كتاب موسوعي عن مسيحيي العراق قبيل رحيلهم النهائي عنه

تاريخ النشر       11/12/2014 06:00 AM


بغداد- علي عبد الأمير*
لم يكتف الرعب الداعشي، بترويع مئات الالاف من المسيحيين العراقيين قتلا وتهجيرا واستيلاء على املاكهم وحواضرهم الدينية في مناطقهم بسهل نينوى، وحسب، بل لاحقهم ثقافيا، حين صادر كتاب "المسيحيون في العراق" الذي حرّره الباحث المتخصص بشؤون الاقليات، سعد سلوم،  لدى نقل الكتاب المطبوع في لبنان، عبر سوريا.

انه كتاب "موسوعي" من 900 صفحة من القطع الكبير، بدأ كفكرة بدأت من داخل كنيسة "سيدة النجاة" التي شهدت جريمة مروعة راح ضحيتها عشرات القتلى من المصلين، واثناء عمل محرره على فيلم وثائقي "اقلية في خطر" الذي يتحدث عن تأثير الجريمة على هوية بغداد، بسبب ما يعد اكبر هجرة للمسيحيين في تاريخ العراق المعاصر، والذي اعقب الجريمة، إذ تتحدث بعض الاحصائيات عن هجرة 4 الاف عائلة خلال اقل من ثلاثة اسابيع. 

وبحسب الباحث سعد سلّوم، "كانت رسالة فيلم "اقلية في خطر" هي ان "الاغلبية في خطر" بسبب هذه الهجرة وتغير هوية البلاد وتحولها الى هوية صحراوية"، وبعد انتخاب البطريرك مار روفائيل الأول ساكو على رأس الكنيسة الكاثوليكية في العراق 2013، شعر الباحث انه "ازاء روح جديدة، ومن هنا نشأ لدي الحماس لتحويل الفكرة الى مشروع ملموس. اعادة كتابة تاريخ المسيحيين وليس المسيحيية فقط (المسيحيون كجماعة وليس المسيحية كدين)، وهو ما نفتقر اليه بسبب سيادة نسخة تاريخ رسمية تطرد المسيحيين من مسرح التاريخ".
 

 

وكان العنوان الاول للكتاب هو "الكنيسة الحية"، انطلاقا من ايمان صاحب الكتاب، سعد سلوم، ان "كنيسة العراق لن تموت بسهولة مع وجود اشخاص مثل  ساكو. لكن في الوقت ذاته كان نزيف الهجرة يرسم واقعا اخر، فهل نحن ازاء علامات لزوال المسيحية من الشرق والمسيحيين من العراق"؟

 المشروع يكتمل في "لحظة داعش"

وانطلق مشروع الكتاب في لحظة مفصلية، يرسم الباحث ملامحا "اكتمل الكتاب وانا بعيد عن الوطن (كنت في نيويورك) انظر من خلال الشاشات لما يفعله القتلة بهوية البلاد، اذا لم يستهدف مقاتلو داعش تقطيع اوصال الدولة العراقية بل ضرب هوية العراق ووجوده، فعدت الى الوطن، ودفعت الكتاب الى المطبعة في بيروت ، ثم اندفع المسيحيون الى الهجرة".

 مقدمة الكتاب تنطلق من سؤال: "هل يمكن تخيل الشرق الاوسط من دون مسيحيين؟ في حين حملت الخاتمة عنوان "علامات شرق اوسط من دون مسيحيين" وكأنها اجابة عن سؤال المقدمة.
وبحس من الامانة والمراقبة البحثية يلفت سلّوم الى ان "عنف الجماعات الإسلامية المسلحة الذي انطلق ضد المسيحيين في عراق ما بعد 2003 اتخذ طابعا مقيتا، مع ما يحمله هذا العنف من ثقافة الإقصاء الذمية، التي جعلت المسيحي "نصرانيا" و"ذميا"، أي إنسانا من درجة أدنى، مطلقة هجرة مسيحية عكسية إلى مناطق سكنهم الأصلية في سهل نينوى، وملاذات مؤقتة في كردستان العراق، ولتشهد البلاد أكبر هجرة للأقليات في تاريخ العراق المعاصر.

إنها هجرة اللاعودة للغالبية العظمى منهم، فهي ليست خيارا مؤقتا أو مرحليا لهم، ولا تعكس خيارا فرديا على أساس معطى اقتصادي، بل أصبحت قرارا نهائيا لا رجعة فيه، حتى لو تحسنت الأوضاع الأمنية، الأمر الذي يعكس شعورهم بضياع الوطن وتلاشيه، أو أنهم على الأقل أصبحوا غرباء في بلد يعدون من سكانه الأصليين.

إنه رحيل عن الأوطان الأصلية إلى أوطان بديلة، وتراجع من المجال العام، إلى التقوقع على الذات، وعودة من الدولة المتصدعة، إلى الجماعة، ومن هوية كبرى مفقودة، إلى هوية فرعية مقصودة".

ومن فضائل الكتاب وهي كثيرة، انه يضع القارىء في صورة "النهضة الثقافية الحديثة المرتبطة بالمسيحيين، فقد أدخل الآباء الدومينيكان أول مطبعة إلى الموصل بين سنتي 1856 - 1857، وكان أول كتبها عن قواعد اللغة العربية «خلاصة في أصول النحو» للخوري يوسف داوود، وطبع فيها أول كتاب مقدس باللغة العربية. وكان دور المسيحيين  في الصحافة رياديا، فقد أصدروا في مدينة الموصل سنة 1902 أول مجلة في العراق، باسم «إكليل الورود»، كما أصدرت بولينا حسون مجلة «ليلى»، وهي أول مجلة نسويّة في العراق بالعام 1927، وتشهد عليهم الأيام أنهم كانوا حراس اللغة العربية ومن أهم أعلامها. ويكفي أن نعترف أنهم كانوا رواد النهضة العربية الحديثة التي ارتبطت بجهودهم الثقافية والفكرية، وظلّوا جزءاً حيويا من الطبقة الوسطى، بدورهم الريادي في الفنون والآداب والموسيقى".

ومن حقائق عميقة كهذه عن دور مسيحيي العراق في تاريخ بلادهم وحضارته، ينتقل الباحث الى سؤال جوهري "كيف كان يمكن تخيل تاريخنا المعاصر بدونهم، وهل ستصبح إبداعاتهم وريادتهم محض ذكريات"؟ والسؤال هذا يقود الى اسئلة ليست اقل حرجا وارباكا: "هل سيحول عدم الاستقرار وثقافة الإقصاء، مسيحيي العراق إلى طائفة منقرضة؟ وهل سيسيرون على الطريق التي سار عليها من قبل، يهود العراق، فطوي جزء من ذاكرة البلاد، واختفى إلى الأبد مع اختفاء الجيل الأول للتهجير؟ وهل إن ما يحدث اليوم لمسيحيي العراق والشرق الأوسط، سيكون أوضح شاهد تاريخي على بداية تلاشي الوجود المسيحي في العراق، واختفاء واحدة من  أقدم الجماعات المسيحية في الشرق الأوسط"؟

في الكتاب محاولة كامنة لمواجهة الماضي وإثارة الأسئلة الكامنة تحت سطحه، كما تتضمن فتح أسئلة القلق بشأن المستقبل، وهي محاولة للتخلص من سلطة الخوف لايمكن إنجازها دون التسلح بالاعتراف والمصارحة، بالذات مع من يرى في "البحث عن الأقليات هو تكريس لتقسيم البلاد إلى طوائف وجماعات"، فهو ينبّه إلى خطر نهاية الوجود المسيحي في العراق والشرق بعامة، بل يذهب الى إن "المسيحيين في العراق والشرق إذا كانوا في خطر، فإن الأغلبية  المسلمة في خطر أيضا، إذ إن مسخ هوية المنطقة وإفقارها من تنوعها وتعدديتها، لن يخدم في محصلته النهائية سوى دول ونخب تريد تقسيم المنطقة إلى جزر إثنوطائفية، فالتعدد عاصم من الانقسام، والتنوع صمان أمان من التقسيم".

 الوثائق الكاملة لحياة مروعة

الكتاب محاولة في تقديم تاريخ شامل لمسيحيي العراق، ويرسم من خلال أصواته المتعددة صورة علاقتهم بالدولة في العراق المعاصر، قبل أن يفتح أسئلة القلق بشأن غموض المستقبل الذي يمر به الشرق الأوسط.

وفي القسم الوثائقي من الكتاب، محاولة أولية لإرشفة تاريخ مسيحيي العراق منذ بداية القرن العشرين من خلال الوثائق والتشريعات وحتى الوقت الراهن، على نحو قد يسهم في الحفاظ على الذاكرة الجمعية المهددة بالاهمال والنسيان ورصد التطورات المختلفة في علاقة المسيحيين بالدولة في العراق الحديث، وهي مجرد خطوة أولية قد تشجع الباحثين على أرشفة الوثائق المتعلقة بالاقليات الدينية في العراق وتوفيرها الى جمهور القراء والمتخصصين من الباحثين.

انها وثائق نادرة حقا، لتشريعات واحصائيات ووثائق عن مسيحيي العراق: كنائسهم، مؤسساتهم التربوية والثقافية والاجتماعية، قراهم المدمرة 1963-1988، قساوستهم  المقتولون  1972-1989، والذين اختفوا في عمليات "الأنفال" عام 1988، ومن فقدوا خلال النزوح الجماعي مع الكرد خوفا من عقاب صدام حسين اثر انتفاضتهم عام 1991.

وفي الفصل الأول كتبت،  سها رسّام "جذور المسيحية في العراق" مؤرخة لنشوء الديانة المسيحية في بلاد ما بين النهرين. فيما رسم الفصل الثاني خريطة الآثار المسيحية في العراق، وكتبه الآثاريان: عبد الأمير الحمداني وحكمت بشير الأسود. اما الباحث خوشابا حنا الشيخ، فقد رصد الطوائف المسیحیة في العراق: الكلدانيون، الآشوريون، السريان، الأرمن، البروتستانت و الطوائف الغربية الأخرى.

ودرس البطريرك مار لويس روفائيل الأول ساكو، حال "مسيحيي العراق في ظل الحكم الإسلامي" . وبحث د. سامي المنصوري اوضاع مسيحيي العراق في ظل الدولة العثمانية. ورصد محرر الكتاب، كيف كانت اوضاع المسيحيين في "العراق الجمهوري"، مؤكدا "هيمنة الدولة على شؤون الطوائف الدينية المسيحية"، فيما تابع الكاتب والصحافي وليم وردا، احوال المسيحيين  بعد الغزو الاميركي للعراق، دارسا بتمعن " دعوات الحماية الدولية والحكم الذاتي للمسيحيين" اثر موجات استهدافهم المنظمة.

واذا كان الباحث يرى ان "صعود الإسلام السياسي عمل على تقسيم المنطقة إلى جبهتين متناحرتين، وهذا الأمر إن قيض له إعادة تشكيل هوية الشرق الأوسط"، فإنه يصل الى حقيقة "سيكون شرق أوسط من دون مسيحيين"، ومسيحيو العراق اذ يقعون بين اسلام سياسي شيعي (ميليشياوي) جرّب ترويعهم مبكرا بعد العام 2003، واسلام سياسي سني، تمثل اقصى حدود ارهابه عبر النموذج "الداعشي" فانهم ضمن اي حقيقة، باتوا "كبش فداء وفريسة سهلة في هذا الصراع الذي لا يقبل بمناطق متنوعة، فالمناطق الصافية دينيا وطائفيا تصبح أولوية لمن يريد فرض نظام الأمر الواقع، كما حدث في مناطق عدّة من العراق وفي سوريا أيضا، إذ ينظر المتطرفون إلى الوجود المسيحي عائقا أمام تطبيق الشريعة وبناء دولة بأنموذج إسلامي بيوريتاني شيعي أو سني".

الكتاب بدا وكأنه تلويحة للمسيحيين العراقيين قبيل رحيلهم النهائي عنه.
 
* نشرت هذه القراءة في صحيفة "الحياة" 11-12-2014


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM