نقد فني  



جواد الأسدي: جائزة ذهبية في مهرجان النوستالجيا العراقية

تاريخ النشر       28/12/2014 06:00 AM


علي عبد الأمير*
من النادر أن اشعل فنان او أديب أو مفكر عراقي ممن انتظموا في مهمة الإنتصار لضوء بلادهم، في حريق الوطن وفكرته مثلما اشتعل وأدرك وعبّر وبكى، جواد الأسدي، فيكفيه ان جذوة عروضه المسرحية وقلقها يأتيان من جذوة في طين العراق وقلق في انسانه، ويكفيه انه مهما ذهب والى أوطان قائمة فعلاً او مُتَخَيلة (الأوطان التي يقترحها المسرح) فانه لا يحضر غير ذلك العراقي العطشان لمياه وطنه، ذلك الذي يكاد يجنّ حين يكتشف ان الطرق مقفلة، وذلك الفرحان الطليق حين يجد صديقاً خرج من مدار الأزمة المضنك، وراح يبتكر وسائله في الكشف عن الجحيم الذي عصف بالبلاد، غير ذلك الذي مشى على ارصفة يأتي فيها الضوء عطراً في الوزيرية وفي ممرات "أكاديمية الفنون الجميلة" التي شهدت ومضة الفتنة واختمار السؤال، غير ذلك الذي فتنت لوسامته ولشعره وصخبه اللذيذ، أميرات الحرية العراقيات أيام كانت البلاد تمضي نحو مصالحة أولى مع ضميرها، مع ترابها وانسانها، وحين كانت الحياة مفتوحة على ألف مدى وإحتمال، ذلك الذي انتفض مع بابلو نيرودا في "تألق جواكان موريتا ومصرعه" وأبدع دوراً هو أقرب الى الدرس في التمثيل المسرحي، وهو ذاته الذي اربك الإيقاع في "مسرح بغداد" حين صاغ "العالم على راحة اليد" عرضاً كالحب، فاتناً وشهياً ومتدفقاً وشجياً، يقبل القراءة المفتوحة مثلما هو عميق كالأسرار!
واذا كانت سنوات المنفى الأولى عند جواد الأسدي مرادفة للجدوى المعرفية (رحل عن العراق للدراسة العليا في المسرح)، فإن السنوات اللاحقة ما لبثت ان أصبحت مدخلاً لصداقة عميقة مع الألم، فالكارثة "كشفت عن ساقيها"، وإذا كان لا بد من شوق ينبثق، فلينبثق على أرض المسرح وفضائه، ولتكن الرؤى والمفاهيم والحيوات والأنغام المشتبكة على الخشبة، رؤى وصوراً عن الوطن، هكذا صار المسرح وطن جواد الأسدي، وهكذا انتظم العراق في الضوء، في اللغة، في وحشة الممثل امام سؤال وجوده، وامام اختبار فاعليته الإنسانية.

المسرح واللا بلاد

هي دعوة هنا، من هذه السطور، دعوة للقاريء لأن يتعرف على هذه النار التي "شبّت في جواد وما انطفأت" نار الشوق للبلاد ولعلاماتها، عبر مدونات كان كتبها الأسدي على مدار سنين، هي نصوص الوجد والإستغراق التام في اقامة الإتصال مع المكان الأول الحميم، جمعها في كتاب صدر عام 1999 عن "دار الفارابي" في بيروت بعنوان "الموت نصّاً – حافة المسرح"، ومن نص بعنوان "المسرح واللا بلاد" نقرأ: "لم نفهم وقتها فايروس المسرح، لم نمضغه ولا الى اين سيجرفنا سحره ولبّه، نبش المكبوت فيه، المسكوت عنه، الدخول الى مجسات النصوص، أساتذة على هيئة كهنة، هناك تهجّيت، ارتويت من ماء المسرح. في ذلك المناخ المشبع بالعذوبة والعذاب والتيه والفقدان تدربت وصولاً لسفرات السبي، بوسة الغياب، عجين الصباح، وأم تتربع على كوة عذاب تسافر بقدمين معدنيتين بحثاً عن أولاد شاكسوا ثديها فمات الأول رمياً بالرصاص، الثاني نزف أولاده على الحدود، الثالث معلقاً بين اللجوء والخراب".
ولأن الأسدي ظل "يجاهر بإنبات زهرة المسرح" على الرغم من ان المسارح العربية لا تعرف الولاء للذاكرة المسرحية الرصينة والتأسيسية، فهو يظل في موقع السؤال: أين البلاد في كل هذا الزمهرير؟
"دائماً، أسأل نفسي بعد كل هذا الزمهرير المسرحي هل بلادي مازالت هي البلاد؟! أم ان ازدهار البلاد بالثكنات والمخبرين والجستابو من أبناء وطني أضاع عليّ طعم البلاد أم إنني صرت رمل البلاد"
العرض المسرحي عند الأسدي مؤهل لمهمة مقدسة، مهمة توثيق الألم عند حدود الجدوى الإنسانية، فلا تاريخ مؤثراً غير ذلك المكتوي بنار تطلعات الناس الى اثبات ملامحهم، والى الإنسجام مع معيوشهم، العرض المسرحي عند الاسدي مفتوح على روحية عراقية لا فكاك منها: "على خشبات المسرح أجرجر كل ذلك الركام الطفولي لأفرشه على طاولة التمثيل، أحاول دائماً عبر خياراتي المسرحية أن أشد النص الى سرة الحبل السري الممتد من أقصى وجع في الروح الى فؤاد الوالدة! أيضاً اقوم بتحويل النص الشوارع والمحطات، والأسواق والمقاهي بدءاً من ساحة الميدان مروراً بشارع الرشيد وصولاً الى منحوتات جواد سليم وصولاً الى مسرح بغداد حيث يحتشد البغداديون على أبواب المسرح بلهفة! في رأس المملوك جابر ومن خلال شخصيات المقهى بنيت شخصيات بغدادية حافلة بالتوق والحنين، أطلقت من خلال الحكواتي الحكايا المجبولة على أداء عراقي ونبرة عراقية وجسد عراقي يضج بالفتنة والعذاب!

جواد الاسدي ووالدته في بيت كاتب السطور بعمّان
 
في كل تلك التفاصيل ومعها وكأنما أحاول ان أحمل الأمكنة على ظهري لأنقلها من بيت الى بيت، من مدينة الى مدينة، من خشبة مسرحية الى اخرى، من ممثل الى آخر.
إن مقاومة موت الحنين الأول والإنشاد للوطن الأول هي في حقيقة الأمر مقاومة للسلطة التي تنفي الفنان لا من أجل تحطيم جسده! بل لتهميش ذاكرته ولدفن يومياته، وإلغاء حميميته!.
مع كل هذا فإن الإصرار على لَيّْ عنق النصوص بإتجاه أنسنتها، وتطعيمها بنقوش روحية عراقية بالنسبة لي مثلاً هي آخر أمل في منهج النفس فرصة المشابكة أو التشابك مع الوطن".
 
"النوستالجيا" أم سؤال الحرية؟
 
وفي حين يدرك جواد الأسدي عميقاً ان جانباً من انهماكه المعرفي والفني والإنساني إستغرق في الحنين "النوستالجيا" فهو لايرى في ذلك، خفة في السؤال، ولا انتهاء لمدارات الإشتغال على الغامض والمدهش والمربك في علاقة الفن والإبداع عموماً بالمعيوش، بل ان فوزه بـ "جائزة ذهبية في مهرجان النوستالجيا" (كناية عن إستغراقه في الحنين لبلاده) هو جزء حي من هويته، بل هو على إستعداد للدخول في رهان على أصحاب المناهج المستعارة الذين يرون في التشبث بالروحية العراقية، أحادية رؤى، والإحتكام معهم: اتحداكم ان وجدتم ملمحاً فنياً ضعيفاً كانت النوستالجيا، وكانت الملامح العراقية، وكانت روحية الشجن العراقي سبباً له.
"منذ ثلاث سنوات أحاول إيجاد حل إنتاجي لإخراج مسرحيتي "المصطبة" وتقديمها على خشبة المسرح، ومسرحيتي تعتمد بالدرجة الأولى على نبش الأرواح والأجساد في المدينة أو الحفر في ذاكرة المدينة كربلاء العراقية التي إنفرطت من بين يدي والى الأبد.
أتعرض الى التعب مرتين، مرة لإستحالة العثور على الوطن او المدينة، ومرة لأن معضلة الإنتاج تقتل الحنين الى المدينة حتى على الورق أو على خشبة المسرح".
مشروع جواد الأسدي المسرح نوع من العرفان لـ "دجلة الروح"، لعباءة الأم المعطرة بالرازقي، لسؤال المعرفة الأول، للإنكسار الروحي العميق، لشهقة الفرح الأولى، ونوع من إعادة الإعتبار للفعالية الإنسانية في سؤال الفن والأدب، تلك التي أهالت عليها ثرثرة اتخذت من قناع الحداثة بلاغة لها، أكواماً من ثلج وصمت مستغرق في لذة إنكفائه، انه أيضاً مشروع اعادة البحث في التكوين الأولى، في الموروث، في البيئة اجتماعياً وثقافياً، وضمن هذا كله تدعيم الموقف من الحرية "المسرح والإستبداد في مقبرة واحدة"، وهو ما يدعونا للكشف عن أقنعة "حداثة" مسرحية عراقية كانت تطنب في ثرثرتها وهي طالعة للتو من "خفارة حزبية" و "اجتماع لتوزيع الأسلحة على الرفاق".
"في منصته المقبلة"، على خشبات عهد الموتى الجديد، بين المتفرجين الموتى حيث لا يسمع أحد دوي التصفيق ولا الهمهمات ولا اللهاث، حيث يصبح العزف أكثر رعباً وشهوة، حيث يعم اللامعنى، اللازمن الممزوج بإرتعاشات تأبيدية ومنادمات أبدية.
يعود المصلون، يسرع المشيعون في عودتهم الى بيوتهم، يديرون مفتاح التلفزيون، ربما يضحكون على أخطاء المذيع النحوية، ربما ينامون بعجالة، وبعجالة معهودة ينسى الأحياء أصدقائهم الموتى.
العازف يدرب الليلة سكوته على نوم مؤبد، يلفق أقاويل ترابية ونصوصاً موسيقية تتآخى مع جمهورية النمل الفتية.
المصابيح الى عتمة نهائية.
قدماه معلقتان في دجلة الروح".

*نشرت في ملف "المسلة" الخاص بالأسدي تشرين الاول 2001



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM