حوارات  



المفكر البحريني د. محمد جابر الانصاري: نحتاج نهضة "معرفية" لا ضجيج شعارات

ِعلي عبد الامير

تاريخ النشر       07/02/2011 06:00 AM



حاوره في عمَان: علي عبد الامير
 

ينشط المفكر البحريني محمد جابر الانصاري، في جهده البحثي لا في صورة البحث العلمي الاكاديمي المجرد، بل في صورته الاكثر حضوراَ وتدفقاَ، والقائمة على قراءة المنظورات السائدة لمجتمعاتنا العربية، جذور مشكلاتها، مرجعيات طريق التفكير السائد فيها، تحديات اسئلة الراهن والمستقبل.
كتب عن صراع الحضارات وفي "تجديد النهضة باكتشاف الذات.. ونقدها"، بحث ايضاَ في "التأزم السياسي عند العرب وموقف الاسلام". وعلى هامش مشاركته في ندوة "ملتقى الفكر العربي" التي انعقدت في عمَان للفترة 17- 19 كانون الثاني 1998 وبحثت في حيثيات الغزو العراقي للكويت، كان لـ"اليوم الثقافي" معه هذا الحوار...
- اثبتت الوقائع العربية وقبلها التحليلات الفكرية الى ان العرب تعرضوا الى انكفاء شديد في النصف الثاني من هذا القرن على الرغم من دعوات "التحرر" التي سادت وحكمت احياناَ. ماذا تقولون في هذا الرأي؟
د . الانصاري: مظاهر التراجع العربي واضحة، سواء في الاوضاع العربية الداخلية او العلاقات العربية - العربية، او من حيث مكانة العرب في العالم. ولكن لنتسائل هل كان العرب "متقدمين" فعلاَ وتراجعوا الان؟ ماهي الانجازات الحضارية الحقيقية التي حققها العرب في هذا العصر ثم تراجعو عنها؟
لقد شهد العرب "نهضة" في العصر الحديث.. كما مرت اقطار عربية عدة بثورات سياسية.. وساد انطباع عام للعرب في الخمسينات انهم يحققون نهضة وثورة.. ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟ والى اين انتهت هذه المظاهر؟ اعتقد ان الفكر العربي مطالب بأن يحقق في هذه الامور ويمحّصها. ليحدد ان كان هناك "تقدم" حدث فعلا. فيصح ان نقول الان ان تراجعاَ قد حدث. أما اذا لم يكن ثمة تقدم فهذا بحث اخر. هذه تساؤلات جديدة ان لم نطرحها على انفسنا بموضوعية فسنستمر في ثقافة الاحباط والبكائيات ولن نحقق الوعي العلمي المنشود بحقيقة انفسنا. أنني ادعو الى نهضة "معرفية" قبل كل شي. بدل الاندفاع في شعارات ايديولوجية جديدة لا تختلف عن سابقاتها الا من حيث التسميات.
- يتعرض المثقف العربي اليوم الى تهميش دوره فيما انماط التفكير السطحية في الفن والاعلام تجد نفوذاَ يتعاظم! أي خطاب تريد توجيهه للمثقف العربي تتضمنه دعوتك: سهام عاجلة أمام المثقفين العرب؟

محمد جابر الانصاري: قراءات عميقة للمنظورات السائدة في المجتمعات العربية

د . الانصاري: كما قلت في السطور الاخيرة من إجابتي ان المطلوب نهضة "معرفية" تعتمد حقائق العلم والمعرفة في إدراك الذات.. الذات العربية الجماعية في تاريخها وحاضرها ومن حيث علاقتها بالعالم والعصر.. مع ادراك معرفي كذلك لحقائق العالم والعصر دون تجاهل أو مكابرة أو قلب للحقائق. والدور المشرف للمثقف العربي في تقديري، حيال التهميش الذي يتعرض له كما يشير - وهو صحيح - أقول ان الدور المشرف لهذا المثقف عليه ان يستند الى هذه المهام "المعرفية" البحثية الجذورية في أصول الاشياء، كما في مجال اختصاصه وقدرته.. عندما يعلن المثقف الحقيقة.. الحقيقة المدعومة بشواهد المعرفة والعلم يكتسب قوة ومصداقية على المدى الطويل وإن تعرض للمضايقة في حينه.. المعرفة قوة.. ونحن في عصر المعرفة.. اما اذا اندفع المثقف - بدوره - في تيار الاحباط والبكائيات المنتشرة حالياً في الخطاب العربي، او انكفأ داخل حدود ذاته بالكتابات المغلقة التي لا تتواصل وتتشرنق فوق قوقعته فلا اعتقد انه سيكون مؤثراً بفاعلية وايجابية في صياغة الاحداث.
- مشروع التحديث العربي سقط لانه ظل نخبوياً، أدبياً محضاً فيما انغلق تماماً عن المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية. أترجع ذلك لاحادية فكرة "الحداثة" العربية؟
د . الانصاري: من يدرس فكرة "النهضة" العربية منذ البدايات يلاحظ انها ركزت بصفة رئيسية على الاحياء اللغوي الادبي بالدرجة الاولى. فصار خطابها بالتالي ادبياَ لغوياً يفتقد روح التحليل العلمي الموضوعي. عنصر الفكر والفكر الاجتماعي "اعني فكر العلوم الاجتماعية من تاريخ واجتماع وسياسة" كان غائباَ الى حد كبير من خطاب النهضة العربية الحديثة. وعندما اهتم مثقفوا النهضة بالتاريخ، اهتموا به اهتماماً رومانسياَ يقتطع صور الامجاد والانتصارات القديمة - احياءَ للهمم في نظرهم - ولا ينظر الى السياق التاريخي في صورته الشاملة - سلباَ و ايجاباَ - كما يجب ان ندرس اي تاريخ علمياَ. والامة غير القادرة على التعامل مع ماضيها موضوعياَ وبتجرد لن تستطيع التعامل مع حاضرها ومستقبلها ايضاَ، لانها ستنظر الى نفسها - تاريخياَ - بصورة خاطئة، متضخمة ومتورمة، وربما نرجسية، بحيث لا يمكنها، بالتالي، التعاطي مع وقائع الحاضر التي ستظل تتعامل معها بأساطير الماضي و "امهات المعارك".. الخ
- الغرب بمؤسساته وانتاجه الفكري يكاد يطبق علينا، ما تراه كأفضل طريقة للتعاطي مع هذا الحضور الضاغط؟
د . الانصاري: تحدي هذا الحضور ونقرر مواجهته ايجابياَ من موقع الثقة بالنفس وبقدرتنا على التعاطي مع الاخرين. فكما في الهدي النبوي الكريم: "من تعلم لغة قوم أمن شرهم" وتعلم اللغة يعني تعلم ثقافتها وادراك حضارتها لان اللغة عالم كامل بأسره من الافكار والاحاسيس والنظرة الى الاشياء والكون. فكما في مأثور نبوي اَخر: "اِنما العربية اللسان" فاِذا تتحدد عبقرية قوم في لغتهم، فأن ذلك يعني ان الندب النبوي لتعلم لغات الامم الأخرى يتضمن الالمام بثقافات وحضارات اولئك الاقوام تعرفاَ الى الجوانب الايجابية لديهم، "فالحكمة ضالة المؤمن، يطلبها انىَ وجدها"، و "من يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراَ كثيراَ".. هذا بالاضافة الى اكتشاف الجوانب السلبية لدى الاخرين "شرهم" من اجل تجنبها.
والحكمة في المفهوم القرآني والاسلامي هي "التمييز بين الخطأ والصواب في كل شيء". ولذلك قال تعالى "ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراَ كثيراَ".
ونحن اذا انطلقنا من مفهوم الحكمة القرأنية في التعاطي مع حضارة الغرب وغيره، فيمكننا ان نمتلك منظوراَ نقدياَ مستقلاَ حيال هذه الحضارات دون ان نفقد ذاتيتنا المستقلة. وفي تقديري فالحكمة هي فلسفة الاسلام. وهناك من يخشى من كلمة "فلسفة" في منطوقها الاجنبي بين المسلمين. ولكن ماذا عن "الحكمة" التي هي فلسفتنا. ولو اننا استخدمنا مصطلح "الحكمة" لما خشينا من اي فلسفة بل لكانت فلسفتنا الخاصة بنا تحت مظلة "الحكمة".
- تؤكد على فكرة الدولة باعتبارها الحاضنة لبنى المجتمع المتطورة. ما هو تحديدك تماماَ لمضمون الدولة الوطنية ودورها المستقبلي في عالم يميل الى التكتلات؟
د . الانصاري: اعتقد ان وقوفنا مطولاَ امام الدولة ومفهومها هو مسألة فكرية مصيرية بالنسبة الينا. وانا ازعم كما اوضحت في كتاب "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية" وكذلك بتفصيل أكثر في كتاب "التأزم السياسي عند العرب وموقف الاسلام"، اٍن اغلب المجتمعات العربية لم تعش بصورة مستمرة ومتصلة ومستقرة في ظل مؤسسة "دولة" ثابتة عبر التاريخ، كما عاش الصينيون على سبيل المثال.. لذلك فأن تجربتنا في الدولة تجربة حديثة وجديدة للغاية. ونحن لا نمتلك خبراتها - فالدولة مدرسة السياسة - واخفاقات العرب السياسية المعاصرة تعود الى انهم لم يتمرسوا طويلاَ في مدرسة السياسة، اي مدرسة الدولة بمفهومها المؤسسي العام الدائم والثابت. وما سَمته الايديولوجيا القومية المشرقية بالدولة القطرية - رمز التجزئة المصطنعة في مفهوم تلك الايديولوجيا - هي في الواقع "أول" تجربة للعرب في الدولة الحقيقية منذ قرون طويلة. انها الدولة الوطنية التي يجب أن يندمج ويسهم فيها كل مواطن الى ان تصل الى حد الاكتمال ودرجة النضج، وبعدها ننظر في انتظام دولنا الوطنية هذه في اطار عربي اوسع، وعلى اساس التفاهم والاقتناع وليس الضم والقضم. ولاننا اهملنا الدولة من هذا المنطق الواقعي، وقفزنا الى تصور الدولة القومية الكبرى - ذهنياَ وعاطفياَ - ظلت دولنا الحقيقية على ارضية الواقع في حالة اغتراب وتغافل بل و "تأثيم".. حيث اُشعر المواطن العربي "بالاثم" القومي اذا انتمى واعتز بدولته الوطنية. وهذا مفهوم خاطئ ومدمر.. فالدولة الوطنية هي وحدها "اللبنة" الوطنية لبناء الدولة القومية أو الكيان القومي - اَياَ كان - مستقبلاَ.. وعندما نغترب عن دولتنا الوطنية. فأننا نغترب في الواقع، وفي الوقت ذاته، عن أملنا في الكيان القومي الموَحد.. عندما نصحح هذا المفهوم، ونقبل إيجابياَ على تطويرها "الدولة الوطنية" ونتعامل معها بشكل صحيح، وندعوا سلطاتها الى التعاون معنا ايجابياَ.. عندئذ يمكن تجاوز الاغتراب بين سلطات الدولة الوطنية وبين مؤسساتها الاهلية ومجتمعها المدني بعامة. والمسألة ليست سهلة اطلاقاَ.. ولكن لابد من الخطوة الاولى.. وهي كيفية طرح الاشكالية بصورة سليمة.
- عقلانية البحث الاجتماعي عندك تعتمد معالجة ما هو واقع، الا ترى في ذلك تحديداَ لامكانية البحث وجعلها محكومة بالنتائج فقط؟
د . الانصاري: عقلانية البحث الاجتماعي هي ما يفتقده فكرنا ووعينا، على وجه التحدي، البحث الاجتماعي بمعناه الشامل في تاريخ الامة وحاضرها وبناها المجتمعية والسياسية. وبطبيعة الحال، فبعدما ننجز هذا الالمام المعرفي بواقعنا المجتمعي الشامل - ماضياَ وحاضراَ - فعندئذِ، وعندئذ فقط، يحق لنا ان ننظر الى الامام، والى المستقبل، إلى التصور الفكري "الايديولوجي" من اجل تأسيس حياة جديدة، اما القفز، أو بالاحرى، الهرب الى الامام بالفكر الايديولوجي وشعاراته المسطحة - عصرية اَو اَصولية - دون امتلاك الوعي المعرفي الشامل بأبعاد الواقع العربي والدولي، فسيكون انتحاراَ اَخر.. من نوع الانتحارات التي مررنا بها في العقود الاخيرة.
*نشرت في الملحق الثقافي لصحيفة "الايام" السعودية 1998


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM