اغتيال مثقف

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


فاضل السلطاني*
إنجاز جديد للمقاومة العراقية سيدخل الفرح والسرور للمثقفين القومجيين العرب. ففي صبيحة الأربعاء الماضي، نصب رجال المقاومة الأشاوس كميناً لرجل خطير، وأردوه قتيلاً، هو وابنه قبل أن يستفحل عوده، ويسير على خطى الأب الخطيرة. رقم آخر يضاف إلى القائمة التي تضم لحد الآن 250 من الأسماء الضائعة من المثقفين والعلماء والأكاديميين. إنجاز باهر آخر يدخل سجل المقاومة الذهبي، وهدية أخرى يقدمها المقاومون العراقييون لإخوتهم من بعض العرب المنتظرين على أحر من الجمر هدايا الدم. لم تكن خطورة قاسم عبد الأمير عجام بالنسبة لقتلته، كما قد تتوهمون، نابعة من كونه مسؤولاً مهماً في حزب من أحزاب مجلس الحكم، ولا تنطبق عليه اليافطة التي رفعها أيتام صدام حسين باسم المتعاونين مع الاحتلال، ولم يكن يحتل مركزاً مرموقاً في اللجان التي نصبتها قوى الاحتلال.

تخطيط للراحل عجام بريشة ابن شقيقته الفنان امير عجام

لم يكن شيئاً من ذلك. كان، ببساطة، كاتباً غير قابل للشراء، ومن هنا تنبع خطورته التي ما بعدها خطورة. ولنعترف أن قتلته كانوا أذكياء، ولم يضيعوا طلقاتهم الثمينة عبثا. إنهم غالباً ما يفعلون ذلك. فعلوها في الستينات، قبل وبعد السلطة، حين اغتالوا أعداداً لا تحصى من المثقفين العراقيين، وأجهزوا على البقية في السبعينات والثمانينات، سجناً ونفياً وقتلاً، قبل أن يطالوا السياسيين المحترفين.

  وقبل ذلك وبعده، أقفلوا الجامعات والمعاهد في أكبر عملية تجهيل تجري في العراق. ومن فلت من ذلك في الماضي، لصدفة حسنة من الصدف، يتكفلون به الآن وهم خارج ملكوت السلطة، لكنهم ما زالوا يمرحون كما يشاؤون، ويقتلون من يشاؤون. كان قاسم عبد الأمير عجام معيداً في كلية الزراعة العراقية حين عرفته منتصف السبعينات. لكنها لم تكن سوى وظيفة فقط، فقد كان مهووسا بشىء آخر تغلب على حب الأرض فيه: الكتب التي قادته من معالجة الأزهار والأشجار إلى النقد الأدبي، ومن أروقة الجامعة الخضراء إلى المطابع، ومن السياحة في البساتين إلى النوم في أقبية صدام حسين.

  وظل قاسم عبد الأمير عجام وفياً لتلك الكتب، لذا لم يستطع أحد شراءه. بقي صامتاً عن الكتابة ربع قرن، ولعله عاد آنذاك إلى حبه الثاني، منعزلاً في بستان بعيد من بساتين العراق الواسعة، هذا لو بقيت بساتين هناك لم تطلها يد البعث الطويلة. لكن قاسم عاد بقوة حين قطعت هذه اليد، أو تصورناها قد قطعت، في التاسع من نيسان من العام الماضي. عاد محذراً من خطر أن تنمو من جديد بجلد آخر، كما فعل في آخر كلمات كتبها قبل أيام فقط من امتداد هذه اليد إلى عنقه في الطريق من بابل إلى بغداد.

  لم نسمع صرخة احتجاج بعد على اغتيال المثقفين العراقيين على نفس تلك اليد، من اولئك الذين ملأوا الدنيا ضجيجا على ما جرى في أبو غريب، وحسناً فعلوا، سواء حباً بالعراقيين، أو كرهاً بأميركا. ولكن لا بد من تذكيرهم، بالمناسبة، بان هذا السجن لم يكن طوال ربع قرن من الزمان بستاناً جميلاً، وأن نزلاءه من المئات، الذين دخلوه ولم يخرجوا قط، كانوا عراقيين أيضاَ، وأن جلاديه، الذين ما زالوا يمرحون، هم أنفسهم الذين أعدموا قاسم عبد الأمير عجام وطفله، ولكن أصواتكم ظلت وما تزال محبوسة في حناجركم، وإن ارتفعت، ارتفعت تمجيداً للقاتل، وكأن العراقيين إثنان.

  إنها ليست قصة قاسم عبد الأمير عجام، ولا حتى قصة العراق. إنها قصة هذا «النفاق الذي ارتدى أجنحة، وتزيا بزي ملاك جميل»، كما قال الشاعر المصري صلاح عبد الصبور ذات يوم.

 
 
*النص نشر في 23-5-2004 بصحيفة"الشرق الأوسط"اللندنية حيث يعمل الشاعر فاضل السلطاني محررا ثقافيا والذي يشير الى مقتل قاسم عجام في الاربعاء فيما كان ذلك الاثنين 17-5-2003، كما ان الراحل لم يكن معيدا في كلية الزراعة بل كان طالبا للماجستير.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM