"صالون العراق الثقافي": فسحة حميمة لأدباء بلاد الرافدين في عمّان

تاريخ النشر       23/12/2014 06:00 AM


عمّان – "المسلة"
في مقهى "السنترال" وسط مدينة عمّان، هذه المقهى التي اتخذها المثقفون العراقيون بديلاً مؤقتاً عن مقاهيهم في الوطن، يحدث احياناً ان يفد زائرٌ شهيرٌ مفاجيء، فيكون دخوله الى المقهى مبرراً لتشكيل حلقة من الأصدقاء حوله، يحدث الأمر هكذا: تراه يدخل المقهى، يلتفت يميناً ويساراً بحثاً عمّن يعرف، ومثل أي قادم جديد، يتوجه للنادل سائلاً عن أحد الأصدقاء – وما اكثرهم في عمّان!! ولا يكاد النادل يجيب حتى يقفز غير واحد من روّاد المقهى العراقيين محتضناً الزائر الشهير، معانقاً فرحاً ومندهشاً.
مثل هذا المشهد لا يُعد غريباً على أجواء المقهى، فما من أديب عراقي وفد الى هذه المدينة زائراً أو عابراً إلا وحلَّ ضيفاً على مقهاها الشهير ومريديها من مثقفي العراق ومبدعيه، بل إن أول ما يتبادر الى ذهن هذا الزائر الثقافي هو زيارة "السنترال" هذه لفرط ما سمع بها، حتى انها غدت في السنين الأخيرة مَعْلماً من معالم الثقافة العراقية في المنفى، وهي في ذلك تستعيد بعض ذكريات المقهى الثقافي التي تميَّز بها العراق في القرن العشرين.
 ثمة صورة أخرى يمكن ان يلاحظها المرء في هذه المقهى، فحين يُستضاف هذا الزائر الشهير، زائر المقهى، الى احدى الطاولات، يبدأ الأدباء العراقيون المتواجدون في المكان بالتقاطر لتحيته والإحتفاء بقدومه، وبما ان الطاولة أصغر من أن تتسع لعددهم الكبير، فإن الجالسين يشرعون، بشكل غريزي في تشكيل حلقة دائرية، وهي حلقة يمكن ان تتسع شيئاً فشيئاً حتى لتبدو، في الأخير، مثيرة للإنتباه بهذا الشكل، غالباً ما تتشكل الحلقات في المقهى، خصوصاً في الصيف، حين يبدأ العراقيون المتناثرون في أصقاع الأرض موسم سياحتهم والتي تكون عمّان محطة رئيسة بها.
في العام الماضي، مثلاً بوغت القاص عبد الستار ناصر بصديقه القديم الشاعر فوزي كريم، المقيم في لندن، وهو يدخل المقهى على حين غرة، وبطريقة جد مثيرة ومؤثرة، تعانق الأديبان بعد ربع قرن تقريباً من الغياب والنفي القسري.
بُعيد ساعة من ذلك اللقاء الفنطازي، أي حين تناهى الى أسماع الأدباء الآخرين خبر مجيء فوزي المفاجيء: كان يمكن للداخل الى "السنترال" أن يلحظ دائرة من الأجساد قد تشكلت، حيث الإحتفاء يكاد يصرخ دهشة وحباً، وحيث الأدباء العراقيون يكاد احدهم ان يمسك بذراع صاحبه، وهم يستمدون من بعضهم الآخر القوة لإستحضار الوطن وذكرياته، هنا ترى علي السوداني وهو يدلق نكاته وطرائفه، وثمة غير بعيد، ترى علي عبد الأمير يكاد يحلق فرحاً وتأثراً لولا الأرض تجذبه فيهدأ، هنا ترى د. حسن ناظم، عبد الخالق كيطان، سعيد الغانمي، أديب كمال الدين، عمار المطلبي، عماد حسن، عماد الظاهر، حسن النواب، وغيرهم، الكثير ممن إنسحبت أجسادهم، دونما إرادة، لتلتصق بما تبثهُ الحلقة من جذب روحي لذيذ.
  وفي كل الأحوال، فإن هذه الحلقات الإحتفائية المدهشة التي غالباً ما تُقام في المقهى بشكل عفوي سرعان ما تنتقل الى "صالون العراق الثقافي" لُتقام هذه المرة، بشكل مقصود وواع، فمهمة هذا الصالون الحيوي إنما تكمن في إقامة نشاطات ثقافية تأخذ على عاتقها تعميق الأواصر بين أدباء العراق خارج وطنهم ومد جسور متينة مع زملائهم في الداخل، ولعل إقامة مثل هذه الأماسي المنتظمة تُعد جزءاً حيوياً من نشاط "الإتحاد العام للكتّاب والصحفيين العراقيين" ومكتبه في الأردن تحديداً. واقع الأمر فإن صالون العراق هذا كان دَأَبَ في السنوات الثلاث الأخيرة على إستضافة رموز العراق الثقافية أثناء مرورها بالاردن أو زيارتها له.
في الوقت ذاته، دأب صالوننا الحيوي على إقامة أماس توديعية أخرى ذات غرض مختلف يكون أبطالها أولئك الأدباء العراقيون ممن أزف وقت رحيلهم الى المنافي.
في هذه الأماسي، يحتفي المثقفون العراقيون المتواجدون في عمّان بزملائهم الراحلين إحتفاء يستبطن مهمة مقدسة، وهي مهمة يمكن إختصارها بفكرة تفيد ان السفر الى المنفى لا يعني انقطاعاً عن الهوية قدر ما يعني إصراراً على التمسك بها، ولكأن الإحتفاء الأخير يحاول ترجمة هذه الفكرة ويعمقها في الوقت نفسه، وذلك حين يتحوّل حفل التوديع الى زادِ روحي يمكن للمثقف استثماره في منفاه الجديد.
أما عن تفاصيل هذه الأماسي الدافئة، سواء أكانت إحتفاء بالقادم أم توديعاً للراحل، فيكفي المرء أن يثبت التفصيل البسيط الآتي ليكتشف عمق دلالاتها، فقبيل أي امسية يقيمها الإتحاد في صالونه، يعمد المنظمون، وعلى رأسهم الشاعر علي عبد الأمير، الى تهيئة الصالة وتعديل أثاثها، تراهم يزحزحون أريكة هنا وأريكة هناك، او يعدِّلون وضع كرسي هنا أو طاولة هناك، لينتهي الأمر، في الأخير بتحويل فضاء الصالون الى ما يشبه الحلقة الدائرية المتعرجة، يمكن أن توضع أحياناً بضعة كراس وسط الصالة لجلوس السيدات، ثم تبدأ أمسية حميمة يستذكر فيها المحتفون زميلهم الراحل، فيما يستذكر هو، بالمقابل، وطنه، نصوصه، حياته في المنفى وعلاقته بالثقافة.
واقع الأمر فإن إنبثاق شكل الحلقة في كل هذه الفعاليات الإجتماعية والثقافية لم يكن اعتباطاً، فمفهوم الحلقة يمتد عميقاً في ذاكرة العراقيين ومخيالهم الزاخر، لنتذكر في هذا الصدد، حلقات الذكر الصوفية، أو حلقات العزاء الحسيني، بل وحتى حلقات إحضار الجن والأرواح وحلقات السمر الإجتماعية في الريف، ففي جميع هذه الظواهر، يتحلّق أناس ما على شكل دائرة لإستحضار رمز معيَّن، الصوفيون يستحضرون روح المتوفى، ولايستكمل هذا الفعل الرمزي دون وصول المتحلقين الى نقطة التماهي التام مع رمزهم المستحضر، وهو ما يعني، بالضرورة، إفناء الذات في الرمز وإذابة الأنا في الحقيقة، والحال أن حزناً نبيلاً يمكن ان ينتاب المتحلقين وهم يمارسون طقوسهم المؤلمة هذه، ومرد هذا الحزن يرجع الى ان إقامة مثل هذه الحلقات يُعد فعلاً تطهيرياً يستبطن ألماً للذات وتجرداً مؤلماً عنها.
يمكن القول، في هذا الإتجاه، أن أماسي الإحتفاء والتوديع تشبه، الى حد بعيد، حلقات الذكر الصوفية، فمثلما يستحضر المتصوفة حقيقة الله، يستحضر الأدباء والمثقفون حقيقة الوطن عبر إحتفائهم بأحد رموزه الثقافية الفاعلة.
في الوقت ذاته، تراهم، وهم يودعون زميلاً لهم، لا يفعلون سوى استحضار الوطن نفسه، وبشكل مكثّف، ليزودوا به روح زميلهم المغادرة الى منفاها، بل لكأنهم يقولون الشيء نفسه في مناسبتين مختلفتين، في المرة الأولى يقولون لزميلهم القادم من أصقاع أوربا – هذا هو وطنك وهو يستحق الإحتفاء لأنه قدّمك للعالم، ولولاه ما كنتَ فاعلاً بهذا الشكل العظيم، فيما يقولون للراحل نحو الأصقاع ذاتها – هذا هو وطنك الذي صنعك وصنع رموزك الجميلة، فلا تنفصلن عنه قيد اُنملة، في رحلتك الى المنفى.
في الشهرين الأولين من هذا العام كان المثقفون العراقيون في الأردن على موعد مع ست أماس مميزة، ضيّفوا فيها وودعوا ستة أدباء معروفين، ضيّفوا الروائي سليم مطر المقيم في سويسرا، الشاعر عدنان الصائغ المقيم في السويد، الشاعر جمعة الحلفي المقيم في سوريا، بينما ودعوا الشاعر هادي ياسين علي الراحل الى كندا، والشاعر عبد الخالق كيطان الراحل الى استراليا والشاعر عماد جبار المغادر الى نيوزلندا.
والآن لنا أن ندعوا القاريء للتجوال معنا في هذه الأماسي، وله بعد ذلك، ان يبحث ببصيرته الثاقبة عمّا يحيلها لذاكرة "الحلقة" العراقية الشهيرة، المقصود أن نحاول رؤية الوطن في تلكم الأماسي، فلقد كان العراق موجوداً، حتى انه طغى بوجوده الروحي على الجميع بما في ذلك المُحتفى بهم ... أوليسوا أبناؤه...؟ إنهم لكذلك بالفعل، ولعل هذا هو السبب الأعمق للإحتفاء بهم.

 
سليم مطر ... أطياف الذات الجريحة

 هذا الروائي أغنى من التعريف، يكفي أنه "مُشعل حرائق" على حد توصيف الشاعر رعد كريم عزيز له في الأمسية، جاء الى عمّان زائراً فتلقفه إتحاد الكتّاب والصحفيين في أمسية ساخنة.
 كان الحضور كثيفاً، ثمة عبد الستار ناصر، علي عبد الأمير، علي السوداني، سعيد الغانمي، د. حسن ناظم، ناظم عودة، هدية حسين، عماد حسن، عبد الخالق كيطان – لم يكن قد سافر بعد – محمد غازي الأخرس، رعد كريم عزيز، حسن النواب، وغيرهم من مثقفي العراق المقيمين في الأردن.
بدأت الأمسية بأن قدّم، الشاعر علي عبد الأمير ضيفه مبرزاً اهتمامه الواضح بالشأن العراقي ومُثنياً على جهوده الفردية اللافتة في تناول الهَم الوطني، سواء أجاء ذلك عبر مقالاته التي لا يتوقف عن نشرها في الصحافة أم جاء ذلك عبر مساجلاته المعروفة حول مسألة الهوية العراقية، ما يجدر ذكره، في هذا الصدد ان للروائي المذكور كتاباً ذائع الصيت حول المسألة الأخيرة، نقصد كتابه "الذات الجريحة" المعاد طبعه عام 2001 عن المؤسسة العربية، فضلاً عن بروز المسألة ذاتها كثيمة مركزية في روايتيه "إمرأة القارورة" صدرت عن رياض الريس – 90، و "التوأم المفقود" صدرت عن المؤسسة – 2001.
اقترح الشاعر عبد الخالق كيطان، في البدء، ان يكون الحوار مفتوحاً مع مطر ليتناول الحاضرون أهم أفكار الأخير حول مسألة الهوية، وكان أن استجاب مطر للإقتراح الوجيه فراح يعرض، بإيجاز، لرؤاه الأصيلة حول الموضوع.
بعد حين، اتسع الحوار ليأخذ أبعاداً ساخنة، وكان ثمة اعتراضات (قد برزت بين المتحاورين لعل ابرزها اعتراضات) د. حسن ناظم، والتي عضّدها الشاعر علي عبد الأمير بدوره، وتكمن في تساؤل عميق طرحه الزميلان يتعلّق بجدوى الرجوع لتاريخ العراق القديم بُغية استخلاص ملامح خاصة ومميزة يعتقد سليم مطر انها تعتمل الهوية العراقية وتفرقها عن الهويات الأخرى، فضلاً عن ذلك، فقد طرح الناقد ناظم عودة اعتراضاً لا يقل أهمية عن الإعتراض السابق، فقد تساءل هذا الناقد عن المفهوم نفسه، مفهوم الهوية، زاعماً انه مفهوم مجردٌ وأن سليم مطر لم يوضِّحه بما يكفي فيما يتعلّق بالهوية العراقية، وفي لحظة ما، بدا الإنقسام واضحاً، بين المتساجلين، فقد راح الناقد سعيد الغانمي يدافع عن أفكار مطر ويحاول تعضيدها نظرياً، خصوصاً أنه عُرف باهتمامه البالغ مؤخراً بقضايا مشابهة، كذلك فعل الشاعران كيطان والأخرس، إذ دعا الأخير الى إعادة النظر جدياً بأفكار مطر ومحاولة تعميقها وتجذيرها وكانت الدعوة موجهة للحاضرين.
في الأخير كان على الجميع الإعتراف بأصالة رؤى الكاتب وعمقها، ولعل توصيف الشاعر رعد كريم عزيز لسليم مطر، بأنه "مُشعل حرائق" جاء كتقييم دقيق لأفكاره المثيرة للجدل.
 
عبد الخالق كيطان يودع "صعاليكه" ... في "الأندى"
يوم 5-1-2002 أي قبل رحيل الشاعر عبد الخالق كيطان الى منفاه الاسترالي البعيد، حدث ان التأم شمل الأصدقاء في "دار الأندى" بعمّان، نعني اصدقاء "الصعلوك الأنيق" القادم من بغداد عام 1998 هرباً من كبت الحريات وقمع الصعلكة المسالمة، والراحل بعد حين الى استراليا.
ثمة، في القاعة، أدباء حزانى، وصحفيون منكسرون، وكعادته بدا كيطان متألقاً، براقاً، لولا مسحة حزن نبيل ظلّت تغلف وجهه الأسمر طوال الحفل، كان الحاضرون كثراً حد ان القاعة لم تتسع للجميع فاضطر البعض من المقربين للشاعر، في لفتة نكران ذات جميلة، لتخلية اماكنهم للضيوف، أو لـ "الخطّار" بعبارة صريحة، قدم القاص عبد الستار ناصر ضيف الإحتفال بعبارات تقطر حباً ولوعة، فيما راح كيطان، بعد ذلك يترنم ببعض نصوص "صعاليك بغداد" الصادر عام 2001 عن المؤسسة العربية، وبُغية تخفيف الحزن قليلاً اختار الشاعر قصائد غزل رقيق مثل (معاً .../ في شوارع مقفرة / حيث المطر لا يمنحنا فرصة معتادة للغرام / معاً نخرج من ذاكرة مظلمة / وندخل في أزقة سوداء / انت محكومة بأوقات العائلة / وانا مفلس بالوراثة / ماذا نفعل إذن إزاء ليـل قاس علينا).
بعد حين دعا كيطان زميله الشاعر و الناقد محمد غازي الاخرس لقراءة شهادة عنه، و كانت جد قصيرة نسب لعمق تجربة كيطان الشعرية، كذلك ان منظمي الحفل لم يعطوا الاخرس سوى دقائق معدودات ليفسحوا بذلك مجالاً لطرب موعود بعده، لذا لم يجد الاخرس بداً من اعلان اسفه لعدم قراءة الشهادة كاملة واعداً الجميع بنشرها لاحقاً، ركزت الشهادة على فكرة واحدة لا غير، وهي فكرة الصعلكة في شعر كيطان وحياته، فكيطان كان صعلوكاً في الكتابة كما هو في الحياة بيد انه احاط حياته العائلية بأسوار عالية من الكتمان مفارقاً بذلك عادة الصعاليك من أقرانه، في الوقت نفسه مارس الشاعر صعلكة في النص فراح يهدم حدود الأجناس (القارة) متجاوزاً لها وغير عابيء بمعاييرها.
شهادة الاخرس عن كيطان كانت شهادة شاعر تسعيني عن واحد من أبرز أبناء جيله لذا فهي أقرب الى الحقيقة من سواها.
بعد ذلك، جاء الطرب الموعود فصدح صوت المطرب اسماعيل فاضل بشجن بغدادي مدهش، غنّى من المقامات ما أثلج صدور الحاضرين، ثم انه شرع يحرِّض الجميع على ان يغنون معه، شأنه في ذلك شأن أساطين الطرب العراقي الذين ما كانوا ليلتذوا بالغناء دون إشراك مستمعيهم معهم ولهم في ذلك طرق مغرية وأساليب لا تخلو من مكر. هكذا ودّع الشاعر عبد الخالق كيطان صعاليكه ... بحب، وحزن ... وأناقة.
 
هادي ياسين علي: الإفراط في الصمت ... يثرثر في "كلام التراب"
في مساء 15-1-2002، كانت القاعة في فندق الريفيرا بوسط عمّان، على موعد مع حشد من المودعين، إذ تنادى اصدقاء الشاعر هادي ياسين لتوديعه في قاعة صغيرة غصّت بالأدباء والصحفيين والفنانين العراقيين، كان ثمة حزن يلتمع في أعين المودعين، بالمقابل، فإن عينا هادي كانت تبرقان وهما ترنوان الى منفاهما البارد، مختلطتين ببريق امل بدأ ينبثق من "كلام التراب"، ديوان الشاعر الذي قرأ منه الكثير، ونال إعجاب الجميع، هادي ياسين كان اكثر الحضور أناقة واقلهم كلاماً، ولعل خصيصة الصمت هذه المرافقة للشاعر منذ بداياته، هي التي احاطت وجوده بنوع من الغموض، سواء بين أقرانه شعراء السبعينات ام بين أصدقائه من شعراء الأجيال اللاحقة، والحق انه لم يُعرف عن هادي ياسين خوضه في مسائل الثقافة والشعر سوى ذلك النشاط الهاديء والرزين والذي توّجَه بإصداره ديواناً واحداً في الاخير، فضلاً عن اهتمامه بالرسم ربما اخذ منه جهداً ووقتاً أخره قليلاً عن مشروعه الشعري، فهو الوحيد بين أبناء جيله الذي اكتفى من الشعر بديوان واحد هو هذا الذي اخرجه في الحفل وراح يغترف من كلامه تراباً يحثوه على العالم، ولكأنه بذلك يحاول اصطياد لحظة البدء والمنتهى، لحظة الخلق والموت، بل لحظة البقاء والرحيل "هذه المرة سيكون الرحيل شاقاً وطويلاً يا صديقي الجميل يا هادي" ... هكذا بدأ الشاعر عمار المطلبي شهادته العميقة والحزينة حيث استذكر رفقة الموت مع هادي ياسين إبّان خوضهما الحرب معاً في "المدينة".
وكان الصوت المطلبي المتهدج يخترق بقسوة مؤلمة ارض الفناء البارد، نعني المنفى البعيد الذي ينتظر هادي، قال عمار "بعد أيام سترحل يا هادي الى منفاك، ستأخذ معك الأميرة وداد، ستنأى بها انت هذه المرة عن أهلها وبيتها الى بلاد ليست بلادك، لقد أخذوها منك تلك البلاد ولم ينفعك توسلك للسماء – خذي يا سما – من يدي كفها – خذي كل شيء – خذي – واتركي لي بلادي".
غادر هادي ياسين بلاده ..... وكان في "الريفيرا" يتزود بآخر زاد منها.
 
الشاعر عدنان الصائغ: "ضحك المشيب برأسه فبكى"
هكذا يصف احد الشعراء العرب القدامى كيفية غزو الشيخوخة لحياته، مكنياً عن جنودها بالشيب، إذ يبرز هذا الأخير وكأنه أضراس ضاحكة، الامر مع الصائغ كان مختلفاً كثيراً، فهذا الشاعر لم يبك يوم 29-1-2002 بسبب أضراس بيض نبتت على فروة رأسه لتضحك بصوت عال حد، أن أصدقاء الصائغ أصيبوا بالهلع لرؤيته مكتشفين هول السنين الجليدية في السويد، انما بكى صديقنا، بالأحرى يعني اشياء اخرى، فلقد كان الإحتفاء به كبيراً لا سيما ان عمّان تحتضن من أصدقائه المقربين ما أثلج صدره وأشعره بالدفء القديم المُفتقد، نعني اولئك الأدباء الذين جمعهم بعدنان حب لا يوصف للشعر والحياة، ثمة علي عبد الأمير بدفئه المميز، وعلي السوداني رفيق صعلكة بغداد وحوانيها العتيقة، فضلاً عن عبد الستار ناصر وحسن ناظم ابن مدينته الكوفة، لذا ما كان عدنان الصائغ ليقدر على حبس دموعه الحزينة او الجذلى، لا فرق، قرأ الصائغ، في امسيته الأولى التي أقامها له "صالون العراق الثقافي" الكثير من شعره، وكان الى يمينه علي السوداني والى يساره حسن النواب يناولانه ما تيسّر من القصائد المبثوثة في بطون كتبه، وآخرها "تأبط منفى"، مختارين منها الأكثر جمالاً وشاعرية، مثل (قال ابي / لا تقصص رؤياك على احد / فالشارع ملغوم بالاذان / كل اذن يربطها سلك بالأخرى / حتى تصل السلطان).

سعيد الغانمي فعدنان الصائغ فكاتب السطور محمد غازي الاخرس والمطرب اسماعيل فاضل
في امسية الصالون بدار علي عبد الامير بعمّان
 

الصائغ كان غاية في التأثر، غاية في الإرتباك، أجل، لقد ارتبك الرجل لهذا الحنو والحميمية اللذين قوبل بهما، واللذين افتقدهما شاعرنا في سنيه الأخيرة، ففي المنفى لا وجود لمثل هذا الدفء العاطفي كما قال وهو يحاول تبرير تأثره بأجواء الأمسية، العالم هناك بارد حد التجمد، لا أحد يحفل بالآخر، وفي الأمسيات والمهرجانات التي شارك بها في غير بلد أوروبي كانت الإحتفالات "روبوتية" ... قال الصائغ ذلك وعيناه المتعبتان تنتقلان في وجوه الحاضرين المحتفية المنفعلة والمتفاعلة.
في الأمسية الأخرى حيث استضافة "بيت الشعر الأردني" قرأ الشاعر عمار المطلبي شهادة صادقة عن الشاعر الصائغ المنفي الى السويد منذ سبع سنين، قال "سبع سنين مرت مثل سبعة قرون ... وها نحن نلتقي، انا خارج من الوطن المنفى وانت عائد في اجازة "تأبط منفى" مهلاً، في رأسي مقبرة جماعية، دجلة أضحى نحيفاً كشريان دم، قسيمة التموين يقرضها الجوع كل شهر، ويجددها اليأس كل عام".
 
جمعة الحلفي وشموعه يضيئون الصالون
لعلها المرة الأولى التي تحدث في صالون العراق الثقافي، فقبل بدء الأمسية بقليل انهمك الشاعر علي عبد الأمير في تثبيت بضعة شموع في شمعدان أنيق ثم راح يوقدها الواحدة إثر الأخرى، وحين طلب من أحدهم اطفاء المصابيح اعتلت الدهشة وجوه الحاضرين، فما كان من "أبي سلام" سوى ان عزا الأمر لضيفه الحلفي قائلاً – هو الذي طلب ذلك.
بدا الشاعر جمعة الحلفي، وسط شموعه الموقدة، بشعره الأشيب ونظارته الطبية الصغيرة أشبه بساحر غامض وهو يعدِّل اوراقه على الطاولة، الأحرى ان الأمر بدا وكأن الحاضرين في مسرح حزين وفجائعي الطقوس، وهذا ما تم فعلاً بعد هنيهة، قبيل ذلك قدّم الشاعر علي عبد الأمير ضيفه مستذكراً تلك الأيام البعيدة في بغداد قبل ربع قرن او اكثر، إذ كان عبد الأمير يذهب الى صحيفة "طريق الشعب" فيلتقي الحلفي بين اروقتها، وكان هذا الأخير في ريعان شبابه وذروة وسامته، ولوهلة، كان علي عبد الأمير يغبط صديقه على إعجاب الفتيات به، الحلفي اعتبر تقديم علي عبد الأمير له، بهذا الإستذكار الماكر، أشبه بمؤامرة حيكت جيداً للإيقاع بينه وبين عقيلته الجالسة في الصالة والمنهمكة في تصوير الأمسية، والحق ان شاعرنا الحلفي، هو الذي حاك المؤامرة جيداً، لا مضيفه، نقصد تلك الأجواء الغرائبية التي أشاعها الظلام السحري المنكسر بضوء الشموع، فقد وجد الحاضرون انفسهم في جو رومانسي فريد حيث ظلمة خفيفة وشموع تتمايل إشعاعاتها القزحية على ملامح وجوه متأملة وسكرى بأشعار تملك قوة السحر:
(ليلة ...كلت تعود إلي وتانيت
حنيت بيباني وزرعت اللوز بالعتبة
وشعلت اشموع وتوضيت
كلت أصلي الك فرض ... لوجيت)
 
الشاعر عماد جبار ... يصطاده المنفى الجديد
الشاعر عماد جبار واحد من شعراء التسعينات في العراق، برز إبان وجوده في الوطن بوصفه صوتاً شعرياً يعد بالكثير، سيما انه اتخذ شعر التفعيلة نمطاً لكتابته ليفارق بذلك ابناء جيله المنشغلين بفضاءات قصيدة النثر، غادر بلاده متجهاً للإمارات العربية المتحدة إثر فوزه بجائزة مجلة "الصدى" عام 2000، كانت تلك المغادرة نقطة بدء في مسيرة طويلة نحو المنافي.
وفي مدينة عمّان، كان عليه الإنتظار لعامين قبل ان يتوجه الى منفى جديد وبعيد، نعني نيوزلندا التي غادر اليها يوم 28-2-2002، المفارقة في كل هذا هو ان عماد جبار فاز، اثناء وجوده في الأردن، بجائزتين أخريين، ففي العام الماضي فازت قصيدة له عن انتفاضة الأقصى بالجائزة الأولى في احدى المسابقات، ثم عاد مرة أخرى ليخطف جائزة الإبداع العربي في الشارقة هذا العام.
واقع الأمر فان التوصيف الذي أطلقه الشاعر علي عبد الأمير على شاعرنا الشاب كان ملائماً بالفعل، ففي أمسية أقامها الصالون احتفاءاً وتوديعاً لعماد يوم 19-2-2002، سمّى عبد الأمير صديقنا الفائز بـ "صائد الجوائز" وهو كذلك بالفعل.
قرأ عماد جبار قصائد عديدة من ديوانه الذي فاز بالمسابقة الأخيرة "ريشة من أسف" لعل أجملها هي المُفتتح الذي افتتح به ديوانه وأمسيته أيضاً ......
(مذ شبَّ فيك الأنبياء ومذ هما
مطر على حجر البيوت ومذ نما
زرعٌ على كف وأثمر في سما
كان العراق)
* النص كتبه الشاعر والناقد محمد غازي الاخرس


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM