عراق المستقبل ومستقبل الثقافة

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


فاطمة المحسن*
على رغم كل اليأس الذي يبدو عليه حال العراق، هناك أمل غير ملحوظ يختفي تحت طيات الخوف والفجيعة، صوت الامل الذي لايعلن عن ذاته الآن ينتظر اللحظة المؤجلة، لحظة يستعيد العراق سيادته وعافيته. وفي هذا المخاض الصعب تتعرض الثقافة العراقية إلى امتحان المواجهة اليومية،، بل امتحان الوجود والهوية. ولعل الأيام الحاسمة منذ بداية الاحتلال قد أسفرت عن توحد غير مسبوق بين الثقافة وهوية الوطن، فعندما تعرضت ثروات المتاحف والمكتبات والكاليريهات إلى الحرق والنهب، كان العراق المديني والمثقف هو المستهدف.
 

الراحل قاسم عجام في اخر صورة له
 
 
هذه الأيام دفعت وتدفع الثقافة ثمناً غير مؤجل في إقدام جهات مجهولة بعمليات اغتيال منظم طالت أكثر من  250  أكاديميا ومثقفا، وكانت آخر العمليات أن وجه ملثمون الرصاصات الى جبين الناقد الفني قاسم عبد الأمير عجام الذي فاز بثقة أبناء مدينته في العملية الانتخابية في بلدته، مكتسحا القوى الظلامية وبقايا النظام.
قاسم عبد الأمير عجام الهادئ الدؤوب الذي كان مؤمنا بدور المثقف الفاعل، أرادوه عبرة لكل المثقفين الذين يلفهم اليوم خوف الافصاح عن أفكارهم، او الانضواء تحت فعاليات تبشر بعراق مستقل وموحد. في الاسبوع الذي قتل فيه قاسم تم حرق مكتبة أور في الناصرية التي تحوي آلاف الوثائق والكتب المهمة.

المخاض الصعب الذي تمر به الثقافة العراقية يتمثل اليوم في الصراعات الخفية بين ثقافة الماضي وثقافة المستقبل، فقد أجهز النظام السابق على كيانات ثقافية بأكملها، واستطاع من خلال تورطه بالحروب والمجابهات، وسياسة النهب المنظم للثروات أن يقلل من فرص التعليم، ليخلف جيوشا جرارة من الاميين والجوعى الذين يمثلون أهم عوامل الإعاقة في الحالة الثقافية، كما أسهم في عزلة العراق عن العالم في فترة ثورة الاتصالات والحركة السريعة والفاعلة للثقافة العالمية الحديثة.
 يبدو العراق اليوم ساحة مكشوفة للصراعات المنطقية والعالمية، وهي تنطوي على بعد ثقافي، سواء بما تحمله الثقافة المتخلفة والعنفية من عوامل نشاط مدمرة، أو بما يمثله الاحتلال من صدمة في العمق الثقافي العراقي، وهو فضلا على تأجيجه قوى العنف في المجتمع، يحدث خللا في توازن الحالة العراقية، او في الخروج الهادئ من مرحلة التخلف الى مرحلة أكثر انفتاحا.
لعل التوترات التي تصاحب مسرى عملية التحول، ان جاز لنا التخمين بنوعها، تحتمل وجهين من أوجه الصراع، الاول يظهر بين مكونات الثقافة المحلية ذاتها التي لم تكن ظاهرة للعيان في السابق، لأن الاضطهاد وحّد الجميع تحت رايته،كما ستظهر بين المكون الثقافي المحلي والثقافة الوافدة اي ثقافة الانفتاح والحرية المدوخة. دخول المشاريع الثقافية الغربية الى العراق يحمل إمكانيات التنافس بين أوربا وأمريكا، وهو مفيد في وجه من وجوهه، ففرنسا والمانيا وبريطانيا وحتى اليابان تحاول كل واحدة منها بدافع انساني او لمصالح حيوية في المنطقة، الدخول بمشاريع ثقافية وتقديم المنح والزمالات، وهي فرصة ربما لاتتوفر إلا قليلا في عمر الشعوب، ولكنها الآن تصطدم بعوائق كثيرة، ومنها الوضع المحلي ذاته الذي يفتقد إلى الأمان والاستقرار، إضافة الى عدم وجود دولة ومراكز قوى لتنظيم الافادة من تلك المشاريع على أهميتها في إعادة الروح للكيانات الحضرية وتنشيط العوامل الخفية للتحديث التي مرت عليها غبار الزمن والقمع.

 المثقفون العراقيون في حومة البحث عن مخرج من أزمات الحياة الضاغطة بما فيها مظاهر العنف والاحتلال، يعلقون الكثير من الأفكار والتساؤلات التي كانت تشغلهم بعد أن انتهت الدكتاتورية، لتبدأ سلطة المليشيات والقوى الطالعة من عباءات القرون الوسطى، فهي الان تدخل في أخطر تحالف مع بقايا النظام الذي يملك عبقرية الأذى المنظم للعراقيين. ويبقى الكثير من الأفكار قيد التأجيل، خوف أن تسكتها الرصاصات القاتلة التي وجهت إلى رأس قاسم عبد الأمير عجام، بعد أن كتب عما يجري وحاول تجاوز الخطوط الحمر التي وضعها أعداء الحياة.
 
*نشرت الناقدة والكاتبة فاطة المحسن مقالتها هذه في جريدة "الرياض" السعودية بعد اسبوعين من اغتيال قاسم عجام، واختيار المقالة جاء لما تضمنته من افكار مهمة لجهة الاجابة على سؤال:اذا انتهت ديكتاتورية نظام صدام فهل بدأت "سلطة الميليشيات والقوى الطالعة من القرون الوسطى"؟


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM