافي في اوائل السبعينيات تحت عنوان "شيء من الشجن – ملاحظات في واقعنا الثقافي "** نشر في العدد الأول "للثقافة" عام 1973**،فتحمس لنشره متعهدا ان المجلة ستتحمل كامل المسؤولية عنه،وإذ نشر راح يواليني بنقل أصدائه في الجامعة وفي الوسط الثقافي ... قال عنه علي جواد الطاهر كذا، سُر مهدي المخزومي لسلامة لغته سروره بافكار المقال،اعتبره داود سلوم كيت ... الخ،ولقد حوّل الرجل بيته الى مكتب للمجلة ووجد في الاستاذة زوجته الدكتورة سعاد محمد خضر حماسا أشد لشروع المجلة وعونا في كل ما يحقق اهدافها،فتحول البيت الى ملتقى لشخصيات ثقافية وحوارات لا تهدأ في كل جوانب الابداع والفكر وكان يحرص على ان يحتفي بابرز الشخصيات الفكرية والثقافية التي تزور القطر خلال المهرجانات الثقافية او المؤتمرات العلمية،وفي رحاب مكتبته التقيت غالي شكري واحمد عباس صالح ومحمد عفيفي مطر وسليمان فياض وغيرهم كثير ... توانسة ومغاربة ولبنانيين وسوريين !... شباب من كلية الفنون وممثلين وموسيقيين من اجيال شتى،وكانت سعادته الكبرى ان يقدم لهذا او ذاك من ضيوفه من يكون حاضرا من كتّاب المجلة بصفته تلك !!
 حين علمت المجلة بسفري الى مصر في دورة علمية – ولم اخبرها قبل السفر – حصلت الدكتورة سعاد على عنواني في مصر وكتبت لي تكلفني بأن اتحدث مع الوسط الثقافي في مصر مندوبا عن المجلة،وبهذه الصفة اجريت حديثا مع نجيب محفوظ عبر لقاءات متعددة،وبها حضرت وسجلت مادار في ندوة يوم المسرح العالمي في آذار عام 1972 بين كبار كتّاب ومخرجي وممثلي المسرح المصري الجاد ... وبها تابعت جديد جماعة السينما المصرية الجديدة ... مما ملأني احساسا بضرورة التخطيط للتقدم على كافة المسارات الثقافية.
***
 بذلك التفتح والحرص على الحقيقة وبذلك الاحتشاد للشأن الثقافي اضفت للكتابة في المجلة "الثقافة" الكتابة في الصحافة اليومية.
 حقا انها بدأت بسلسلة مقالات تحت عنوان موحد "كلمات في ايام النار"بوحي من وقائع حرب اكتوبر المجيدة وخلالها** نشرت في الصفحة الثقافية لجريدة طريق الشعب**, إلا ان المساهمة الأهم بدأت في مقال موسع عن التلفزيون عنوانه يدل على حجم وعمق الهَمْ الذي افرزه ... "التلفزيون ... التلفزيون" الذي نشر ليومين متتاليين على صفحة تكاد تكون كاملة من الجريدة ... جريدة " طريق الشعب".
  وقبل الحديث عن اصدائه وصلته بتجربتي تقتضيني الأمانة ان أشير الى أن هذا المقال من ثمرات عملي مع مجلة "الثقافة" ... كيف؟
  لم اكن املك جهاز تلفزيون حين كنت اكتب للمجلة لعجزي عن شرائه،وفي ذات يوم كان يحدثني الاستاذ صلاح خالص عن خطورة الفن التلفزيوني وحيويته في التثقيف،فعلم انني لا املك جهازا،فدهش، لكنه كمن يتناول كأس ماء خلال الحديث, ابتسم مضيفا هذا تقصير منك لكننا سنتداركه !.. لا بد ان يكون لك تلفزيون ... اننا كما تعلم عاجزين عن مكافأة كتّابنا ولكنني لست عاجزا عن شراء جهاز تلفزيون, ستشتريه على حسابنا !... وقد حصل،ولم ينس ان يسألني حتى عن ثمن شبكة الايريال والسلك ليدفعه ايضا،وإذ لم يعد ذلك الجهاز صالحا للعمل اليوم، فانني احرص ما اكون على بقائه قائما على سوقه رمزا للحفز الثقافي ووفاء للمحفز.
***
مثلما أثار مقالي "شيء من الشجن".... من رد فعل متعدد الاشكال ما بين التأييد والرفض،أثار مقالي عن التلفزيون رد فعل اكبر كان من بين مفرداته كما علمت ان بعض مسؤولي أقسام التلفزيون طالبوا باتخاذ شيء ! لكن المدير العام للاذاعة والتلفزيون وقتها وكان الاستاذ محمد سعيد الصحاف ادرك ماوراء كتابته من حرص وثقة بامكانيات هذا الجهاز وفن رسالته ... ولذا اجتمع بمسؤولي اقسام التلفزيون لينشر على مائدة الاجتماع ذلك المقال بجزأيه معتبرا ان صاحبه قد قام بما كان يجب ان تنجزه الاقسام نفسها لنقد ما قدمته ومتابعة آثاره ... وخلص الى دعوتهم لدراسته والاستفادة مما ورد فيه،وفي خطوة اخرى أسعدني بها وشرفني انه طلب من برنامج "السينما والناس" إستضافتي لتقديم احدى حلقاته،وإذ لبيت دعوة البرنامج وجدت مقدمته تدعوني الى لقاء الاستاذ المدير العام.
لم يكتف الاستاذ الصحاف بترحيبه الحار ولا بالإعراب عن سروره بمتابعتي النقدية للتلفزيون،وقد تجددت بمقالات أخر،وانما منحني من وقته،ذلك النهار كله،إذ قرر ان يضيفني بين كل العاملين في كافتيريا التلفزيون وان يحضر معي العرض السينمي للفيلم الذي سأتحدث عنه حتى نهايته،ولم ينس وهو يشد على يدي مودعا بعد جلسة شاي،ثالثة أو رابعة،ان يدعوني للتحدث عن الفيلم بكامل الحرية وبكل قناعاتي،وقد فعلت وربما لهذا السبب حظيت هذه الحلقة من البرنامج بما حظيت به حلقات متميزة قبلها أو بعدها من اهتمام وطلبات للاعادة كما افادت مقدمة البرنامج في ذكرى الحلقة الاولى للبرنامج.
هذه البداية،بما احاط بها من اثر عززت قناعاتي بدور الكتابة وعززت بشكل خاص اهمية الانطلاق من انفعال داخلي بموضوع الكتابة مما اشرت اليه قبل قليل،واستدعت المواصلة.
وقد تواصل الحوار مع التلفزيون بشكل مستمر يكاد يكون اسبوعيا عبر عشرين سنة متصلة خلال معظم صحفنا ومجلاتنا من "فنون" الى "آفاق عربية" الى"الثورة، وتطور الى دراسات وابحاث في النقد التلفزيوني في ملتقيات وحلقات دراسية ... جامعة البصرة، كلية الفنون في بغداد، كلية الفنون في بابل وبرامج اتحادنا المتعددة وبرنامج نقابة الفنانين في بابل.
محصلة هذه التجربة غنية فعلا،اكبرها ان المتلقي يقدر جيدا ما في المقالة الجيدة من صدق وحرارة ويفحص قناعاته على ضوء تحسسه لذلك الصدق،واقول هذا عن تجربة أقرّ بها العديد من قرّائي وحدثوني عن تأثير مقالات محددة من مقالاتي فيهم،ومن محصلتها انها رسمتني مقاليا صار من همي التجويد في كتابة المقالة لذاتها اضافة لرسالتها ويشرفني انني تعرضت لغضب احد الاخوة مؤلفي الدراما التلفازية وممثليها لرفضه ما جاء في احد مقالاتي عنه،مع ان أسمي لم يكن على المقال ... لكنه اصر واثقا انه لي وانه اسلوبي،وكان المقال لي حقا.
وبهذا الصدد تهمني جدا لغة المقال واحتفاظها بالقوة والبساطة معا،ويهمني العنوان بالدرجة نفسها حريصا على ان يدل على الموضوع ويمهد لتلقيه،ويحفّز على الدخول اليه وفي ذات الوقت يعلن موقف الكاتب بهذه الدرجة او تلك ... وانه ينتمي لنسيج المقال معا.
وعلى كثرة ما نشرت من مقالات مازلت احس صعوبة الابتداء،قد تتأخر المقالة اياما وانا أدير واستبدل هذه البداية أو تلك حتى اذا جاءت،جاء المقال بعدها،بعضه يؤدي الى بعضه الآخر !.. وإذ ينتهي المقال احس انني تخففت من حوار كان يمور داخلي وان من حقي بعد ان ابلغت رسالتي بأمانة ان أكافيء نفسي بشيء ... فأغير قراءتي عن البرنامج الذي كنت انشغل به. فياللعجب من اولئك الذين يستسهلون الكتابة بذريعة لغة الصحافة ومخاطبتها لجمهور عام !..
نعم انا مع التوصيل بل وأشدد عليه،ولأوسع مدى متاح ولكن مع الاحتفاظ بمستوى فني يشعر القاريء انه غير لغة الكلام الدارج ... على أني لا أطيق الاختزال المخل بالموضوع لأضمن له النشر في حيز ضيق ولذا لم تعد مقالاتي تجد مكانها إلا بين الحين والآخر حين يتفق ان يكون هدفها في حيز يناسب الجريدة.
نعم، أطلت،لارغبة كما قلت في الحديث عن الأنا،ولكن سعيا لتركيز ابرز الدروس التي علمتني إياها الكتابة للصحف وهي دروس تليق بالصحافة الجادة في يوم عيدها وإذ اقف عندها فلأنها بعض الوفاء اللازم ... والدعوة اللازمة لاستمرار وازدهار تقاليد الكتابة الصحفية الأمينة.
 وقد تركت العديد من الثغرات كي تملأها مداخلاتكم على انني لن استطيع ان اتوقف عن حديث عن الصحافة والكتابة فيها دون وقفة عند قضية الحوار والرأي الآخر في الكتابة الصحفية ... فاكثر ما احزنني عبر قراءاتي لجرائد مراحل مختلفة هو ان يشطب كاتب تجربة من يرد عليه،شطبا !.. واكثر ما أصابني بالاكتئاب ان يتجاهل (المتحاورون ) – واضعها بين قوسين – بعضهم او ما حققه كل منهم وبذا يتجاهلون المتلقي اصلا !.. واكثر ما أسعدني ان اقرأ ردا على موضوع يوضح ما غمض فيه أو يناقش ما ذهب اليه بالاختلاف او الموافقة محترما كاتبه وقرّاءه.
 لقد قرأت الكثير مما يحزن في هذا الباب والقليل مما يسعد،غير انني اجد ان ما يسعد من اخلاقيات الحوار الرفيع وسماحة الاصغاء للرأي الآخر وتلقيه،على قلة المتحقق،هو الذي يليق برسالة الصحافة وهو وحده الذي يليق برسالة كاتب – اي كاتب – يدعي انه يكتب عن ثقافة او عن فكر.
وبالسماحة التي اتمناها لتقبل ما أذهب اليه،سأتلقى نقدكم ومداخلاتكم .....
التحية لكم ... المجد للكلمة الصادقة ....
والخلود لشهدائها ......    

*نص محاضرة للراحل في اتحاد ادباء بابل  حول تجربته مع الصحافة الثقافية في العراق وحملت في اخر سطورها تاريخ  15-6-2000 وهو يصادف عيد الصحافة العراقية.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM