حوارات  



د. علي جعفر العلاق: الشعر فن جدير بأن تُكرس حياة بأكملها من أجله

تاريخ النشر       14/10/2014 06:00 AM


حاوره: علي عبد الأمير*

الشاعر والأكاديمي د. علي جعفر العلاق هو أحد شعراء جيل الستينيات العراقي والعربي أيضاً, ولد عام 1945 في مدينة واسط شرق العراق, أكمل دراسته للدكتوراه في بريطانيا عام 1984, عمل أستاذاً جامعياً ورئيساً لتحرير مجلة "الأقلام" الأدبية المعروفة حتى عام 1991, يعمل الآن في تدريس الأدب والنقد الحديث في جامعة صنعاء, أصدر خمسة مجموعات شعرية هي: "لا شيء يحدث ... لا أحد يجيء – 1973", "وطن لطيور الماء – 1975", "شجر العائلة – 1979", "فاكهة الماضي – 1987" و "أيام آدم – 1993" وله في الدراسات النقدية أربعة كتب هي: "مملكة الغجر – 1981", "الشريف الرضي – 1985", "دماء القصيدة الحديثة – 1988" و "في حداثة النَص الشعري – 1990" فيما يصدر له قريباً "الضوء والغابة": دراسات نقدية, عن مجمل سيرته الشعرية, عن رؤيته لثنايا نصوصه وحياته معاً, عن شتاته وعزلته, عن بهجته وندمه, كان لنا معه هذا الحديث وأثناء زيارته الأخيرة لعمّان:

* الشاعر علي جعفر العلاق ... هل يمكنك أن تصف مشهدك الشخصي حياتياً وشعرياً؟
  
     -- أعتقد أن الشاعر, أي شاعر وسط هذه الانهيارات كلها, نفسياً واجتماعياً وحضارياً لا يعود كائناً مستقراً يمكن الإمساك به أو يمكن وصف حياته أو مشهده الشعري وصفاً ملموساً ومقنعاً, أنا انسان مترع بكآبة الشعر وتصدعاته ومنذ بدأت الكتابة لا أجد في حياتي, أهم وأغلى وأصفى من هذا الفن وأكثر وأشد جدارة بأن تكرس حياة بأكملها من أجله.
     أنا الآن في زاوية من هذا العالم, أعيش في اليمن منذ خمس سنوات, واليمن كما يعلم الكثيرون بلد عانى من العزلة, لكنني مع ذلك أقاتل بجنون وشراسة ووداعة أيضاً من أجل أن يظل الشعر حياً وحيياً أيضاً وأن يحفر طريقه رغم العوائق ورغم كل الحصارات التي يعانيها الإنسان, معي أسرتي من قصائدي ومشاريعي وأحلامي, ومعي أسرتي الملموسة, زوجتي وابنتاي, مباهجي في الحياة ليست كثيرة, أجد أن البهجة الكبرى هي بهجة الشعر واللحظة الخالدة والاستثنائية والعميقة هي اللحظة التي أجدني في عراك ودي وجميل مع الشعر, أحاول الإمساك به ويحاول الإمساك بي أيضاً, في هذا الاحتدام والاشتباك الحميم والجارح أجد ذاتي, وأجد نفسي, هذا باختصار شديد وربما بتفكك مشهدي الشعري والحياتي.
 

* كنت في خضم جيل التجريب والتحديث الشعري في العراق, جيل الستينيات, لكنك كنت أشبه بمحافظ, وسط  جيل التجديد ... هل تحرص الآن على تأكيد قرابتك لذلك الجيل؟

     -- بالنسبة لهذا السؤال, أجدني لأول وهلة لا أقول غير مقتنع به ولكن أقول غير مستوعب له, وأرى أنه لا بد من إيضاح نقطة أساسية: فعندما تقول أن فلان كان أشبه بمحافظ, وسط جيل التجديد فمعنى ذلك أنك تنسبه إلى جيل عرف عنه هاجس التجديد, لكن حتى في هذا الحكم نوع من التعتيم, لأن جيل الستينيات كما تعلم هو جيل فيع تشعبات كثيرة, هناك جيل تجريبي أو شريحة تجريبية بالأحرى, فرع تجريبي داخل هذا الجيل يسعى إلى المغامرة, يسعى إلى إشاعة نوع من الفوضى الجميلة في الأشكال, تفجير الرؤى, أحياناً اللعب البريء خارج المتن الشعري من أجل خلق نوع من الضجة المدهشة لجلب الإنتباه, هذا الجيل ضم شعراء كثيرين أنا شخصياً أكن للكثير منهم احتراماً عميقاً, منهم فاضل العزاوي, سركون بولص, صادق الصائغ, جليل حيدر, صلاح فائق وآخرون أيضاً, لكن هناك جيل وأنا منه لم يكن مفتوناً بالتجريب لذاته, لا يسعى بهوس من أجل إشاعة هذه الفوضى أو تشويش صفاء الشعر, هذا الاتجاه من ذلك الجيل كان يسعى إلى تأكيد آصرتين, الأولى: ارتباطه بالجيل السابق له, ارتباطه بالتراث, والثانية: انفتاحه على ما يستجد في هذا العالم من جديد ولكن لا يذهب وراء التغريب كثيراً, ولا يقطع صِلاته كلها, ومن هذا الجيل هناك الشاعر فوزي كريم, حسب الشيخ جعفر, سامي مهدي, ياسين طه حافظ وأنا.

* عُرف عنك, بحثك عن لغة تناسب جواً رومانسياً, كنت تحرص على مقاربته في    قصائدك, أكنت ترى أن الحياة تمضي إلى تفاؤل؟

     -- أنا أكاد أزعم لنفسي, لغة ليست للآخرين, لدي من بداياتي الشعرية حتى في القصائد العمودية التي بدأت بها حياتي الشعرية والتي ضمها ديواني الأول, ما أحاول عبره أن أكتب شيئاً يحمل نبرة خاصة, أجوائي ومناخاتي الخاصة, طريقتي في كتابة القصيدة, طريقتي في استخدام اللغة, بي نفور شديد عن السرد, عن الاستطرادات والزوائد, أنا أحاول قدر الإمكان أن أكثف قصيدتي حد الاختناق من أجل أن لا تقول كل شيء, لأن القصيدة كما تعلم والشعر بشكل عام هو قول موجز شديد الإيجاز, تكمن شعريته فيما فيه من فجوات, فيما فيه من إضمار وحذف وهذا مسعاي دائماً, أنا معك في أن بعض قصائدي تشم فيها فجيعة رومانسية وذلك ربما يتأتى من شيء أساسي في تجربتي هو أنني حريص دائماً على أن يكون للقصيدة دفئها الشخصي, نوع من الشجن الخاص بك أنت, كنت وما أزال أغترف من بئري الخاصة, من مرارتي, من طفولتي, من أحلامي الغابرة, من مشاريعي المثلوبة, من مستقبلي غير المتيقن منه, في ديواني "وطن لطيور الماء" وما تلاه وحتى في ديواني الأول وقصائدي التي لم يضمها ديواني الأول, عندي هذا الحرص على أن أكون أنا وليس شاعراً آخر, وأظن أن الكثير من الشعراء أمضوا فترة طويلة من حياتهم يتخبطون بين الشاعر هذا وذاك, كثير من المجاميع الأولى لشعراء, تستطيع أن تنسبها للسيّاب أو للبياتي أو لأدونيس, أنا لا تجد في قصائدي إلا النادر واليسير من ذلك النسيم الذي لا يستطيع شاعر أن يفلت منه في بداياته, أما حرصي على أن تكون لي قصيدتي الخاصة بي, فهذا الحرص كان هاجساً ممضاً يعذبني منذ البدء وأحرص على أن لا أقع في حقل يعود لسواي, والحقيقة أنني لم أكتب في حياتي قصيدة متفائلة رغم أن اللغة صافية عندي لكنها لغة مجروحة مترعة بالشجن ويغنني منذ البدايات الشعرية الأولى, لغة افتقادات, لم أكن جذلاً ولم أكن فرحاً ولم أكن متيقناً أن هناك مستقبل أفضل ينتظر شاعر على الأقل, لأنك تعرف أن الشاعر وكما قال أحد النقاد: إذا كانت الرواية هي شجار الروائي مع مجتمعه, فالشعر شجار الشاعر مع ذاته, أنا دائماً في عراك مع ذاتي, ومع المحيط الذي يضمني, وأظن أن أي شاعر عندما يتملكه إحساس بالجذل أو الابتهاج لا يعود شاعراً, أصلاً لا تحدث تلك الشرارة التي لا يتم انطلاقها إلا من حالة التنافر بين الـ "أنا" والـ "نحن", وعندما يكون هناك تجانس وحالة رضا لا أجد أن قصيدة مهمة يمكن أن تولد, الخسارات هي التي تولّد الشعر وأنا معجب حقاً بتلك الجملة التي قالها أحد النقاد: "الشعوب السعيدة لا تكتب شعراً", والشعر كما أراه دائماً وليد الخسارات, وليد الهزائم وقد قال الشاعر محمود درويش في مقابلة مهمة: أنا شاعر الهزائم والخسارات, أنا ميال لمثل هذا الكلام, أنا لست شاعراً متفائلاً لأنني أجد أن التفاؤل أقرب ما يكون للسذاجات أو البراءة التي تصل حد السذاجة ولا يكون مرتبطاً بالعمق مع إن البراءة لا تعني تعارضها مع العمق.

* الانجاز الإبداعي غالباً ما تتعامل معه الأوساط الأكاديمية العربية وفق نظرة الشبهات ... أنت شاعر بصوت خاص وأكاديميا أيضاً, كيف ترى الموضوعة شخصياً؟ بل إنك عانيت من هذه القضية شخصياً حين كنت  ترأس تحرير مجلة "الأقلام" الأدبية لسنوات طويلة, وعلى الرغم من درجتك الأكاديمية كانت جامعة بغداد لا تعترف بما يُنشر في المجلة لأغراض الترقية العلمية – على الأقل؟

     -- هذا تشخيص سليم جداً وهو يأتي كما يبدو لي من عزلة الجامعات عن الحياة, الجامعات العراقية والعربية بشكل عام تزداد ابتعاداً عن عمق النهر الحقيقي, تختار لها مكاناً منعزلاً نائياً في اليابسة, بينما ينحدر نهر الشعر ويتدفق بكل متغيراته بكل توقه إلى التجديد في الأساليب, بكل مماحكاته للحياة, بكل تعبيره الشرس عنها أو عن الموت, بينما الجامعة في معزل, الجامعة ترى الظواهر بعد أن تستقر وكأنها حفار قبور ليس أكثر! وهذا السبب في أن الكثير من نقادنا, والذين كنا نعول على أن يكونوا صوتاً نقدياً في حياتنا, كادت الجامعة أن تجهز عليهم بسبب حصرهم داخل هذه الأسيجة, داخل قاعات الدرس تحت رحمة الزمن المحدود لمستوى من الطلبة تحت رحمة القرارات, تحت لهاث الحياة ومطاردتها, بينما في جامعات العالم (أوروبا) فالأستاذ يتجاوز دوره قاعة المحاضرات, ويتجاوز ذلك العدد المحدود من الطلبة ليعبر أسوار الجامعة إلى الحياة العامة, فكتبه تُقرأ في الشارع وهو يخاطب العقل العام ويساهم في تشكيل وعي وذائقة وتحديد مسار, ويساهم مساهمة عميقة في حركة الحياة والثقافة عموماً.
     نحن في الجامعات (العراقية على سبيل المثال) لا نبيح للطالب دراسة ظاهرة في الشعر الحديث إلا إذا كان الشاعر ميتاً (لا أدري من أين أتوا بهذه البدعة؟) كونهم يرون إن موت الشاعر هو إغلاق لحياته وبالتالي عليهم أن يروا تراثه كأنه جثة غير قابلة للحركة فهم يتعاملون مع موضوع آمن لا يفاجئهم بحركة ولا بتغير, بينما في العالم يمكن لطالب أن يحصل على الدكتوراه برسالة عن قصة قصيرة واحدة, في مجموعة شعرية أو في قصيدة واحدة يخضعها للتحليل حتى وإن كان شاعرها حياً, وهذا لأن التعامل لا يكون مع صاحب النَص بل مع النَص نفسه, وأنت تعرف ما يدور في الجدل النقدي حول موت المؤلف, فأنت تتعامل مع النَص ولا يهمك هذا السؤال: عن صلة المؤلف بنَصه, هل هو حي أم ميت؟, هل تعرفه, أهو إنسان طيب؟ أهو خبيث؟ هذه أمور لها علاقة بالمرجعية الخارجية وبعيدة عن النقد, وهذه كلها متغيرات ظرفية عابرة تنتهي بكتابة النَص, والنَص لوحده يهاجر من زمن إلى زمن ومن بيئة إلى أخرى ومن قارئ إلى قارئ آخر, ولا يهم بعد ذلك أن تقول إن هذا النَص يعود لفلان, وفلان إنسان حي أو إنسان ميت, فإذا تيسر لك أنت معرفة المؤلف فكيف يتيسر ذلك لقرّاء من أقطار أخرى, وكيف سيعرفه قّراء مضمرون سوف يأتون من أزمنة أخرى, النَص هو الذي يحدد المؤلف وحياته الشخصية أو موته, كلها أشياء عابرة, فإذا نظرت الجامعات إلى هذه الحقيقة وهي بديهية الآن في الجدل والخطاب النقدي لوفرت على نفسها كل هذا التعب, وأنا أفرح لما أراه في العديد من الجامعات العربية من انفتاح على شعراء من جيل الحداثة وتكتب عنهم دراسات أكاديمية وأطروحات.

* قصائدك الأخيرة ... تلعب على بنية (الغياب), غياب وطن, غياب معنى, غياب الأصدقاء وغيابات لا تنتهي, وفي وقائع قسوة كهذه, هل تعتقد بجدوى القول الشعري؟

     -- أظن أن عصرنا الحالي, عصر يحكمه الغياب, الغياب بكل تجلياته وتجسيداته, الغياب الأكبر الذي هو الموت والذي يحتل درجة أدنى منه وقد يكون أشد مرارة, غياب تفرضه المنافي, عتمة السجون, التبعثر والشتات في العالم, العراقيون في هذه الفترة من أكثر مَن يعاني من هذا الغياب, نحن نكتب القصيدة دون أن نسأل أنفسنا هذا السؤال: هل يجدي الشعر أو لا يجدي ... وأنت عندما تضطر للدفاع عن نفسك إزاء قاتل أو لص أو أفعى لا تسأل نفسك ما جدوى السكين التي تحملها, عليك فقط أن تستخدمها للدفاع عن نفسك, الشعر هو مستوى من مستويات الحياة, لكن الحياة بمستواها القاسي, لا الحياة المسترخية المرفهة, وربما لو اختلينا مع أنفسنا وسألنا أنفسنا هذا السؤال من ناحية التشكيك: في جدوى كتابة الشعر فإننا قد لا نكتب الشعر أبداً, ولكن لا بد من أن نمارس الأسلحة كلها دفاعاً عن وجودنا, مع أنه وجود ليس جديراً بأن ندافع عنه,, وجود مليء بالرضوض والشروخ وهدر الكرامات بحيث أننا ومنذ فترة طويلة فارقنا مستوى البشر, ما عدنا نحظى بمستوى من التعامل يليق بناس او كشعب مبدع او كشعب ذي حضارة أو كرامة, لكن ليس أمامنا إلا هذا الطريق, أن نكتب وأن نكتب وأن نكتب, من خلال هذه الكتابة المعذبة والمعذبة في آن معاً يمكن لنا أن نفتح فجوة ولو قليلاً تليق بنا كبشر.

* أنت تتعامل مع المشهد الثقافي في اليمن والأردن والعراق بشكل مباشر وغير مباشر في أقطار عربية أخرى, أتجد في هذا المشهد ما يبعث على التفاؤل؟

     -- في هذه المرحلة من تاريخنا الشعري العربي والعراقي يمكن رصد جملة ظواهر, أن هناك اجتهادات كثيرة في أساليب القول ليس على مستوى الشعر فقط, بل أيضاً على مستوى الرواية أيضاً, ففي الشعر تحديداً هناك ومنذ سنوات, جيل يحاول إثبات أن قصيدة النثر هي الفن الشعري المهيمن في الثقافة العربية السائدة وبغض النظر عن اتفاقي أو معارضتي لهذا الرأي فإن هذا بحد ذاته دليل على أن الجو الثقافي العربي ما عاد ضيق الصدر بل صار يتسع لأن تتجاوز أساليب في القول الشعري: القصيدة العمودية إلى جنب قصيدة التفعيلة إلى جنب قصيدة النثر, هذه الأجنحة الثلاثة تظل متعايشة وتكتب في عملية اختبار لقدراتها وأظن أن الزمن هو المحك الذي يثبت أي هذه الاتجاهات الشعرية يمكن أن تكون الصوت الأعمق للشاعر العربي, هذا جانب أما الجانب الثاني فأراه في الرواية, فهناك خلخلة بالمعنى الايجابي للأشكال المستقرة في الرواية, فعلى سبيل المثال ما يكتبه ادوارد الخراط في مصر, تجربته تغترف من القصة من الشعر ومن قصيدة النثر ومن كتابة النَص ومن طرق السرد الروائي في عجينة واحدة أخاذة ملفتة للنظر, جميلة قد تختلف وقد تتفق مع من يسمونها رواية لكنها تظل تجربة إبداعية حية وتظل دليلاً آخر يمكن أن نضيفه على أن هذه الفترة من ثقافتنا فيها من الخصب وفيها من التنوع ما يدفع المبدع أن ينوع من أساليبه ويضعها موضع الاختبار بين فترة وأخرى من أجل أن تكون أغنى وتكون أعمق وأكثر تأثيراً في المتلقي.

* من "وطن لطيور الماء" ديوانك الثاني حتى آخر قصائدك, أحسب أنني قرأتك جيداً خلال هذه الفترة غير القصيرة وكنت أرى فيك ملمحاً يكبر, ملمح الأسى والندم, ترى هل أتعبك الشعر؟ هل ترى فيه خياراً معقولاً, هل أنت نادم؟

     -- أتذكر أنني في مهرجان ستروغا الشعري عام 1984 في يوغسلافيا, طرحت هذا السؤال على شاعرة رومانية كانت مشاركة في المهرجان, وسألتها: هل أنت نادمة على اختيارك طريق الشعر؟ أجابت آنذاك أنها نادمة فعلاً لأن الشعر كلفها الكثير, أن تتنازل عن مباهج كثيرة في الحياة وأن توظف الكثير من هذه المباهج من أجل موضوع قصيدة, إجابتي أنا لا تختلف كثيراً عن إجابة الشاعرة الرومانية لكنني أقول أن الشعر قضية شديدة التعقيد ولا تخضع لقضية الاختيار أو عدم الاختيار, والسؤال كما يقول صلاح عبد الصبور لو عرف الإنسان إجابته أو لو عرف شاعر إجابته لقطع الطريق على القبيلة كلها, الشعر هو هذه القلق المستعر الذي لا ينتهي ولا يكف, وأظن لو قُدر لي أن أبدأ من جديد فلن أختار إلا هذا الطريق الذي اخترته, لأنه ميزة أو فضيلة أن تكون مبدعاً في حقل من الحقول, هو أن تكون إنساناً بأرقى مستوى يخطر في بالك, أن تعطي هذا الإنسان النادر, تستطيع أن تعبر عما يعجز الآخرون عن التعبير عنه, أن ترى في الوحشة فرحاً خفياً, وأن ترى في ظاهر البهجة فجيعة كاملة, أن تقرأ أعماق الأشياء لا سطوحها, هذه الأمور ليست هينة وهي معذبة وعناء حقيقي ومع ذلك عذاب له طبيعة خاصة لأنه برهان على أنك إنسان في حالة من تجليات الوعي دفعت بك إلى هذا المستوى من التعامل مع الحياة, لا لم أتعب من الشعر, ولكن ربما يمكن القول أن الشعر في بلداننا العربية والفنون بشكل عام مفروض عليها بين فترة وأخرى أن تطرَد من متن الحياة لتنزلق إلى الهامش وعلى الشاعر أن يمارس لعبته ضمن هذا الهامش فيمد يده ليغترف بين فترة وأخرى من متن الحياة ليعبر عنه, وأنت تعرف ما أعني بذلك, فمتن الحياة مقموع دائماً, محجب دائماً, مغيب دائماً, على الخلاف مما يحدث في بلدان العالم, حيث الشاعر والفنان مغموران في صميم الحياة بكل عنفها, بكل بشاعتها, بكل بذاءتها, بكل بدائيتها, بكل نبلها وليس هناك من بقعة محرمة أو محجوبة, الشاعر والفنان هنا غالباً ما يجد نفسه وقد دُفع من سريره, ليجد نفسه يلعب ضمن هذا الهامش!!                    

* نشر الحوار في مجلة "عمّان" الثقافية الاردنية



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM