زميلنا المهندس الزراعي هو ذاته الناقد المثقف

تاريخ النشر       20/10/2009 06:00 AM


فائز الحيدر*
تمر هذه الأيام ذكرى رحيل الكاتب والناقد والأديب الزميل قاسم عبد الامير عجام مدير عام "دار الشؤون الثقافية ". فقد طالت يد الأجرام هذه الشخصية الأدبية والوطنية ورئيس "اتحاد ادباء وكتاب بابل" ومدير ناحية مشروع المسيب(جبلة) ، كما وأستشهد معه في الحادث الزميل والصديق باسل نادر كريدي مدير زراعة مشروع المسيب ، حيث هاجم القتلة الظلاميون يوم الأثنين 17  آيار 2004 السيارة التي كانا يستقلانها وهم في طريقهم الي بغداد واطلقوا عليهما وابلاً من النيران أدت الي مقتلهما علي الفور.

قاسم عجام في احدى زياراته للحقول الزراعية حين شغل منصب مدير مشروع المسيب الكبير

ان عملية الاغتيال هذه قد اثبتت حقيقة الدوافع الإجرامية لبقايا البعث والجريمة والقوى الظلامية المتحالفة معها التي ترمي الى وقف عجلة أعادة بناء العراق وما تمّ تخريبه طيلة فترة تأريخية أمتدت لأكثر من خمس وثلاثين عاما في المجال الثقافي من قبل النظام الدكتاتوري السابق ، وأدت الى قمع أصوات المثقفين والأدباء الوطنيين  ،ولمنعهم من أداء واجبهم الوطني في نهوض الثقافة العراقية من جديد على اسس وطنية تقدمية .
ان منفذي هذا الحادث الأجرامي مهما كانت تسمياتهم لم يستهدفوا بالتأكيد الشهيد الراحل فحسب ، انما استهدفوا اغتيال الثقافة العراقية الوطنية بكل أبداعاتها ورموزها المناضلة التي قاومت بكل ما تستطيع  النظام الدكتـاتوري والثقافـة الفاشية لحزب البعث والتي اجتاحت العراق طيلة خمس وثلاثين عاما وشملت كافة جوانب الحياة.ان التأريخ الثقافي والأدبي  للشهيد قاسم عجام والذي أمتد لفترة طويلة تجاوزت الثلاثين عاما في مجال النقد الأدبي والكتابة ظل ناصعا ويعتز ويفتخر به المثقفون العراقيون .
في بداية السبعينيات.. ومع قيام الجبهة الوطنية ومع توفر حرية الصحافة بشكل محدود وعلى صفحات صحيفة طريق الشعب بدأنا نقرأ لزميلنا الكاتب والأديب ما لم نكن نعرفه عنه ، لم نكن نعرف في البداية ان ما يكتب في هذه الصحيفة هو لزميلنا المهندس الزراعي ذاته : قاسم عبد الامير عجام ،الا بعد فترة ولم نكن نعرف ان له هذه المقدرة الثقافية على الكتابة في نقد المسلسلات التلفزيونية والاعمال الفنية وهوالمهندس الزراعي المتمرس .
كان لقاسم اسلوبه الخاص والمتميز في النقد ، كنا نشاهد ونتابع المسلسلات والأفلام العربية التي تعرض على الشاشة الصغيرة ومن خلال القناة الوحيدة المتوفرة حيث لا يوجد لنا بديل آخر ، وفي الأسبوع التالي  نقرأ لقاسم النقد الجرئ لهذا الفيلم او ذاك المسلسل ونطلع على مواقع الأخفاق والنجاح وان نميز ما شاهدناه بأعيننا على شاشة التلفاز وما شاهدته عيون المتمرس بالنقد زميلنا قاسم ،ونكتشف عندئذ الطريقة التي يتبعها المنتجون والمخرجون من لهذه المسلسلات في تشويه افكارالمشاهدين صغارا" وكبارا" على حد سواء دون ان ينتبه أحد لذلك .
 كان قاسم ينظر لهذه الأنتاجات السينمائية والفنية الاخرى بفكر علمي يعطيه قدرة على التحليل لهذا الفيلم او المسلسل ،وكان يطرح ملاحظاته النقدية  بشكل سلس عبر مقالاته الاسبوعية : يحلل ويشرح ما كنا نشاهده من اعمال ،ويزيل الألتباس عن عيوننا وعيون المشاهدين لكي يكونوا على بينة ويقظة وانتباه لما تبثه شاشة التلفاز المبرمجة المعبرة عن اعلام السلطة وسياستها ،حيث ادرك الفقيد منذ البداية خطورة هذه المسلسلات  وتأثيرها على عقول المشاهدين البسطاء والطبقات الشعبية .
 لقد أسس الفقيد قاسم تقاليد "النقـد التلفزيوني" ومازالت بصماته واضحة حتى هذه اللحظة التي تشح فيها ويندر وجود نقاد بمستوى الفقيد وهذا العدد الهائل من المحطات التلفزيونية الفضائية .
في اواسط السبعينات عممت وزارة الزراعة والأصلاح الزراعي كتابا  لكافة المشاريع والمؤسسات الزراعية لأرسال مرشحيها الى "مشروع المسيب الكبير" للتدريب في دورة قصيرة على استعمال انواع مستوردة من البكتريا تساعد على زيادة انتاج المحاصيل البقولية وزراعة الفطر "المشروم" وتحت رعاية المهندس الزراعي الشهيد قاسم ، و رشحت من قبل دائرتي للألتحاق بالدورة المذكورة .
بعد ايام وجدت نفسي في مكتب بسيط وانا اتحدث مع شخص ممتلئ القامة ذا بشرة بيضاء احرقتها الشمس ،  مثقف، تعلو الأبتسامة على شفتيه في كل وقت .لم اكن قد ألتقيت  بقاسم عبدالأميرعجام شخصيا حينها إلا عبر مقالاته النقدية في طريق الشعب وقدم نفسه لي..قاسم ، وتبادلنا التحايا ، تعارفنا بسرعة وخلال ساعات قصيرة ربطتنا علاقات صداقة متينة تجاوزت علاقات العمل ، بعد اسابيع زارني في دائرتي لمتابعة ما تم انجازه من الدورة التدريبية وسط مراقبة عيون عملاء السلطة المنتشرة في كل زاوية من مرافق العمل ويظهر ان المعلومات وصلت الى دائرتنا قبل وصوله بأيام وانا المتهم بنفس التهمة التي تلاحقه ،واحمل نفس افكاره مما زاد من خذرنا وزاد من علاقات الزمالة والصداقة التي تربطنا.
استمرت لقاءاتنا بين فترة واخرى في "نادي المهندسين الزراعيين" نتبادل الحديث عن الشعر والأدب والنقد التلفزيوني ونسينا الأختصاص ودائما" ما يرافقه في تنقلاته زميل الدراسة الصديق الشهيد باسل نادر كريدي مدير زراعة مشروع المسيب ، ذلك الصديق الوفي الذي اشتركت معه في عدة معارض فنية للرسم والنحت طيلة سنوات الدراسة في كلية الزراعة في جامعة بغداد في نهاية الستينات وبداية السبعينات والتي عادة ما تتم في مهرجان الكلية ربيع كل عام .
 كان الشهيد قاسم عبد الامير كما عرفته اضافة الى عمله الزراعي المتميز اسما" لامعا" في سماء الثقافة العراقية ، شخصية محبوبة على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي وربطتني به علاقة صداقة على مدى سنين طويلة كان خلالها رجلا" طيبا" ومحباً ومرحا" عطوفا" يرفع في كل حديث من شأن الثقافة العراقية ومسارها الثقافي الوطني .
في صيف عام 1977 حالفني الحظ بالسفر مع الشهيد ابو ربيع في سفرة سياحية الى موسكو ، كانت السفرة رغم قصرها ولم تتجاوز الثلاثة اسابيع لكن كانت سفرة رائعة ، زرنا خلالها عدة مدن سوفيتية وكان الشهيد قاسم مشغول بتسجيل ملاحظاته عن كل ما يشاهده من معالم سياحية ومتاحف رسم ونصب تذكارية ويقارن ما يشاهده وما يتوفر في الوطن ويستعد للكتابة عنها ، أحيانا" كنا نتهرب من برنامج السفرة الممل لنبحث سوية عن المتاحف وصالات الأوبرا ومراكز الثقافة لنروي عطشنا الثقافي ، وخلال زيارتنا الى مدينة (سوجي) الواقعة على شاطئ البحر الأسود كنا نقضي ساعات الفراغ والراحة وقت الظهيرة على ساحل البحر المجاور لفندقنا لأخذ الحمام الشمسي ، كان أبا ربيع كما اتذكره ذا جسم ابيض مملوء بعض الشئ وكأنه لم ير الشمس وكنت النقيض له اسمر الجسم نحيفا بعض الشئ ، كان يلاطفني بقوله "سبحان الله .." وهما كلمتان عادة ما يرددهما في حديثه...." رغم اختلاف اجسامنا في كل شئ لكن افكارنا متطابقة في كل شئ "واخذنا نؤلف ضاحكين نظرية جديدة سميناها نظرية التناقض والتطابق .
ثلاثة اسابيع من التجوال انتهت بسرعة وكانها ثلاثة ايام وعدنا الى الوطن واتفقنا على زيادة لقاءاتنا وكانت الحملة ضد القوى الوطنية واليسارية أخذت بالأزدياد فلم تسمح لنا ظروف العمل والوضع السياسي باللقاء مثل السابق وأصبحت لقاءاتنا في نادي نقابة المهنسين الزراعين محدودة ومتباعدة بسبب تحوله الى وكر لعملاء السلطة، ونتيجة للحملة الشرسة والتصفيات ضد كل القوى اليسارية في عام 1979 قررت مغادرة الوطن بعد اختفاء دام عدة اشهر واختفى أبا ربيع أيضا" ولم أستطع الأتصال به وفقدت اخباره .
وعلمت بعد نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات وفي ذورة بطش الدكتاتورية الصدامية بقوى اليسار العراقي، ان قاسم ابتعد قليلا عن الثقافة لآنه يدرك ان مواصلته للكتابة ستوصله الى حتفه لذلك تفرغ لعمله ووظيفته كمهندس زراعي في مشروع المسيب . 
وبعد سقوط الصنم كنت اخطط لزيارة بغداد، وألتقي صديقي قاسم ، ولكن بسبب تدهور الأوضاع من جديد تريثت قليلا عسى ان يتحسن الوضع السياسي ويسمح بالسفر. ومع الأسف لم يتحقق ذلك الحلم حتى وصلنا خبر استشهاده مع زميلنا باسل كريدي على أيدي القتلة من القوى الظلامية . لقد كان استشهاده صدمة كبيرة  لنا جميعا  .
لقد اصبح الشهيد قاسم عبد الامير عجام شعلة في سماء الثقافة العراقية، وستظل سيرته الشخصية ومواقفه الثابتة، خالدة وفي ذاكرتنا جميعا.
لك الخلود ابا ربيع فأنت في القلب دوما.

*النص كتبه السيد الحيدر من مقر اقامته بكندا لاستذكار ثلاث سنوات على اغتيال الراحل وفيه اشارات مهمة الى جوانب من العمل المهني والسياسي والحياتي لقاسم عجام وكان بعنوان"في الذكـرى الثالثة لرحيل قاسم عبد الامير عجام " ونشر في مواقع عدة بينها "موقع الناس".


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM