فليذهبوا إلى الجحيم: صرخة دائمة في همسات قاسم عبد الأميرعجام

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


جاسم المطير*
أول وصف يمكنني أن اصف به قاسم عبد الأمير عجام هو: أن في أعماقه اليومية اشتياق جامح للكتابة النقدية فقد كان عمله مع الفلاح الفراتي قد جعله عظيم الحركة يشعر بنشوتها كلما ازداد قطيع العجول الفاشية حماقة في وأد الثقافة الحرة  فكان لا يترك روحه من دون ممارسة لعبة السرور في " النقد الفني " كوسيلة ممكنة لتزيين عيون القراء ببريق ضوء في زمن كله ظلام..
كان قاسم  يعود إلى مكتبي في بغداد كلما سنحت له الفرصة  فتتكاثر أمامنا الأسئلة وتتكامل حول مختلف الشئون الثقافية في العقود الثلاثة المنصرمة . خلال الفترة كلها كنت اسميه " كتاب التساؤلات"  أحيانا و" كتاب الصمت"  في أحيان أخرى.. هو في صمته  كان يبدو كمثقف  رمزا  إيجابياً من رموز إشكالية المثقف العراقي في ظل دكتاتورية غاشمة  لم تكن قيمته قليلة فقد كان وزن كتاباته ثقيلا في حسابات قرائه من صنف معدنه . من جهة يحمل في دفاتره السرية  جميع مكشوفات الحساب لنظام صدام حسين ومن جهة ثانية مساهم بارع في حواضر الكتابات الرمزية المعلنة في كتاباته النقدية،السينمائية والتلفزيونية، في وقت كانت الكلمة النظيفة مثل القنبلة الموقوتة يمكن أن تنفجر في قلب حاملها أو في حقيبته.
لم يكن قاسم مهمشاً في زمن الدكتاتورية كما أريد له أن يكون وفق تخطيطات  شياطين وزارة الإعلام ومشرعي قواعد وسياسات مشرعيها،بل خطّ  لنفسه صورة غير قابلة للتأطير الرسمي بتحدْ ٍ فائق النوعية لمحاولات تهميشه فكان حريصا على توكيد استقلاله العقلي في كل مقالة يكتبها حتى ظفر،بجدارة، بمنافع حب و متابعة قرائه مترقبين رأياً يقوله عن فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني .

الراحل قاسم عجام بمنزله بناحية مشروع المسيب الكبير حيث عمل لنحو ثلاثين عاما وقتل فيها
 
نما عنده حس النقد الفني نموا متسارعا جعل حتى قادة الصحافة الحكومية آنذاك غير قادرين على تجاهل موجات كتاباته الفنية رغم أن إحساسه كان ينبئه انه يعيش في منفى دائم وهو في مدينته ذاتها وبين أهله وأهلها . كان لا يتورع من القول في كل مرة  يغادر فيها لقاءنا  انه عائد إلى المنفى الذي يتبادل الحب معه فلا هو يريد الخلاص من المنفى ولا المنفى يريد ..! وليذهبوا إلى الجحيم ..! عبارته المحببة لديه كفاصلة مسرحية يرددها في كل وداع بعد لقاء قصير أو طويل بيننا .
ما وجدته يوما راكنا في زاوية مثلما لا يحب الركون إلى المظاهر،  بل وجدته وثيق الصلة بروح الصديق لكل ما هو إنساني في العمل والقيم ،  راكنا إلى الوثوق الكلي بخطابه الفني الأكثر التصاقا بضميره وضمير قارئه  وبمهمة المساهمة المتواضعة في عملية التنوير.  في السر ، قلبا وروحا،  كان يؤمن بان إشكالية الانتقال من الدكتاتورية إلى الديمقراطية مسألة وقت تحل بالسقوط المحتم لنظام صدام حسين . مع وجوده في هذا الأيمان ما وجدته يوما متأزما ... بل كان طيلة حياته متصوفا بالصبر .
وأنا هنا في بعدٍ عن الوطن سررتُ يوم قرأت خبر تعيينه مديرا عاما لدار الشئون الثقافية التابعة لوزارة الثقافة فقد  أدركت أن الخطوة الصحيحة لنقل دور المثقفين العراقيين من المحور الهامشي إلى المحور الميداني قد بدأ بهذا القرار الذي حمل معه ضوء القدرة الثقافية لينير الساحة الثقافية العراقية التي سيطر عليها طابور مدرع من جهلة النظام الدكتاتوري بقيادة وزيرهم الأول لطيف نصيف جاسم الذي كبّـل ، هو وأمثاله ،  الثقافة العراقية خلال ثلاثة عقود بعصبية الحزب الواحد وبالاستدلال الفاشي في الخطاب التعبوي الأسود شديد الانحراف .
كان اختيار قاسم عبد الأمير عجام لمنصبه الثقافي أحد أهم التحديات التي تحدد طريق خلاص الثقافة العراقية من أزمة الظلام وتفاقمها حتى بعد عام من سقوط صدام حسين . هذا الرجل النشيط بصمت الذكاء القادر على إبعاد نظر بوليس وزارة الإعلام والثقافة استطاع أن يثبت أن بإمكان المثقف العراقي أن لا يكون محبطا حتى وهو يعيش في سجن كبير اقل ما فيه أن المثقف يعيش في زنزانة إنفرادية..
توقعت بتعيينه بمنصب ثقافي ليس كبيرا على استحقاقاته الكبرى أن يكون قادرا على تقديم النتاج الثقافي العراقي المطبوع بحصيلة جديدة النوع برهانا على أن الثقافة العراقية لا تزول في ظل الحكم الاستبدادي بل تختبئ أو تتحايل أو تترامز لكنها بالنتيجة تستطيع أن تعبر عن نفسها تعبيرا وافيا تحت الشمس الساطعة حين تشتد سواعد الأغلبية من اجل إعادة أعمار الثقافة الحرة والديمقراطية ولم يكن اختيار قاسم عبد الأمير لهذه المهمة غير التعبير عن دقة اختيار هذا النخبوي كي يسوس  بعض أمور الثقافة العراقية ونشرها في فترة تنحو للديمقراطية وهو القادر على توفير القدرة على ادخار الطاقة العراقية ليحشدها في مجرى ثقافة الإنسان الحر..
لكن القمع جاء إليه هذه المرة شديدا وقاسيا ليس من دولة الدكتاتورية أو من بوليس لطيف نصيف جاسم بل من بقايا أشباه الرجال ممن تعلموا وتدربوا في دوائر الفاشية على أساليب مجنونة ومتنوعة بموجب قانون آلي أعمى لعرقلة النمو الثقافي عن طريق التعجيل بإنهاء حياة كفاءة ثقافية عراقية أصيلة  صبرت طويلا على الموازنة بين استهلاك الحياة العصيبة في ظل الدكتاتورية وبين ادخار القدرة الإبداعية الحقيقية المفعمة بالآمال لاستثمارها في مرحلة البناء الديمقراطي القادم .
باغتياله كان الهدف كبيرا هو  اغتيال محاور تجديد الثقافة وتخليصها من طحالب التبعية ، أولها محور قاسم عبد الأمير،  الفنان الذي لم يظهر فنه كله والكاتب الذي لم يظهر فكره كله والحر الذي لم يظهر حريته كلها ، فقد كان هذا الرجل كتلة منطلقة في فضاء لم تمارس ضغطها على ارض بعد .
لقد اغتالوا حراً لكنهم لن يستطيعوا اغتيال تيار الثقافة الحرة. وسيظل هذا الحر أسماً لامعا في ساحة الثقافة العراقية .
 
بصرة - لاهاي في 30 ايار 2004
*كاتب وناشر عراقي


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM