نقد فني  



جماليات السينما المعاصرة عند فرانسيس فورد كوبولا*

تاريخ النشر       04/10/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير*
لم تعد السينما نسخاً متطابقاً لتفاصيل وقائع الحياة، فهي إذ تزداد نضجاً كفن راسخ، قطعت وأنهت تلك التطابقات الفجة مع الواقع، وأخذت ترقى عبر ما تثيره من عوالم في الذهن والذائقة الإنسانية، الى تشكيلات حياتية تعطي معنى الوجود قوة الأمل وصيرورة الحلم . وهذا الإستنتاج لا يُعد قياساً لكل الإنتاج السينمائي، بل هو استقراء لبعض نماذجه المتطورة. وهنا سنتوقف عند أبرز شواهد هذا الإنتاج ولواحد من ألمع مخرجي عصر السينما الحالي الذي يؤكد بطريقة لا تقبل الجدل مفهوم "سينما المخرج"، وهو المخرج الأميركي فرانسيس فورد كوبولا، فهو على مزاجه الخلاّق يصنع أفلامه، يُتقن إستخدام الفنون وخاصة الموسيقى، بصري التقنية ويبدع في خلق مشاهد غنية بالتفاصيل، يجدد أدواته، لا يعبأ بالنمط التقليدي للقصة السينمائية و "وعاظ سلاطينها". يبدأ بتنفيذ أفلامه من حيث يريد دون تنسيق محدد مسبباً في فوضاه تلك حيرة كبرى حتى لمساعديه، لا يتردد في استعمال آخر مبتكرات علوم البصريات وتقنيتها الإليكترونية في التصوير، أَوَ لم يقل عنه "شاعر الإليكترونيات"!
ان اسهاب هذه المقدمة قد يبدو مبرراً للدخول الى عالم هذا الفنان الكبير عبر فيلمين له، عُرضا هنا في صالات بغداد، وهما "واحد من القلب" و "نادي القطن".

 
أفلام بلا دراما !
لن يبدو ذلك معقولاً وقد لا يحوز على الرضا، ان تكون هناك سينما دون ربط موضوعي للأحداث او دون جدل توفره، لكن كوبولا يفعلها ويعرض لنا نوعاً من البديل هو ما أشرنا اليه إبتداء وأسميناه إنهاء التطابق والتماثل البدائي بين الفن السينمائي والوقائع الحياتية، فلا تطور دراميا في "واحد من القلب"، والقصة تبدو بسيطة للغاية ولكنها تعرض علينا بحيوية قل نظيرها، انها تأتي وفق بناء متتابع ورصين لمشاهد حية وتنبض بكل ما هو حلمي ومؤثر، حتى الممثلون ظهروا كأنهم تفاصيل تتناغم مع الإيقاعات الأخرى ومع مسار الحدث شكلوا المشهد المطلوب.
في هذا الفيلم استعرض المخرج قوة الحلم التي تكّون عمق فنونه، فهو في مغامرة عُرف عنها، يبني مدينة تشع فيها الحياة ولكن على طرف من الخيال العذب، إنها ليست الوقائع اليومية لحياة مدينة لاس فيغاس بل هي المدينة المغسولة بالضوء والبهجة والإيقاعات، وبهذا التدفق الحلمي ومعايشة مغامرته اللذيذة يلتقي البطلان حين يتسرب الملل والإيقاع الرتيب الى حياتهما وتكاد تنطفيء جذوة الحب بينهما. البطل هنا في أفق مفتوح يعمل كمصمم إعلانات ضوئية تعتمد الإثارة وقوة الإبهار، والبطلة لا تقل حلماً، فهي تعمل مرشدة في مكتب للسياحة وتُجيد تصميم (ماكيتات) الجزر والمدن التي تعلن عن السفر اليها اعتماداً على خيال وذهنية فنية، وفي "خبطة" وإضطراب مشاعر ينفصل الإثنان ويذهبان كرد فعل للبحث عن حب آخر، فتتكون مشاعر إعجاب أولى للبطل مع فتاة هي الأخرى شخصية حالمة فهي راقصة سيرك، وفي مشهد لا يُنسى يؤكد كوبولا براعته الإخراجية حين يستعرض مشاعرهما في باحة المشغل الملون بتحولات الأفق حيث الإيماءات السحرية وروح الخيال، والبطلة تختار هي الأخرى صديقاً لها يعمل عازفاً للبيانو ويغني أحياناً وذو قدرة إيحائية تفتن لب هذه الضَجِرة المأخوذة بشيء من جمال غريب.
 
"واحد من القلب"
 
"نادي القطن": قوة الرؤية أو قراءة الحياة فنياً
كما تحول "كوبولا" من فلمه الإستعراضي "قوس قزح فنيان -67" الى "أهل المطر – 1969" حيث شحنة الدراما، تحول هنا من "واحد من القلب – 1982" الى "نادي القطن- 1984"، لكن ثمة اختلاف هنا، لا تطابق كليا كما في التحول الأول، فعبر عمله هذا والذي عرض في بغداد مع بداية العام الحالي، شهدنا واحداً من أهم افلام المخرج إن لم يكن أفضلها، فالفيلم تتحرك أحداثه ضمن سقف زمني محدد، وهنا قوة بناء في الحدث وشيء من تطور درامي شهدناه لكن ظل دون الشكل التقليدي لذلك، فالنادي وهو المكان، أظهره "كوبولا" رمزاً قوياً لما كانت عليه الحياة في ثلاثينات هذا القرن في الولايات المتحدة، وعلى مسرحه وموائد ضيوف لياليه، قدّم المخرج صورة عن تلك الفترة حيث الكساد الإقتصادي وصراع الأقطاب وحروب عصابات "الغانغستر" وخفاياها ومؤثراتها.
النادي هو للنخبة من الأميركيين البيض فقط بينما كان فنانوه من راقصين ومغنيين من الزنوج، وقد استحضروا فنون الغناء الزنجي الأصل (الجاز) ومن نادي القطن اكتسب هذا الفن سعة التأثير حتى إمتد لعموم الولايات المتحدة، وأصبح الفن الأثير لكبرى المدن فيها، وعبر القراءة الوثائقية لتلك الفترة ومن هذا المكان شهدنا براعة أخرى وجماليات فيّاضة لصاحب فيلم"العراب"، فولعه بالجاز امتد من "واحد من القلب" وكرّسه هنا قراءة لتاريخ فترة حياتية، وكان بناء المشاهد بشكل دقيق وعلى جانب كبير من الحرفة العالية، وظل هذا أسلوبه المميِّز، فالعناية كانت واضحة بإستحضار المؤثرات: الإضاءة كانت قائمة إشارة للجو الزمني، الدموية قاسية ومرعبة إيضاحاً منه لتضارب القوى المؤثرة في الحياة الإقتصادية والسياسية (مَن ينسى مشهد وجه الجميلة فيرا "دايان كيتون" حين تسقط عليه قطرة من دم أحد قتلى العنف في حفلة ساهرة كانت دماؤه قد تناثرت في كل مكان ومنها ما علق بثريا تدلّت وسط الصالة وظلت تتساقط بقطرات على وجه فيرا)؟
وقد سمّى البعض فيلم كوبولا هذا بأنه إستعادة لعصر الجاز الذهبي، وفي ذلك إصابة لجانب كبير من الحقيقة حيث يتوافق ذلك مع رؤية المخرج للسينما باعتبارها خلاصة لإنجازات كل الفنون. لكنني أزيد على ذلك وأقول انه كان يقرأ الحياة بإيجاز كثيف عبر مشاهده تلك، فهو متعاطف جداً مع الاميركيين من اصل افريقي، حيث الإضطهاد العنصري السائد آنذاك وإدانته غير المباشرة لتلك الأشكال، كما ان في الفيلم إستعادة لتاريخ السينما وبداية استخدام الصوت فيها، وإشارات لظهور ما سُمي بالتأثيرات الهوليوودية فيها وبزوغ عصر النجوم من خلال متابعة مسار حياة عازف البوق ديكسي دواير (ريتشارد جير).

تُرى، عبر تلك المؤثرات الحياتية والوقائع التاريخية هل تخلّى كوبولا عن نهجه؟ لا اعتقد. ففي مشاهد فيلم "نادي القطن" ظلت روح الخيال قوية الحضور، وكما سحرنا أداء ساندمان ويليامز (غريغوري هينز)، بعذوبته كانت الإستعراضات وإيقاعات الجاز قطع جمال خالصة وجدت "المعنى"، بعد ان كانت تبحث عنه على إمتداد فليم "واحد من القلب"**
 
 
"نادي القطن"
 
 
* مقالة منشورة في صحيفة "القادسية" 20-8-1986 .
** اشارة لمقالة الناقد صفاء صنكور، الموسومة "جمال يبحث عن معنى" حول فيلم "واحد من القلب"، المنشورة في جريدة الثورة 1-8-1985.

 




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM