نقد فني  



بريسبان.. من "مهاجرها" الكوني الى مسلمها "الداعشي"

تاريخ النشر       20/09/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام*

مدينة بريسبان، عاصمة ولاية كوينزلاند، و ثالث أكبر مدن استراليا، وواحدة من  أجملها، تقع بالقرب من المحيط الهادي، تأسست عام 1824 وحملت اسمها من الحاكم البريطاني السير توماس بريسبان.
المدينة ذاتها، شهدت امس، قيام أفراد الشرطة الأسترالية بمداهمة منازل في عملية واسعة لمكافحة الإرهاب تمثلت بالقبض على (مسلمين مهاجرين) متشددين مرتبطين بتنظيم "داعش" كانوا يعتزمون قطع رأس شخص عادي في أستراليا.


لكن ما حفظ للمدينة في الذاكرة العربية المعاصرة، أسمها ورنينه الخاص، عمل مسرحي للشاعر والكاتب الفرنسي من اصل لبناني، جورج شحادة، حمل عنوان "مهاجر بريسبان" (1965) بترجمة مميزة من الشاعر أدونيس، وسبق للمخرج العراقي سامي عبد الحميد ان قدمه عرضا مسرحيا في اكاديمية الفنون الجميلة العام 1976.


"مهاجر بريسبان" تصور قرية يستيقظ سكانها ليجدوا في الساحة غريبا ميتا، هو اشبه بالمهاجر الكوني الغامض الاسرار، لكنه القادر على تحريك الايقاع الرتيب لاهالي القرية، او المدينة الصغيرة، و كشف تحولات النفس البشرية من خلال صراع اثاره وجود ثروة كبيرة صحبته.
"مهاجر برسيبان"، هي جوهر فكرة أثيرة لجورج شحادة، فهو إختار المنفى وعلى مستويين, فهو اللبناني الذي إختار باريس مكاناً للإقامة وللإطلالة على العالم، مثلما انتظم عميقاً في مثاقفة حية مع (الفرنسية)، بل أصبح لاحقاً من أسماء (الفرانكوفونية) البارزة ونال جائزتها الأولى العام 1986.
وهو برحيله العام 1990، أنهى علاقة شبه مستديمة مع المنفى, وفي منزله الباريسي مات بطريقة متشابهة لما حصل لأغلب شخصياته (يموتون بإستمرار بعيداً عن أرضهم), ليقولوا بإستحالة الإنتماء الى دوار البحث الدائم عن المعنى ومرارة الغربة, وعذوبة الحنين الى مكان آخر, هو المكان الغامض الى درجة يتماهى فيها مع الشعر, هذا المنفى كان كافياً لجعل جورج شحادة يشغل حتى نهاية الستينات حيِّزاً صغيراً في الثقافة العربية, كما ان التركيبة الشخصية له أيضاً ساهمت في تضييق مساحة هو جدير بها, لا صحافة, لا مناظرات (القيمة الأدبية في إعتقاده تحمل جوهرها ذاتياً, ولا يمكن للإعلام أن يرفع أو ينقص من شأنها).

تخطيط يصور مشهد وصول الغريب الى بريسبان
    
إطلالة "جورج شحادة" على الثقافة المعاصرة ومن خلال المشهد الباريسي جعلته يبتعد عن تواثيق علاقته العربية وهو المولود في الإسكندرية من أبوين لبنانيين عام 1910, لكنه ظل يحمل في داخله نفساً روحياً مشرقياً نادراً.
 منفاه عن اللغة العربية تحدّث عنه ذات مرة بوضوح معلناً عن إرتكابه خطأ, غير ان وقت تدارك الخطأ كان في مثل سنه المتقدم نوعاً أقرب الى الصعوبة.
 
مسرح الهجرة الى المجهول
     بطريقة مدهشة إنزلق جورج شحادة من الشعر الى المسرح، الذي ظل يفد اليه من الحلم, من المحاولة الشعرية: "ما أكتب هو مسرح تتحرر فيه فوضى الكلمات والصور, بدأت كل مسرحيات, دون نموذج مسبق, تاركاً المبادرة للغة, لقد ساعدني المسرح على الخروج من القصيدة, لكن في العمق أنها المسألة نفسها".


تخطيط ثان من فكرة وصول الغريب وشخصية الحوذي المحورية في المسرحية
 
 
مسرحه توافق زمنياً مع نصوص كتبها طليعيون امثال يوجين يونيسكو, أداموف, أرتو و صموئيل بيكيت، لكنه تميز بتلك العناية باللغة على الخشبة، كما ان جواً من المهارة الكلاسيكية ظل يميز أجواء مسرحه, لم تضايقه أسئلة كالتي حاولت ان تحدد علاقة اللغة بمسرحه، وظل يقول "لم أترك صديقي الشعر في المسرح, المسرح الكبير بلا شعر, لا شيء, وفي المسرح لم أترك الشعر, بل خرجت الى الموقف الشعري الممزوج بالبشر أي المسرح".
 وإن تحدثنا عن ذاكرة ريفية كانت بمثابة نسيج قصائده، فهي أيضاً بعناصر طبيعتها قد شغلت حيِّزاً من مسرحه حيث سحر القصص والحكايات, كما ان المسرح وفّر لشحادة فرصة أكبر للعناية بقضية الغربة – غربة شحادة عن ثقافته, عن لغته الأم, عن الواقع, ربما عن العالم الذي يرفضه على طريقته – فتجلّت في أعماله المسرحية الهجرة والرحيل والسفر.
ومن شاهد عرض مسرحيته "مهرجان بريسبان " في مسرح أكاديمية الفنون الجميلة في السبعينات، أو من قرأ المسرحية ككتاب منفصل, لا بد ان يتذكر المهاجر الذي يأتي ليموت في باحة قرية مُتخيلة، تشبه قريته التي يعذبه حلم العودة اليها بعد طول هجرة.
اليوم، تعود بريسبان الى الفضاء العربي، وفق قبح اسلامي عميم، اسمه "داعش"، ومعه تستغرب، كيف تحولت الافكار والمفاهيم والدول، من فكرة مشعة كما مدينة بريسبان في مسرحية جورج شحادة المدهشة، الى حدث تطارد فيها السلطات مهاجرين انذال، ينون قتل من آواهم!
جورج شحادة، مهاجرك الكوني الغامض القتيل، صار بعد نصف قرن قاتلا معلنا و وحشيا.. 
 
* نشرت في وكالة "واي نيوز" 20-9-2014  واعادة النشر هنا جاءت بلمسات محبة من الصديق الفنان مقداد عبد الرضا الذي ارسل غلاف مسرحية "مهاجر بريسبان" في طبعتها الاولى وتخطيطين من ضمن الكتاب.


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM