بغداد 2004 "محافظة" اكثر من أي وقت مضى و"ثقافة التحريم" الى تصاعد

تاريخ النشر       22/09/2014 06:00 AM


بغداد – علي عبد الأمير*
لا تشبه احوال بغداد هذه الأيام مثيلاتها الى ما قبل عام لجهة انحسار الملامح المدينية في العاصمة العراقية التي عرفت كواحدة من مراكز الإنفتاح على العصر، فمركزها التجاري والترفيهي يغلق مع ساعات الغروب، وان فتحت ابوابه في النهار فهو يشهد جوا من الخوف والحذر، فالشباب المسلحون حاضرون للإنقضاض على أي هدف من بين محلات الصيرفة ودور السينما ومراكز بيع المواد الأليكترونية والآثاث المنزلي المستورد فضلا عن قدرتهم على استدراج المواطنين الى عمليات سلب ونهب وحتى الإختطاف .
في اطراف العاصمة العراقية الفقيرة وتحديدا في مدينتي " الصدر" و" الشعلة" باغلبيتهما الشيعية، تمسك " ثقافة التحريم" بخناق المواطنين بعد ان فرض شباب القوى الدينية نمطا من السلوك الإجتماعي الذي يبدأ بمحاربة الإنفتاح الثقافي ( فرض رقابة على مقاهي الإنترنت، ومنع المواطنين قراءة الصحف الليبرالية والعلمانية عبر نداءات الجوامع والحسينيات ) ولا ينتهي عند النساء والحجر عليهن كهدف مثالي لتطبيق الحجاب ومعاقبة أي امرأة لاتلتزم الغطاء الكامل للجسد ضمن مجموعات في مدينة الصدر باتت تسمى " جماعات الأمر بالمعروف والنهي على المنكر"، ولم تتردد تلك الجماعات في ضرب نساء بالعصي حين تجرأن على وضع اقدامهن الخالية من جوارب سوداء سميكة في احذية مكشوفة.

امرأة من مدينة الصدر ببغداد ( أي بي)

محلات بيع اسطوانات الغناء والموسيقى والأفلام تتلقى اولا "نصيحة" بالتحول الى بيع القرآن والمراثي الحسينية ثم بالإغلاق انتهاء بالتفجير في حال عدم امتثال اصحابها لأوامر" الشباب المؤمن".
شابات عراقيات كثيرات لم يتوقفن عند التحول الى الحجاب بل زدن على ذلك بالعباءة السوداء والنقاب ايضا، ومظاهرات انطلقت في " مدينة الصدر" ومركز بغداد هتفت فيها النساء ضد ابقاء قانون الأحوال الشخصية " العلماني" كشفت في الربيع الماضي عن تراجع لافت في الحريات لصالح " ثقافة التحريم" وانزواء اصوات الليبراليين والعلمانيين امام مثيلاتها التي يشدد على التزامها اسلاميون من اطراف شيعية وسنية على حد سواء، فبدء تطبيق " الشريعة الإسلامية" في الفلوجة والرمادي كشف عن فرض اجراءات في الرقابة على السلوك الإجتماعي لم يكن احد يجرأ على الدعوة اليها في نظام الرئيس صدام حسين على الرغم من تبينه في سنواته الأخيرة ما عرف بـ " الحملة الإيمانية"، وقطعه رقاب عراقيات اتهمن بالدعارة.
وتبدو اليوم دعوة الى تناول عشاء مع امرأة في مطعم بحي راق ببغداد ( عرصات الهندية او المنصور) محفوفة بمخاطر شتى لا يخفيها حتى صاحب المطعم، فهناك دائما تهديدات بنسف المكان بحجة انه يروج لعادات الإحتلال ( تقديم الشراب مع الطعام وترويج اختلاط النساء).
" الشباب المؤمن" ذاته طارد باعة المشروبات الكحولية خلال اكثر من عام، ومشهد الشرطة العراقية في الشهر الماضي وهي تقبض في الحي التجاري المعروف ( الكرادة) على اربعة شبان ملثمين اطلقوا قذائف آر بي جي على محل لبيع الكحوليات، كشف عن نمط من التشدد يحاول من خلاله شبان مرتبطون بقوى دينية ان يطبعوا الحياة الإجتماعية في العراق، فيما تعتبرهم الحكومة " خارجين " يحاولون فرض قانونهم الخاص .
في الجامعات تنحسر ملامح الإنفتاح الإجتماعي بين الطلبة والطالبات اللواتي زادت بينهن نسبة الحجاب والإنعزال عن زملائهن، في وقت بات تدخل" الشباب المؤمن" في شؤون الطالبات يشكل نوعا من الضغوط في اتخاذ نمط محدد من السلوك، مثار استهجان الإدارات الجامعية التي حاولت التدخل لإبعاد النشاط السياسي داخل الحرم الجامعي الا انها واجهت تظاهرات من القوى الدينية في الكليات والمعاهد لم تتردد في اعتبار اساتذة وعمداء كليات " اعداء الدين ".
وفي جلسات تضم عراقيين من عائلة واحدة يمكن ملاحظة التحول اللافت في السلوك، فمن " حرية اجتماعية" مارسها آباء وامهات في ستينات القرن الماضي وسبعيناته الى " نمط محافظ في السلوك" يمارسه الأبناء الذين يسألون، بطريقة استنكارية، امهاتهم كيف كن يلبسن ثيابا قصيرة وجريئة كما تظهر ذلك صور الدراسة الجامعية، وما كان يتخللها من رحلات الى اماكن سياحية داخل العراق اوخارجه، وهو ما تعتبره قوى مسيطرة على النشاط في داخل الجامعات الآن " سلوكا منحرفا" لاينبغي التهاون معه!
الطالبة نور موسى الراوي في كلية الهندسة بالجامعة المستنصرية ترى في التحول الى " السلوك المحافظ " في الحياة العراقية " هروبا من ضغوط المتشددين دينيا" بل تجزم على ان لجوء معظم النساء العراقيات الى الحجاب " هروب من منطقة الخطر" في اشارة الى ان النساء غير المتحجبات يتعرضن للمضايقات والأخطار ( من بينها الخطف ) اكثر من المتحجبات، كما ان مسؤولين في وزارات عراقية القادمين الى السلطة من الأحزاب الدينية عدة باتوا يهددون الموظفات من غير المحجبات بالفصل من العمل في حال عدم التزامهن " الحجاب الشرعي".
الشباب العراقي غير المسلم ( من المسحيين على وجه الخصوص) لاقى صنفين من الضغوط ، الأول اجتماعي ويتعلق بالسلوك " المنفتح" والعمل في تجارة المشروبات الكحولية، والثاني ما يتعلق بالبعد " التكفيري" الذي ظهر عبر عمليات تفجير طاولت كنائس عدة في بغداد والموصل .
الشاب دانيال كوركيس الذي يعمل في احد صالونات الحلاقة ببغداد ، يقول ان عائلته سافرت الى سوريا استعداد للهجرة الى استراليا ، بينما يحاول هو اتمام عمليات بيع منزل العائلة وسيارتين وتصفية بعض المتعلقات المالية قبل ان يلحق بعائلته مظهرا احساسا بالألم " لم نكن نريد هذه النهاية لوجودنا في العراق ولكن قوة المتشددين وسيطرتهم على الأوضاع جعلت حياتنا صعبة ولا تطاق".

 

* نشرت في "الحياة" - ملحق "مجتمع" صيف 2004



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM