حوارات  



شمّه: مات الطفل فيّ بعد الحرب*

تاريخ النشر       25/09/2014 06:00 AM


حاوره في القاهرة- علي عبد الأمير*
اذا صح ان مدرسة العود العراقية عزفاً وتأليفاً، هي مدرسة مميزة الملامح وتأثيراتها حاضرة في نقل العود من موقع مرافقة المطربين في الاوركسترا الى جماليات العزف المنفرد كما ثبتته تجارب عربية كثيرة، فان في مدرسة العود العراقية تجارب رسخت الى جانب براعة العزف المنفرد والتقاسيم والارتجال، مؤلفات اكانت لألة العود ام للعود والاوركسترا بل ان بعضها ذهب الى اكثر من ذلك فكتب انطلاقاً من العود بصفته مركز معرفته الموسيقية الى كتابة الموسيقى المعاصرة. ومن هذه التجارب يظل اسم الفنان نصير شمة، فهو لا العازف اللامع صاحب الحساسية المختلفة في علاقته مع اوتار الته وحسب، انما المؤلف لمقطوعات موسيقية منها ماهو خاص بالعود واخرى لمستويات واشكال موسيقية، اخرى كالاوركسترا والفرق الموسيقية الصغيرة والثنائيات والموسيقى التصويرية لاعمال سينمائية وتلفزيونية.

عبد الأمير وشمّه: القاهرة 2010
 
وصاحب "قصة حب شرقية" الذي يقيم في القاهرة منذ سنوات، مستغرقاً في تثبيت ملامح نهج تربوي موسيقي لالة العود عبر عمله في "بيت العود العربي" التابع لـ"دار الاوبرا المصرية"، كان عمل في معهد الموسيقى العالي في تونس بعد خروجه من بغداد اوائل تسعينيات القرن الماضي، ومابين الاقامتين، جال في مدن اوربية واميركية فضلاً عن اشتراكه في ابرز المهرجانات العربية، حاملاً ملامح تكوينه الاول ومتدفقاً في الوقت ذاته بكل ما يشير الى تجديد حقيقي في الموسيقى عراقياً وعربياً ودونما كلل.
ولئن نصير شمة كان قد كشف في حوارات كثيرة عن رؤاه وقوالبه الموسيقية وحياته ومفهوماته واعماله، فان حوار "المسلة" معه جاء مختلفاً لجهة انه لايريد تكرار ما كان قاله صاحب "حلم مريم"، وليكشف بعض العناصر التي اسهمت في تكوين شمة موسيقياً وثقافياً وانسانياً.

*شهدت تجربتك، ثلاث محطات فيها من التأثير النفسي والحسي  قدر مافيها من تأثيرات المكان… كيف تقيم تأثير المكان العراقي التونسي والمصري عليك؟
-في اعتقادي ان المكان لافت التأثير، فالذي يعي مكاناً ما، ينتقل معه اينما يكون، لذا ترى الرموز التي كبر عليها تنتقل معه حتى مع قطع الاثاث قبل حتى حضورها في ذهنه. بعد مغادرتي تونس بدأت استعيدها في موسيقاي، واتناولها في اعمالي. المكان يظل يشكل تنوعاً خصباً للذاكرة، وبالذات حين يكون متضمناً بعدا تاريخياً وحضارياً. لم اعش حياة خصبة في بغداد الا حينما غادرتها كمكان، اثناء وجودي فيها لم اكن اشعر بقيمة الاشياء من حولي، بدأت برؤية الاشياء اكثر وضوحاً وتأثيراً بعد ابتعادي عن بغداد.
وكلما طال ابتعادي عنه، كلما تتضح ملامح المكان وانسانه في اعمالي، وأمكنني استعادة الحي القديم الذي نشأت فيه ومدرستي الاولى، حتى أنني اعتبر مغادرتي الى تونس البداية الحقيقية لإقامتي في بغداد.

*هل اصبح الحدس بديلاً عن المعايشة؟ بحيث انك تقرأ في روحك الاخرين وتبدلات المكان والملامح بل انك قد تعرف حتى هواجسهم الان وان كانوا منقطعين عنك؟

-الحدس جوهر الموهبة، والاستقراء عن بعد وقراءة المستقبل، ليست مجرد اوهام ورؤى فانتازيا بل ان للمبدعين القدرة في قراءة تتجاوز الراهن لتصبح مدخلاً للمستقبل. هل يبدو غريباً تأسيساً على ذلك ان يكون السياب قرأ العراق في قصيدته "غريب على الخليج"؟
المبدع يرى الاشياء بشكل مغاير، وفي الموسيقى بوصفها اكثر اشكال التعبير الفني تجريداً، يبدو في الامكان استحضار الامكنة والناس عبر اشارات ليست بالضرورة تكون محاكية للواقع، فانا في "مقام العشق" استعدت القيروان ولكن انطلاقاً من زيارة لجامع محمد علي في القاهرة، وكتبت "لوركا" بعد تأثير ساحر عليّ ولدته زيارة لمدينة غرناطة حيث عاش الشاعر الاسباني وقتل.
 الامكنة الاخرى: مدينة "عين دراهم" شمال تونس، مكان غاية في السحر والانسجام اثرّ حتى على طبيعة عزفي وايقاع الحفل الذي احييته فيه جعلني وكأنني في مدينتي الكوت، وقد عدت اليها ذات يوم لاحيي حفلاً، استحضرت اساتذتي، صرامتهم، جماليات المكان الاول الحميم, كيف كنت استمع وانا طفل، الى جمل كبيرة في السياسة والحكايات التي تتحدث عن مصائر سياسيين اختطفوا او غيبتهم السجون، وانطلاقاً من هذه المؤشرات عزفت وانا في مكان شكلني وكونني، المكان في الموسيقي يجعل العازف متمكنا من عين مدربة، وقدرة على الالتقاط، وهذه عوامل تدفع بالعازف الى مشاركة وجدانية عميقة مع المتلقين حد انها تغيرّ من سياق عزفه وتتدخل في اسلوبه واختيار المقطوعات.

*تتحدث بألم عن المكان الاول… أي نوع من الغربة انت فيها؟
-بدأت الغربة عندي مع اول تفتح للوعي عندي، ثمة غربة في البيت، في المدرسة، مع ايقاع الاشياء، وحين خرجت من العراق لم يطرأ عامل حاسم على ايقاع الغربة، فهي ليست مؤشراً على المكان، بل انني ارى الغربة في العقل اصلاً.

*الى اي درجة يبدو الوعي مهماً للموسيقى؟
-الموسيقى دون وعي يصبح "آلاتياً" ماهراً، وبامكانه ان يؤدي دوراً على هذه الالة. الوعي مكنني من اعادة قراءة النغم، فعلاقتي بالشعر، باللوحة، بالفكر عموماً، هو ما جعل من مقطوعاتي واسلوب عزفي محمولاً عقلياً مشبعاً بالدلالات والافكار الى جانب التأثير الروحي الحميم.
في مقطوعة "حوار المتنبي والسياب" استحضرت اربع سنوات من قراءة معمقة لنصوص هذين الشاعرين: ثمة الكلاسيكي وثمة الحديث، وعبر استقراء افادني النقد فيه، وجدت ان رابطاً بين الشاعرين: المغايرة والتميز، لا عامل مشتركاً بينهما، فعنجهية المتنبي وغروره وتعاليه، تقابلها رقة متناهية عند السياب، هذا صوته يصل البرج وذلك يصل صوته القاع، هذا الامتياز لكليهما جعلته حواراً، مكنني من نقل الفكرة عن الة العود من كونها الة للطرب والانس والتقاسيم، الى رؤية وصورة وفكرة وحالات انسانية متباينة، وهذا التأثير تمكنت مقطوعتي من احداثه بين جمهور في مهرجان موسيقي ايطالي، وهو يمثل ملمحاً جديداً لم نعرفه عن العود ولم ندرسه في موسيقانا اي ان نكتب عن قضايا اساسية في تاريخنا وثقافتنا عبر النغم، فلم يعبرّ احد من قبل عن اجتياح هولاكو لبغداد، وعن ثورة 1920 في العراق، من الضروري جداً عن نضع الموسيقى على هذا القدر هذا الوعي.
 
*أين نصير شمة وهو يتوزع مابين العازف والمؤلف والمعلم المنشغل بتدريس العود؟
-يصعب الفصل بالنسبة لي اليوم بين المؤلف والعازف ومن يسبق من؟ فلو لم يكن جانب المؤلف فيّ قوياً لما كنت عازفاً مميزاً، هذكا اصبح التأليف والعزف متلازمين، ولكن حين اترك نفسي خارج السياق اجد انني كعازف اسمع انغاماً لولا قدرتي على التأليف ماكان بامكاني تحويلها الى اعمال مسموعة، اكان ذلك عبر العود او اشتراكي مع الات اخرى في تجسيدها، وهكذا يصبح العزف والتأليف سلسلة مترابطة سيضعف تأثيرها ما ان رفعنا اي حلقة من حلقاتها، والتأليف جاء حتمية لعدم وجود ارث موسيقي آلي، لذا كان الجيل الذي سبقنا بدأ وضع مؤلفات لالة العود وهو ما اعتبره دافعاً اساسياً عندي لمواصلة هذا الدأب، فالموسيقى العربية غنية حد انها قادرة على انتاج صياغات الية ليست اقل مما هو موجود في موسيقات اخرى،
اما التعليم، فانا قصدت من خلال الانخراط فيه، ازالة ذلك الاحساس بالنقص من فكرة المعلم، وان تأثيره ما يزال في حدود التلقين للتلاميذ، وعملت على تقديم مثال حقيقي ومعاصر للمعلم الموسيقي، فيصبح العازف الذي يملك اسماً معروفاً قادراً على فسح المجال لمشاركة الاخرين في هذا الاسم ونجاحه.

*الحدس والوعي الخبرة والمثاقفة والاتصال هل اثقلت هذه الموشرات على الطفل الذي فيك؟
-بعد وقف اطلاق النار في حرب الخليج الثانية عام 1991 احسست وكأنني بلغت المئة من عمري، كان هول القذائف والموت، قتل الطفولة فيّ، ملامحي تغضنت، ولكن امتلكت حكمة اخرى، زهداً بل على درجة من الزهد، وبعد عشرة اعوام مازلت ابحث عن الطفل الذي فيّ الزمن. غير ممكن ان يعود الطفل عندي، فقد تضاءل وجوده او تلاشى! سمعت قبل فترة تسجيلاً اعزف فيه يعود الى عام 1988 وتوقفت عند اسلوب الضرب الرقيق والخافت على الاوتار، اصبحت اليوم اقسو على العود واتألم لقسوتي عليه، وكلما اوغلت في اذاه كنت احاول التعبير عن الاذى الذي فيّ، حين وجدت انني بدأت اخسر الانسان الرقيق فيّ، وضعت نفسي في مختبر لاعادة تأهيلي نفسياً وفكرياً وعاطفياً، وانصرفت الى مراجعات لكل ما حصل، ما عشته، ما سيأتي، وعبر البحث النفسي العميق، وما قادني ذلك الى الطرق الصوفية العشرة الاساسية، اعدت جزءا من الصفاء الذي كنت  عليه، مع نوع من المشاعر هو انني احيا وقتاً ضائعاً، هو وقت الخروج حياً من حرب لم تبق ولم تذر، وهو وقت على من حصل عليه، ان يحياه بعناية بالغة. انا اليوم لا استطيع القول انني امتلكت الطفل مجدداً، ولكني انظر اليه بحنين واتقمص شخصيته وملامحه احياناً.


*هل تشعر انك غريب على يومك، وعلى الناس من حولك؟
-قد اكون غريباً ولكني منسجم مع نفسي، انا لم اخلق في بيئة مهيئة للموسيقى، فعائلتي متدينة، لا احد منها اتصل او عزف الموسيقى عدا الانشداد للالحان الاصيلة، ولحظة اكتشافي للموسيقى هي لحظة رؤيتي لمعلم النشيد والموسيقي رحمن جاسم عبد في مدرستي الابتدائية، ومنذ ان امسكت العود وتعلمت على يد استاذي صاحب حسين الناموس، اصبحت ألتهم كل اشارة وكل معلومة، لابدأ في الخروج عن وصاياه، حتى انني بعد سنة من التعلم كنت اصغر طفل يعزف مع فرقة معلمي مدينتي "الكوت"، غير ان احساساً من عدم الرضا كان ينتابني وانا اتقدم في دراسة العزف، فاشعر بالغضب حين اجد زملائي يتعاملون مع الالات الموسيقية بوصفها وسائل ترفيه، فيما كنت انظر اليها ابعد كثيراً من ذلك. كنت اريد التعلم والتمكن من العود كي أجسّد افكاراً على هذه الالة، ولذلك لم اتوقف كثيراً عند الموروث، ولم اتعامل معه على اساس انه النبع الوحيد الذي سيكونني، بل ذهبت الى مناطق تجريبية جديدة وعملت على وضع بصمة جديدة على الالة.
في بداية الثمانينات شعرت انني مأخوذ الى عالم سري وساحر، ولكن اجهل الطريق اليه فكان ان اهتديت الى "معهد الدراسات النغمية" في بغداد، والذي عرف بتخريجه افضل موسيقيي العراق. وبعد دراسة مكثفة لست سنوات التهمت فيها كل ما يتعلق بتراث العراق الموسيقي والعالم العربي، ونظريات موسيقية، كانت عدتي قد اصبحت حاضرة للوصول الى جسر ينقلني الى التعبير الذاتي.

*هل كان ضعف انجذابك الى الذات هو الذي جعل عملك عموماً وكأنه خارج الموروث؟
-اعتقد ان لهذا سبباً رئيسياً، فانا لم ادرس التراث ولم اتعامل معه بوصفه مقدساً، بل كمسألة قابلة للنقاش، حتى انني درسته بمشروع شخصي منطلقاً من حيث توقف الاخرون، دون ان استكين للتراث وللهالة المقدسة التي يتعمد البعض احاطته بها، فانا اتصل مع الموروث وانفصل عنه مثلما كان فعله جميل بشير باقتدار، وحين اتضحت مداركي، بدأت البحث عن مثال، فوجدت مشروعين متطورين مثلهما الشريف محي الدين حيدر وجميل بشير، هما استاذاي الحقيقيان، بل انني اجد نفسي قريباً الى إكمال مابدأه جميل بشير.

*من اي جهة كان اتصالك مع جميل بشير؟
-لجهة  بحثه عن قوالب في التعبير الموسيقي وهاجس التجريب الذي كان يسكنه، ولو لم يدرك الموت جميل، لكان من الصعب ايجاد مكان لنا وسط عالمه المليء بالتجديد وبالروح وبالشفافية العالية، او كان علينا البحث عن صيغ  اكثر ابتكاراً، لانه لم يترك منطقة في العود لم يلعب عليها، ولم يترك فكرة لم يمسها في تجديد غيرّ بالكامل الية العزف على العود.
 
*وما الذي كان يبعدك عن منير بشير؟
-يحتاج من يريد تذوق فن منير بشير وعياً ودراية وحكمة مغايرة للبساطة التي كان يصل بها الينا جميل بشير، فكما الشباب دون سن العشرين لايعشقوا غناء ام كلثوم قبل ان تمر فترة طويلة ليجدوا انه غناء فذ، يحتاج منير بشير الى حكمة وصبر وجهد كي تصل اليه.
ما يلفت الانتباه الى فن منير بشير هو احتفاظه بالتألق والمستوى الرفيع والاسلوب المتميز في العزف علي العود حتى اخر فصل في حياته، فضلاً عن انه استطاع خلق بصمة تختلف عن كل مافي مدارس العود بما فيها العراقي(…)، فهو استطاع ان يدخل عالم التأمل بحنكة كبيرة، وأوجد شكلاً للارتجالات لم يسبق للموسيقى العربية ان دخلتها منذ الاصفهاني حتى يومنا هذا، واستطاع ان يقولب التقاسيم وان يجعل لها بناءً اقرب الى التأليف.
هكذا انظر الى اثر منير بشير، ولا انفصال عندي مع مدرسته، بل على العكس اعتبر انه مهدّ لنا طريقاً هاماً جداً هو طريق الحضور للثقافة العربية الموسيقية في اوروبا والعالم اجمع، للدرجة التي اصبح فيها العود حاضراً في افتتاح مهرجانات كبيرة.
 
*الحديث عن جميل ومنير بشير يقودنا الى حديث عن صورة ما يشكلها نصير شمة لتاريخ الموسيقى العراقية في القرن العشرين؟
-ماوصلنا من ارث موسيقي في العراق، هو بالتأكيد تفاعل قرون عدة افرز هذا الثراء شديد التنوع. وتتوزع عناصر هذا الارث الثري بحسب اهميتها، فثمة:
"المقام العراقي" اولاً والذي يعد قالباً موسيقياً وليس سلماً موسيقياً، وهو الهوية الانصع وضوحاً في شخصية الموسيقى العراقي.
ثانياً "الغناء الريفي" وهو لون لا يلتقي بالمقامات لاشكلاً ولا مضموناً، له لهجته وايقاعاته التي تميز عن باقي الوان فنون العراق الموسيقية، وعن العالم العربي ايضاً، وهو يشبه الى درجة غريبة التضاريس التي نشأ فيها.
وثالثاً "الموسيقى العراقية الكردية" وهذه لاتشبه المقام ولا الغناء الريفي، من خلال مقاماتها وايقاعاتها هذا عدا موسيقى الاقليات التي هي نسيج العراق بالكامل.

* فصل من كتابي قيد الطبع والحوار اجريته في العام 2002 مع شمّه لمجلة "المسلة" الصادرة عن "الاتحاد العام للكتاب والصحافيين العراقيين" في المنفى.

 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM