(قاعة الملك فيصل): شهدت الموسيقى والازياء الراقية ببغداد لتنتهي (صالة الغبار)

تاريخ النشر       29/09/2013 06:00 AM


علي عبد الامير*
مؤشرات كثيرة يمكن رصدها اليوم في بغداد لملاحظة المسار الانحطاطي للقيم المدنية والحضارية، غير أن المصير الذي انتهت إليه «قاعة الشعب» يكاد يكون الأكثر تكثيفاً لذلك المسار. إنه المكان الذي شهد أهم العروض الموسيقية والاوبرات وعروض الازياء الراقية في العهد الملكي. كانت تسمى «قاعة الملك فيصل الثاني» حتى 12 آب (اغسطس) 1958، حين أعلن رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم تغيير أسماء المؤسسات والمرافق العامة من دلالات الملكية الى الجمهورية والثورية والشعبوية.

القاعة في عصرها الذهبي

القيم المدنية التي كان العراق يمضي قدماً في ترسيخها، انعكست في حركة العروض التي كانت تشهدها القاعة الكائنة في قلب بغداد، لجهة الرصافة، أي في الباب المعظم. وتضمن عرض برامج «تلفزيون بغداد» في الثامن من أيار (مايو) 1957 في فقرة الختام نقل حفلة باليه من قاعة الملك فيصل الثاني «وفي الساعة الحادية عشرة يعلن السلام الملكي وختام البث»... تواصل هذا النشاط حتى إطاحة النظام الملكي في 14 تموز (يوليو) 1958، فانتكست القاعة لاحقاً بعد الانقلاب الذي توج بالمجزرة التي راحت ضحيتها العائلة المالكة، لتصبح قاعة الليالي الانيسة مكانا للخطب الحماسية التي كان يعلو فيها صوت الضباط الجمهوريين متوعدين خصومهم بالموت، بدلاً من اصوات النغم الرفيع والموسيقى الشجية...

ومنذ ذلك التحول الدراماتيكي، ظلت القاعة (لملاصقتها مصدر الحكم وموقعه الأبرز في العراق الجمهوري أي وزارة الدفاع) مؤشراً لأوضاع البلاد. فمنها خرج من أطاح الحكم الملكي، الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم الى مقر الاذاعة والتلفزيون في 9 شباط (فبراير) 1963، ليتم اعدامه على أيدي حلفائه في إطاحة الحكم الملكي. ومن ثم تحولت القاعة معتقلاً ومركزاً للتعذيب على أيدي الانقلابيين الجدد، لتعود لاحقاً الى بعض ملامحها الاصلية، ولتغسل الدم الحقيقي والمعنوي الذي لحق بها وتستعيد في ما تبقى من ستينات القرن الماضي وسبعيناته، بعضاً من ألقها القديم، فصارت موقعاً لاحداث سنوية تقيمها مؤسسات الفنون المسرحية والموسيقية ومعاهدها وأكاديمياتها، فضلاً عن كونها موقعاً لأحداث فنية عربية ودولية بارزة ليس أقلها «مهرجان بغداد الدولي للافلام الوثائقية».

وفي حين صارت الفنون العراقية خلال أكثر من عقدين (1980-2000) «تعبوبة» ومجنّدة لحروب نظام صدام التي لا تنتهي، كانت «قاعة الشعب» شاهدة مرة أخرى على هذا التحول من خلال احتضانها حفلات وعروضاً موسيقية وفنية راقصة تهتف تمجيداً للحرب وقائدها «المظفّر»، ليأتي عليها الغزو الاميركي في العام 2003 بأعجب مما عرفته وشهدته من قبل. فصارت ملجأً لعشرات العائلات العراقية التي كانت تعيش في أحياء الصفيح، لتجد في مؤسسات الدولة المنهارة ملاذاً آمناً لها. فاحتشد في المكان الذي كانت تعزف فيه الفرق الموسيقية العراقية والاجنبية أعذب ألحانها، العشرات من الفقراء والمحتاجين إلى مأوى ومكان يضمهم تحت سقف آمن. ونجحت المؤسسات الحكومية لاحقاً في اقناع هذه العائلات بمغادرة المكان عبر تقديم إغراءات مالية، لتبدأ بعد ذلك أعمال إعادة إعمارها وصيانتها، لتشهد خلال عامي 2009-2010 إحياء عدد من عروض الفرقة السيمفونية العراقية و «فرقة منير بشير» لآلة العود و «فرقة الرافدين الموسيقية» و «فرقة ناظم الغزالي».

لكن ومنذ «العسكرة» التامة للحياة في العاصمة العراقية (الحواجز الإسمنتية العازلة ومئات نقاط التفتيش)، أُطفئت الانوار في قاعة صارت اليوم «صالة للغبار». والطرق المؤدية إليها مغلقة، مرة بسبب احتمال استهداف وزارة الدفاع الملاصقة لها، ومرّة أخرى بسبب عمليات حفر نفق باب المعظّم المقابل لها وغلق الشارع الذي تطل عليه ويؤدي الى شارع «الرشيد»، الأشهر والأقدم في بغداد، وهي في حال يرثى له الآن.

القاعة اليوم وقد صارت صالة للغبار والخراب

أحد أبرز من شهد تحولات «قاعة الشعب»، المؤلف وعازف العود ورئيس فرقة «منير بشير» الموسيقية سامي نسيم، حمل لمحبي بغداد ومعالم الجمال، صورة التقطت أوائل الاسبوع الجاري للمكان الرحب الجميل وقد صار نهباً للظلام والغبار، لتصبح وثيقة تدحض ليس «رابع حملة إعمار كاذبة» للقاعة فحسب، بل وثيقة تكشف المسار المتقهقر للحياة المدنية في مكان كان الى خمسينات القرن الماضي يضّج بكثير من النمو الفكري والاجتماعي، ويَعد بالأكثر منه.

 

* نشرت في "الحياة"


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM