نقد فني  



رحيل ريتشارد إتنبوره: صورة عراقية لمبدع (غاندي) و(كورس لاين)

تاريخ النشر       19/09/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*
"نحن حزينون جدا بعد علمنا بوفاة المخرج المرموق ورئيسنا السابق. سنشتاق اليه كثيرا". هكذا نعت الاكاديمية البريطانية لفنون التلفزيون والسينما "بافتا"، المخرج والممثل البريطاني (اللورد) ريتشارد اتنبوره الذي رحل الاحد عن 90 عاما.
رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، نعى احد كبار مبدعي بلاده، قائلا :"تمثيله في "برايتون روك" كان رائعا واخراجه لفيلم "غاندي" كان ملفتا. ريتشارد اتنبوره كان من كبار السينما".
ريتشارد اتنبوره الذي فاز فيلمه "غاندي" بثماني جوائز اوسكار من بينها افضل فيلم، وافضل مخرج، ولد في كامبريدج في العام 1923، ورحل في احدى ضواحي لندن وحيدا.
وهو في الذاكرة العراقية الثقافية، بملامح عميقة عصية على النسيان، ففيلمه البارع عن سيرة ابي الامة الهندية المعاصرة، المهاتما غاندي، هو قطعة فنية رصينة السبك والصدق، فان فيلمه المدهش " كورس لاين" او "خط الكورس" كان تحية لجمال الموسيقى والتعبير الجسدي الراقي.
وظل فيلم "غاندي"، احد اكثر الافلام السينمائية الاجنبية عرضا في العراق خلال عقدي الحرب مع ايران والحصار، وكانت الاف النسخ من اشرطة الفيديو ( في أتش أس) التي استنسخت الفيلم اعتمادا على نسخ اصلية نادرة كانت تصل الى البلاد، سرا وعلانية، حملت تلك العبقرية الرصينة التي استحق عبرها الفيلم ومخرجه، وممثله الاول ( بن كينغسلي) وكاتبه ومصوره، وغيرهم، 8 من جوائز الاوسكار العام 1982.
وعن الممر الذي قاده الى "غاندي" قال اتنبوره " منذ ثمانية عشر عاماً كنت ممثلاً ومنتجاً، كانت حياتي هادئة وبلا مشاكل. ثم حدث أن قرأت سيرة غاندي التي كتبتها لوفير فيشر، عندئد إنقلب كل شيء.. ومنذ ذلك اليوم لم أتوقف لحظة عن التفكير بإخراج فيلم عن حياة غاندي". ثم يواصل "ولمدة عشرين عاماً تفاوضت، وطرقت جميع الأبواب .. رحلت أربعين مرة الى الهند .. وها أنذا ـ أخيراً ـ أصل الى غايتي".
 

اتنبوره يشرح للمثل بن كينغسلي جانبا من شخصيته "غاندي"

العراقيون ممن كانت اجهزة " في أتش أس" الفيديوية، وسيلتهم الى الاستزادة الفنية الراقية بعيدا عن ثقل دم الاعلام الرسمي وغثاثته، وجدوا في الفيلم، "رسالة نبيلة تمجد السلام" وكأنها موجهة الى بلادهم التي كانت قد بدأت رحلتها نحو العنف المطلق عبر حربهم الطويلة الاولى التي ستتحول الى حروب لا نهاية لها الى اليوم.
 ووصل اعجاب المخرج اتنبوره بأبي الامة الهندية حد "تأليه" الزعيم غاندي. وهنا يورد الناقد حسن حداد " تأليه غاندي حذر منه الرئيس الهندي "نهرو"، عندما إلتقى بالمخرج أتنبروه في عام 1963 ، حين خاطبه:" أياً كان فيلمك ، فلا تجعل من الرجل إلاهاً .. لقد كان رجلاً عظيماً، لذا يجب تجنب تأليهه، وهذا هو مافعلناه في الهند ".
ومن التفاصيل "الانسانية" الكثيرة لغاندي والتي حجبها أتنبرو عن فيلمه، خلافاته الحادة مع إبنه (هريلال غاندي) الذي إعتنق الإسلام وإنشغل في عمليات عقاريات واسعة .. كذلك هاجس العفة الذي طارد المهاتما، الذي كان يقضي الليالي عارياً في فراش فتيات، لتأكيد صموده ضد رغباته الجنسية، ليقدمه "شخصية خارقة شامخة ومبسطة، شخصية تاريخية أسطورية"، لكن المخرج يؤكد "نحن لا نقدم فيلماً تسجيلياً يغطي خمسين عاماً من حياة غاندي، بل لكي نكون صادقين مع أنفسنا، فان هدفنا من الفيلم هو تقديم فلسفة غاندي وروحه".
 
 

مع اثنين من جوائز الاوسكار التي ظفر به فيلمه "غاندي"

هذا الفيلم المسبوك بكلاسيكية الصنعة ورصانة الاداء والصورة، هو غير فيلم "كورس لاين" الذي عرض في بغداد العام 1986 بعد سنة من انتاجه، في سينما "سمير اميس" اولا ثم "غرناطة " ثانيا، يوم كانت الصالتان متخصصتين بعروض السينما العالمية الرصينة.
و"كورس لاين" معالجة سينمائية تولاها ايتنبوره لمسرحية غنائية بالعنوان ذاته، قدمت للمرة الاولى في "مسرح شوبرت" بنيويورك العام 1975،  واستمرت لنحو زاد عن ستة الاف عرض، وهي تصور مخرجا ( ادى دوره الممثل مايكل دوغلاس) يبحث عن راقصين وراقصات يجتهدون من اجل عرض متقن يجمع بين روحية الاداء عبر الرقص التعبيري والموسيقى الرصينة، ومن خلال هذه الرحلة المختلفة في سياقها الفني الخالص، يقدم المخرج ايتنبوره خيالا محلقا لحكاية سينمائية هي غير تلك الواقعية الصارمة التي جاءت عليها معالجته للزعيم غاندي.


المخرج وعدد من الممثلين في فيلمه "كورس لاين"
 
وما تحفظه الذاكرة الثقافية البغدادية، هو ان الفيلم جذب كثيرا من رواد السينما ممن هم باعمار كانت تبدو متقدمة، ضمن محاولة منهم باستعادة ايام السينما الاميركية وافلامها المتخصصة بالموسيقى والاستعراضات الراقصة، والتي كانت تغص بها دور السينما في العاصمة العراقية، في خمسينيات القرن الماضي حتى اواسط ستينياته.
واذا كنا قد تحدثنا عن فيلم "غاندي" وقد صار حاضرا في بيوت العراقيين عبر اشرطة " في أتش اس"، فان عبر الاشرطة ذاتها، حضر ريشارد اتنبروه  في سنوات الحصار، حين استطاع المخرج ستيفن سبلبيرغ، اقناع صاحب غاندي بالعودة الى التمثيل، ليؤدي دورا بارزا في فيلم " جوراسيك بارك" او "الحديقة الجوراسية" الذي شاهده الالاف من العراقيين كبارا وصغارا، ولكن دون ان يعرفوا ان من يمثل دورا في الفانتازيا الخيالية هذه، هو ذاته من ابدع لهم فيلم "غاندي".

* نشرتها وكالة "واي نيوز" بعد يوم من وفاة المخرج ايتنبوره 26-8-2014

 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM