حوارات  



الناصر: الخروج من الأشكال الثابتة للموسيقى العربية

تاريخ النشر       06/08/2011 06:00 AM


 
حاوره في عمّان: علي عبد الأمير

من بين التجارب الجديدة في الموسيقى العربية ، كانت تجربة المؤلف والملحن الأردني طارق الناصر التي اعتمدت في عناصرها الفنية على الخروج من الأشكال الثابتة للتأليف الموسيقي والتلحين العربي ، ولكن دون استعراضات فارغة تحت تسمية المعاصرة. وموسيقى الناصر وجدت اتصالا وثيقا مع الأعمال الدرامية العربية وبالذات تلك التي حملت هي الأخرى لمسات مغايرة في الأخراج والمضمون الدرامي وعناصر الصورة ، كما في موسيقاه لأعمال: " نهاية رجل شجاع " ، " الجوارح " ، " يوميات مدير عام" وغيرها . وفيما تشهد الموسيقى العربية غلبة الجانب الغنائي فيها على الموسيقى الآلية المجردة ،يحاول الناصر ان يعيد الإعتبار للجانب الموسيقي الصرف ، وتقف تجربته مع مجموعته الموسيقية " رم" لتؤكد هذا السعي عند الناصر ، فاعماله التي قدمتها المجموعة وبخاصة في حفلات حية في الأردن وفرنسا ولبنان وتونس ، اكدت نزعة تعبيرية عالية اخذت طابع الورشة الجماعية ، بحيث غدت الأنغام مشغولة بطابع انساني حميم قائم على وجود المركز ( طارق الناصر ) ضمن اتصال مع نحو 20 موسيقيا ومنشدا ، يحولون النغم من مصدره الفردي الى نبضه الجماعي القادر على شد المتلقي ووضعه في الغاية المنشودة: النغم في اطاره الإنساني الذي يحض على قيم الجمال والخير والعدل .

الناصر... ابعد من اتصال مع الموسيقى المعاصرة
 
عن كثير من هواجسه الموضوعية ورؤاه عن الموسيقى العربية وملامح تجربته، كان لنا هذا الحوار معه:

*واضح تماما ان موسيقى الناصر تقدم رؤى معاصرة ، أي صورة للحداثة يعمل عليها الناصر وكيف يعمّق ملامحها في اعماله؟
- اسعى فعليا الى فهم زمني والى ادخال ملامحه في اعمالي ، وانا اتعارض مع موسيقيين يتوقفون عند دائرة معينة او اطار ثابت ، كما في الوقوف والبقاء عند حدود مايوفره الفولكلور مثلا . الموسيقى اكبر من هذا الإطار ، وهي تتطلب معرفة الأنغام الأخرى ودون تقديس الهوية الجامدة ، ومن هنا تتداخل حدود ورؤى وانغام ، بل ان الموسيقى كما الإنسان دائما رؤى الى المستقبل ، وفكرة مفتوحة على اتساع . الموسيقى المعاصرة حاضرة في تشكيل وعي وذائقة المتلقي في كثير من بقاع العالم ، وفي هذا الشأن فان ماانجزه المؤلف الياباني كيتارو ، كبير ومؤثر ، مثلما هو ايضا انجاز المؤلف الفرنسي اليوناني الأصل فانجليس .

الموسيقى تبرمج طاقة الإنسان ، واعتقد ان الفوضى التي يعيشها الإنسان المعاصر تحتم وجود من يهندس هذه الحياة ويبعد عنها تأثير الفوضى ، فلو استمع الإنسان الى موتسارت ، فلابد انه سيشعر بشحنة من الذكاء الذي تتميز به موسيقى صاحب " الفلوت السحري " .وهكذا لايمكن للمستمع الى موسيقى بيتهوفن الآ ويشعر بالتجربة الفكرية والإنسانية العميقة وبقوة البناء الذي اوصل الأنغام الى ماهي عليه .

ان حدود الزمن والتقسيم في الموسيقى غير ممكنة انطلاقا من ان الموسيقى بقدر ماهي ذاتية ، فهي مطلقة ومفتوحة على الوان من التلقي ، وانها تمس روح الإنسان الذي يعي ان ارثا فكريا وروحيا كوّن وجوده ، وان الموسيقى هي عنصر الخلود " انين الناي يبقى بعد ان يفنى الوجود " كما كتب جبران . الموسيقى لها قدرة على ان تعطي الإحساس بجمال الوجود الإنساني وبعمقه وتفجراته ، هكذا ارى الإحساس بالزمن : قريب الى الحظة ولكنه متصل ايضا مع تدفق الحياة ومسارها . كما ان الإحساس بالزمن والراهن اضعه ايضا كمؤشرات بيني وبين العاملين معي من الأصدقاء كي نصل الى مطرح مشترك ، كما ان المزاج هنا يلعب دوره وهو له علاقة بالراهن والمعاصر ، ولكن يجب ان يكون هذا مرتبطا دائما بالخروج من الإطار الضيق ، فنحن نحوّل العمل الى نقاش وافكار وافق ذهني مفتوح ، هذا اعتره تطورا ومواكبة للعصر ، وهي فكرة لااراها في شكل الموسيقى او وسائل او الات موسيقية ، وانما في الفكرة ، هكذا نجد ان عاصي الرحباني عاش معاصرا وسيظل هكذا ، بل يمكننا الآن ان نستحضر الفكرة التي كانت في ذهنه من خلال موسيقى لحن معين كتبه . قد يبدو هذا الكلام له علاقة بالتحليل النفسي للموسيقى ، ولكنه صحيح ، فالموسيقي تختلط فيه رؤى الواقع والحلم ، انه اقرب الى العمل في ميدان الغيب وإن كان يهدف الى اقامة هندسة شديدة الإنضباط للمسار الفوضوي للطبيعة البشرية . الموسيقى شديدة الوضوح مثلما هي شديدة التعقيد.


*نجد مصادر متعددة في موسيقاك ، ماهي مرجعياتك الموسيقية ؟
-بحسب الأسلوب الذي اضع فيه موسيقاي ، فان اولى المرجعيات ، هي مرجعيات مكانية ، مثلما اعتمد مرجعيات روحية ومرجعيات علمية . تعلمت من باخ دقة البناء السلّمي ، مثلما تعلمت من بيتهوفن قدرة الموسيقى على البوح ، ومن موسيقى موتسارت الذكاء والتسلية ، ومن كيتارو التأمل العميق ، ومن عمر خيرت الإناقة والأصول والحزم ، ومن عاصي الرحباني ان اتصل مع انغام اخرى ، ومن زياد الرحباني اشياء كثيرة ، ففي عمله " ابو علي " وجدت فصلا دراسيا مكتملا ، وجدت الإبهار اولا ، ثم التحول الى دراسة العمل ضمن مستويات حياتية وفكرية ، درست تناسق الآلات ، اين الآلة الشرقية واين الغربية ؟ ان زياد الرحباني قدم لنا درسا في التناسق ، دون ان يجرّه ذلك الى الغرور الفارغ على اعتبار انه جاء بالغريب والعجيب وانه " كسّر الدنيا " ، لذا تجد ان الموسيقي الناجح هو الذي يجيد الإتصال مع الأنغام الأخرى وصهر الموروث النغمي الضخم الذي آل اليه .
*يبدو الفكر واضحا في اعمالك وان النغم عندك يؤدي دورا محددا ، هل يتم هذا بشكل قسري ام تجده تلقائيا؟
- غالبا مايكون بشكل تلقائي، ولكن هناك اعداد ، اتعلم حيزا معينا في هذا النغم ، مثلما اتعلم ان من الضروري معرفة الأنغام الأخرى ، فمثلا لم اكن سأقدر على وضع الموسيقى في روسيا ايام الحكم الشيوعي حين كان يتم وضع قرارات المنع على ط البوب " لأنها انغام اميركية ، مثلما ماكنت سأتمكن من وضع الموسيقى في اميركا حين لايبدو التراث الكلاسيكي حجر الزاوية في البناء الموسيقي .لو ذهبت الى تلك المناطق ، كنت سأخسر ، وكنت سافقد القدرة على تقديم الرؤى والأفكار بشكل تلقائي . التلقائية ضرورة في عملي ، لكنني ايضا احسب كيف واين استخدم الكمانات مثلا ؟ اين آلة العود ، اين الناي ، احسب دقائق الصوت ، الرسم الهندسي للموسيقى ، مدى تأثر الكورال ،ولكن دائما بلا قصدية قسرية ، بل بتلقائية حتى وان تقود احيانا الى الخطأ ، ولكنه الخطأ البشري المحبب في العمل الموسيقي ، فهو يدلل على اللمسة الإنسانية في العمل.


• جانب مهم من موسيقاك جاء مرافقا للصورة وتحديدا صورة العمل الدرامي التلفزيوني ، أي دور للموسيقى تراه في العمل الدرامي المصور ؟
- النغم يوضح الدلالات الخافية في المشهد ، فالصورة واضحة ولكن وجود تناسق بين الصورة والموسيقى يعطي المشهد احساسا معينا ما كان ليكون لولا الموسيقى .الموسيقى التصويرية ، تخلق بيئة للصورة ، فالنص يقدم جزءا من المناخ فيما الموسيقى تحرك المشهد ويبدو مناخه معها مكتملا، ولكن المشهد اذا كان ضعيفا لايمكن للموسيقى ان تنقذه ، واذا كان فاشلا بالأصل لايمكن للموسيقى ان تنقذه من موت مؤكد.
لحسن الحظ فان الأعمال الدرامية التي عملت موسيقاها كانت ناجحة ، كما في " نهاية رجل شجاع " و " الجوارح " ،فجاءت موسيقاي جزءا من هذا النجاح ، فيما الأمر لم يكن هكذا في " اخوة التراب " فوجود ثغرات في النص قادت الى وجود ثغرات في الموسيقى ، وبدت مكتوفة وغير قادرة على ردم الثغرات ، بل غير قادرة على التحرك .وفي " يوميات مدير عام " كانت الكوميديا السوداء للمسلسل محفزة على انغام حيوية ومتحركة . هنا اؤكد على ان الموسيقى في الدراما والصورة تنجح في حال دخولها في الموقع المناسب والدقيق ، أي ان على المؤلف ان يفهم التموضعات الدقيقة للموسيقى بين مشاهد العمل الدرامي.


*انت مؤلف وملحن وعازف على آلتي البيانو والأكورديون ، غير ان هذه الملامح الفردية تكاد تضيع وانت منغمس في العمل الجماعي مع " رم " هل شعرت انك بحاجة الى الإحساس بالفردية واستثمار النجاح لوحدك طالما انت منبعه الأساسي ؟
-لأيام اشعر بالغبن حقا ، فانا اظلم عزلتي ، احيانا اشعر انني لست في الوادي الذي يجب ان اكون فيه ، ولكن مع وعي ان قضية الربح والخسارة نسبية، اجد ان من المهم ان يعيش المشروع ، اضف الى ذلك ان الموسيقى عمل جماعي بالأساس . مع " مجموعة رم" فان العمل يبدو من تصميمي وفيه احدد المسار ، ولكن حرية كل موسيقي من المجموعة متاحة وحاضرة . انا اقصد ان وجودي في مركز " رم " ليس وجود المايسترو والرقيب والموجه الصارم ، لا ، انا اقصد طاقة خفية لوجودي في المركز الفاعل، وخلق التمايز بين فعل وآخر ولكن ضمن وحدة تامة، خذ مثلا تجربة العرض الموسيقي المشترك بين " مجموعة رم " وبين " اوركسترا المعهد الوطني الأردني للموسيقى " وفيها كان هناك تباين كما يبدو للوهلة الأولى بين اقصى الحرية التي نلعب فيها موسيقانا وبين اقصى حدود الإنضباط عند عازفي الأوركسترا ، ولكن مع الطاقة الخفية لوجودي بين الإتجاهين ، ولنا الى نقاط مشتركة منحت العرض رغم ارتباكات التجربة الأولى ملمحا مختلفا .
* موسيقاك بجذور عربية ، وهذا امر لااختلاف عليه ، والموسيقى العربية تظل غنائية السمات ، ترى هلى يقيد هذا نزوعك الى الموسيقى الآلية ( موسيقى دون كلام مغنى) ؟
- اولا ليست هناك وثائق تقول ان الموسيقى العربية لم تعرف التأليف الآلي ، وثانيا ليست هناك موسيقى عربية " صافية " تماما ، وثالثا اعتقد ان التنوع البيئي والإجتماعي والتاريخي العربي خلق القدرة على وجود " كونتر بوينت " وهذا اساس في وضع الموسيقى الآلية . ان العرب وكما مثبت هذا في الوثائق التاريخية انهم اتصلوا مع اقوام وشعوب اخرى ، وهذا يعني بالضرورة انهم تبادلوا معا الموروث الروحي والموسيقى من بين ابرز معالم هذا الموروث ، ومن هنا فان التطور في النظرية الموسيقية لااعتقد انه جاء من تأثير فكر وروح قوم دون غيرهم ، فعمل يوصف بانه قديم ومن بيئتنا الجغرافية مثل " نينوى " تجد انه عمل مكتوب وفق نظرية موسيقية متطورة وليست بعيدة كليا عن البناء الموسيقي العلمي ، ولذا كان بالإمكان عزفه ، وهو استحق اهتماما عالميا حين عزف في اوروبا ومناطق مختلفة من العالم . من هنا اقيم ملامح تجربتي الموسيقية ، من تأثيرات المكان ومن موروثه الروحي والفكري ، ومن دون قسر ايضا في الذعر من انغام الآخرين . وهذا الإهتمام بملامح عربية في موسيقاي ينبع اصلا من ابراز الدور الإنساني ، فالموسيقى عندي ليست دلالة صوتية وحسب، انها دلالة اجتماعية وانسانية ايضا .

وحين نتحدث عن سطوة الغناء في موسيقانا العربية، فان ذلك عائد الى سطوة اللغة ، الى الحضور الحاسم والقوي للشعر العربي ، بل ان النظام الموسيقي خرج من النظام الشعري : العروض ، التجويد والتنغيم .ولكن هذا لم يمنع وجود الموسيقى المجردة ، فانفتاح الحياة العربية والإتصال مع الأقوام الأخرى التي لاتتحدث العربية ، اوجد فسحة للنغم دون ان يكون مرتبطا بالضرورة مع الكلام. هكذا لايمكن ان تكون الموسيقى العربية في الأندلس ، موسيقى عربية صرفة ، والثابت في هذا الأمر ان الموسيقى التي تنسجم مع المكان وتستمد من مؤثراته الإنسانية والإجتماعية حضورها ، هي القادرة على ان تعبر عن المكان وقادرة على ان تحمل ملامح انسانه ، وفي هذا الصدد لايحتاج المتلقي حين يستمع الى اسطوانتي " ياروح " الى الكثير من الجهد بان صاحب هذه الموسيقى هو من مشرق الوطن العربي .
*الى أي حد ترى في الموسيقى ، رسالة فكرية ، والى حد تراها تسلية ؟
- اعتقد ان الموسيقى طاقة روحية وفكرية اذا ماذهبنا الى المطلق فيها ووجدنا منها اعمالا تتخلص من الشوائب والعوالق الطارئة .هنا ارى في مقطوعتي الموسيقية " نار " قدرة على ان تحرك في متلقيها كل اعضائه ، بل حتى عظامه ، او كما كتبت انت عنها حين قدمت في عرض موسيقي مشترك بين " رم " و"فرقة بكا " السويدية من انها " تجعل المستمع يشعر بدلالة النار وكأن جمرا تحت قدميه ". هنا ارى الموسيقى مؤثرة وفاعلة عند المتلقي ولكن ليس على طريقة الصوت العالي ، بل عبر الصوت الذي يقنع ، والصوت الذي يوصل الى الذروة ، والفهم الجيد لأساليب التوصيل والشكل المناسب لوضع الفكرة في هذا الشكل الموسيقي دون غيره ، وهذه كلها علامات لحضور الفكر
في الموسيقى ، اما التسلية فلا اعتقد انهاغير مطلوبة ، فلا بد من ابهار المتلقي ، والعمل على شدّ انتباهه ولكن مع الصدق دائما . موسيقاي رسالة فكرية لا اثقل عليها بالإبهار.
* نشر الحوار في "الرأي" الاردنية ومجلة "فنون" الكويتية 2001


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM