حوارات  



كوكب حمزة: المنفى قوة تدفعني خارج الوطن–الرحم وهو ما يهزّني بعنف

تاريخ النشر       28/12/2014 06:00 AM


حاوره في القاهرة: علي عبد الأمير
تسمع صوته يغني بمرافقة العود فتجد ان أثراً من غرين الفرات دخل دمك، تصيخ الى ألحانه، فتجدها مشرقة كما شرفة بيت تطل على حديقة غنّاء في الوزيرية ببغداد، تستعيد "القنطرة بعيدة" فتقول إستبد بي الشوق لبلادي، تتحول الى "ابن آدم" فتصرخ يا وحدة أبي الشهداء الحسين في واقعة الطف، تستمتع بلحن "هوى الناس" فتقول يالبغداد الفسيحة الجميلة، تبتهج بقطرات المطر الأولى من كل شتاء، تقول هل من المعقول ان ينقذف هذا العراقي حد النشيج خارج حاضنته الفكرية والإجتماعية، ثم ما الذي يفعله في ثلج انتظارات مملة؟ أي عسف هذا الذي يبعد المضيئين من ابناء البلاد عن صالات مسراتهم وحدائق الوجد؟ كيف يتداخل الشوق وفخاخ الحنين مع سؤال الحرية عند مبدع تكاد تشرب عذب دجلة من يديه مثل كوكب حمزة وما الذي يفعله هناك في الدانمارك فيما شهقاته تحوم حول بلاده؟ وهل اقاماته في المغرب ومصر تعويضاً عن بعض لوعة؟.
     عن كل هذه الأسئلة – الشظايا، عن جراح لا تندمل عن تجربته، عن اغتراب ونأي عن النغم، عن صورة البلاد واغنياتها كان للمسلة هذا الحوار مع اكثر الملحنين العراقيين إثارة للجدل.

علي عبد الامير وكوكب حمزة

     من النادر الحديث عن ملامح عراقية في الأغنية دون التوقف عند الحان كوكب حمزة على الرغم من تضمنها ملامح تجديدية في البناء الموسيقي والروحية، كيف يمكنك وصف عملك على تثبيت ملامح عراقية في أغنية معاصرة؟
     بعد فشل أغنيتي الأولى التي سجلتها في الإذاعة "مر بيّه" وبأداء المطربة غادة سالم وكتبها الراحل طارق ياسين، توقفت مع نفسي ولأكتشف لاحقاً سبب هذا الفشل: انها أغنية تحمل جنسية مشوهة، ومن هنا كان قراري في أن تكون أغنيتي عراقية صميمة، اتجهت الى دراسة الفولكلور، وأفادني وجودي في البصرة حيث الجملة الهندية تختلط بالعربية بالزنجية، والتراث غني وثري، فضلاً عن كوني قادماً من منطقة تضج بالشعائر العاشورائية الغنية بايقاعاتها والحانها، وكان عليّ ان انظم نفسي وسط هذا التدفق الروحي والنغمي، وهكذا خرجت أغنية "يانجمة" التي كانت مزيجاً من الغناء العراقي الفولكلوري والموشح الأندلسي، واغنية "القنطرة بعيدة" التي في مدخلها تأثير من غناء البادية، وشيء من العاشورائيات، وعن هذا الملمح الفجائعي الحسيني يمكنني الإشارة الى ما تضمنته أغنية "ابن آدم" حيث الفجيعة العالية ولكن ضمن ترميز عالِ أيضاً.
     عموماً كل ما لحنته طبعته شخصيتي، واكتشفت لاحقاً ان هذا غير كاف فهناك موسيقات مختلفة، وتكنيك أبعد من هذه البساطة التي لا تخلو من بدائية، فجاءت لاحقاً اغنية " لولي يا ناقوط الماي" بصوت انوار ابراهيم وفيها ايقاع "الجيرك" الغربي والمفردة اللحنية العراقية، وكنت قد توصلت الى فكرة تقديم لحن لا آلة شرقية فيه ولا ربع صوت في نغماته وايقاعه غربي، لكنه يبدو عراقياً تماماً وقريب الى غناء الأهوار، وجاءت هذه الأغنية "لولي يا ناقوط الماي" لتنسجم مع الفكرة فقد أدخلت في مقطع منها المقام العراقي، وضمن هذا السياق في المزج بين الشرقي والغربي جاءت أغنية "أم زلوف" بصوت مائدة نزهت "مُنعت بعد فترة من إذاعتها"، وتوج هذا الإتجاه في أغنية "ياطيور الطايرة" وفيها تكنيك عال وهارموني قلّما نجدهما في أغنية توصف عادة بالشعبية.
     بعد خروجي من العراق قبل 26 عاماً، درست التأليف الموسيقي في الإتحاد السوفياتي يرحمه الله ويرحمنا، والتجوال والتلاقح مع موسيقات الشعوب ولاحقاً أجواء الأغنيات الشعبية في سوريا واقترابي من الأغنيات الفلسطينية وتعرفي على الثراء اللحني الهائل في المغرب (1995-1996)، كل هذا ساهم في "تخفيف" ملامح الجملة الموسيقية العراقية، غير أن شيئاً غريباً بدأت أشعر به يلاحقني، فهناك مقامات عراقية أخذت تدخل الحاني، وموضوعة الهوية العراقية راحت تلح عليّ إلحاحاً غريباً، حتى ان دراستي للتكنيك الغربي بدت غير ذي جدوى، ترى هل انني لم أستخدم ما تعلمته أم ان قوة الموروث العراقي والعربي هي التي حسمت الأمر هذا ما أدريه بعد؟

     أغنية "يا هوى الناس" التي قدمتها لصوت سعدون جابر، ظلت مثالاً لأغنية عراقية أخذت العاطفة من شكلها الضيق (حب امرأة لرجل) الى أفق أوسع، هل تجد ان لحن الأغنية ممكن ان ينبثق مجدداً عندك وفي لحن ينفتح على فصول الشجن العراقي؟
     تكاد تكون الأغنيات التي كتبها الشاعر زهير الدجيلي جميعاً تحمل هموم الوطن، الناس، العاطفة، وتعبر بالهموم الشخصية نحو أفق جمالي أكثر رحابة، ومثال ذلك نجده في "القنطرة بعيدة"، "طيور الطايرة" وفي "هوى الناس" هناك كثافة في اللغة مما جعلني أكثف لحني مستخدماً التنوع في الأشكال اللحنية العراقية، كالأبوذية والمقام العراقي مثلما فيها من ألحان بدوية، مزجتها معاً اضافة الى غناء الغجر والمحمداوي خاصة انني كنت على وشك الرحيل من البلاد وفعلاً اكملت اللحن وانا في تشيكوسلوفاكيا، كثفت في الأغنية عراقيتي، ومثل هذا التكثيف وضعته في مقطوعة موسيقية بعنوان "وداعاً بابل" عام 1992 لعمل مسرحي "هبط الملاك في بابل" لمخرج بولوني، استعدت فيها إحساسي وانا أغادر العراق مطلاً على أرض بلادي من نافذة الطائرة، فيها الخوف، الوجل، الغربة، والأمر ذاته في مقطوعة أخرى "الجراد يغزو بابل".

     شكلت مع المطرب سعدون جابر ثنائياً ناجحاً ويبدو ان هناك عملاً مشتركاً بينكما رغم اختلاف المسافة والمواقف وبالرغم من الأداء الضعيف الذي بات يميز صوت جابر في أغنياته الجديدة؟
     بدأت علاقتي مع سعدون جابر من خلال المخرج الراحل رشيد شاكر ياسين، سمعت صوته واقتنعت به، وكان لحن "أفيش" جاهزاً، فقدمته له بعد تغييرات تناسب صوته لاسيما ان اللحن كان بالأصل لصوت ستار جبار، بدأت العلاقة من خلال الأغنية وتعمقت مع الجدية الفنية التي كان يظهرها سعدون جابر، حتى انه ظل يأتي الى بغداد من البصرة مرتين في الشهر، ومع ذكائه أيضاً (أيقنت بعد ذلك انه يعرف من أين تؤكل الكتف) وصار معظم الحاني له: "أفيش"، "ياطيور الطايرة"، "القنطرة بعيدة"، "أصبغ هدومي" التي أعددتها عن الفولكلور الزنجي في البصرة، والأغنيتان الأخيرتان انزلهما تحت أسم محسن فرحان، باعتبار أسمي ممنوعاً في العراق، كذلك أغنية "مكاتيب" المرسلة أصلاً الى فاضل عواد ولكن سعدون استولى عليها لتصبح في شريط لها دون أسم!
     في عام 1998 التقيت بسعدون جابر للمرة الأخيرة في ألمانيا وبالتأكيد سألني عن ألحان واتفقنا على مجموعة أغنيات كتبها رياض النعماني، وتضمن الإتفاق ان يكون التسجيل في سوريا وتحت إشرافي لأن جميع الحاني شُوهت موسيقياً بعد تنفيذها من قبله، فكانت هناك لوازم ضعيفة وأداء ضعيف، ولكنني فوجئت به يسجل اثنين من الألحان في الاستديو الخاص به في بغداد.
     ولكنه في أحاديثه، يشير الى اتفاقه معك على ان يضع الألحان دون الإشارة الى إسمك وانه أوفى بالتزامه المادي معك؟
     هذا لم يحدث، ولم يتم مثل هذا الإتفاق، اما ما خص الجانب المادي فهو ما لم يكن بيننا إطلاقاً، بل ان سعدون خانني بلا خجل، وكنت أتوقع ان يكون قليل الوفاء وليس عديمه كما تأكد لي ذلك، والذي جرحني وآلمني ان يكتب في خانة الملحن أسماً غير أسمي مثلما كان فعل حين وضع أسم محسن فرحان على أغنية "هوى الناس".

     مثلما ارتبطت بسعدون جابر كان ظهور الراحل رياض أحمد مرتبط بك أيضاً؟
     أربعة أصوات كانت قريبة إليّ وارتبط ظهورها مع ألحاني: حسين نعمة في اغنية "يانجمة" ستار جبار الذي إجتاز الاختبار الفني عبر ادائه أغنية "إفيش" سعدون جابر ولاحقاً رياض أحمد الذي عرفته شاباً صغيراً في البصرة، لكني كنت أثق بصوته وكان بالنسبة لي أخاً أصغر، وكان قريباً مني وعلى صلة بأغنياتي وبسيرتي الفنية ورؤيتي للحياة، وهذا ما سبب شقاء له فكنت أحثه على تعلم العزف على آلة موسيقية، ولأنه صاحب حظ سيء فقد خرجت مبكراً من العراق، وخرجت من حياته مبكراً أيضاً، لتختل بذلك علاقتي به، وحين عرفت خبر رحيله ترك ذلك عندي لوعة وحزناً كبيرين، لقد أدماني موته، كان قد كلمني عام 1995 وأنا أستعد للذهاب الى المغرب، كلمني وهو يشهق بكاء وقال: انا أخوك رياض، بعثت له رسالة مؤكداً عمق محبتي له واعتزازي بصوته وروحيته، فهو القريب والحميم من الروحية العراقية.

     ها أنت في فضاء عربي، فبعد المغرب، أجدك في القاهرة، ما الذي تقصده من المجيء الى هنا أهي عودة الى الينابيع، طالما أصبحت العودة الى المكان الأول مستحيلة؟
     قد يكون السؤال قريباً جداً من إجابتي، فأنا تعبت من أوربا، هنا رئة عربية اتنفس منها، في المغرب تعرفت على أصوات مذهلة وتشبعت بثروة نغمية هائلة: صوت فاطمة القرياني وفاطمة أكيد التي حفظت بعض أغنياتي، صوت أسماء منوّر الذي هلكني، بجماله وعذوبته، وكان يغريني التعرف على صوت نعيمة سميح، سجلت أربع أغنيات بصوت فاطمة القرياني (3 نصوص عراقية وآخر سوري) في مصر قدمت بصحبة أسماء العديد من الأمسيات الغنائية في النوادي والجمعيات الثقافية غير أن الحصيلة لم تكن كما اريد وهذا ما يجعلني افكر بالعودة الى الدانمارك رغم مرارتها.

     هل يخامرك مشروع موسيقي يتناول القضية العراقية بتحولاتها المأساوية؟
     العين بصيرة واليد قصيرة... ويرعبني السؤال: أين أنفذ أعمالي وكيف؟ وجدت في كتابة موسيقى لعملين مسرحيين في الدانمارك متنفساً، أما العمل الكبير الذي يحيط بمشهد وطننا ومحنتنا، فهو لم يُكتب بعد، نعم أجد في بعض النصوص الغنائية مراودة لحنين يضنيني للوطن، منها نصوص لرياض النعماني: "بساتين البنفسج" و "مضيعني بالضباب"، فيها كلام جميل وعذب، ولكن هذه لا يمكن لها ان تنظم في عمل متكامل، أنا أعمل في ذهني ويظل السؤال: أين أنفذ مشروعاتي وكيف؟ وضمن هذا السؤال كنت طيلة عشر سنوات أعمل على "وتريات ليلية" لمظفر النواب ولكن؟

     الموسيقيون العراقيون خارج وطنهم... قضية تثير أكثر من ملمح وإشكال .. كيف أثر عليك نأيك القسري عن الوطن؟
     المنفى له وجهان، سلبي وإيجابي، الإيجابي هو في المدى الهائل من التعبير دون خوف إضافة الى معرفة ثقافات وموسيقات أخرى بما يوسع المدارك والرؤى، والتعرف على شعوب وأمم وتضاريس ومناخات اجتماعية، أما السلبي – وهنا الفجيعة – هو أن تدفعك قوة خارج الرحم وانت لم تكتمل بعد كطفل، وابتعادي عن هذا الرحم يؤذيك ويهزك بعنف، وهو ما أراه أحياناً يضعف جملتي الموسيقية ويشوه روحي اللحنية، نعم الوجع الدائم لا يخلق فناً أو إبداعاً كبيراً، لذا أكثر المبدعين العراقيين في حال جدب وفي حال عدم القدرة على التعبير، فغربتهم طالت وامتد الوجع طويلاً، ومثل هذا الحصار الروحي أشك انه ينتج فناً عميقاً.

* نشرت في مجلة "المسلة" 2000



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM