24/1/1991: أهلاً بموتنا المنقذ

تاريخ النشر       21/01/2015 06:00 AM


علي عبد الأمير*
بعد صباح كالح كالرمل، إنساب من عمري- أي عمر؟- وبعد حلول اليأس التام في النفوس وحرق المزيد من الاصابع، وفضاءات الهواء في الرئتين نتيجة سيجارة مشتعلة دائماً، أحاول إيجاد منفذ لإقناع آمر وحدتي بالخروج من الثكنة ولو ليومين – دونما إعدام طبعاً- علّني أصل لخيوط من مصير عائلتي: أين سرب حماماتي الذي أودعته في ثنايا طفل لا أدري إن كان قد تنفس هذا الهواء؟ بالتأكيد لم يظل مكان أو فضاء طفولة لرفيف تلك الحمامات، الطائرات وفيرة وكريمة حد الإفراط في غاراتها وعصف قنابلها يأتي على تلك الفضاءات، ويلقيها كسرة من بارود متجلد فوق أسطح المدن والبيوت والشوارع.

http://www.aliabdulameer.com/inp/Upload/2115736_2056860415_4bfa77ae43_b.jpg

يأتي صوت الإعلان من الراديو ليقطع تأملاتي ساخرا: "أمامك حلم ومسافات، خلفك الحنين… عالم مارلبورو...تعال الى حيث النكهة تعال الى مارلبورو"-  أين دموعك يا امي حين أخذت أطيل الغياب بين إجازة دورية وأخرى ومنذ أن أخذتني منك الحروب الطويلة، أين قبلاتك الناعمة كوردة؟ وأين الاذرع الطرية حول رقبتي؟، مدّي ذراعيك وفكّي عني خناق الوحشة.
أسئلة وأسئلة ترديني الى فراغ شاحب: أهكذا أحلتني ياعراق؟ إرادة مستلبة وضعفا تاما في إتخاذ قرار شخصي بسيط، قرار ترك الاوامر الكالحة كما لون الافق الرملي الذي يحيط بي، تركها خلف ظهري والإحتفاظ بجوهر حياتي ولو لمرة واحدة، يبقي لي بعض كرامة شخصية، لكنني وسط دوامات تتشتت فيها نفسي وتيه في أصداء الألم والكآبات، أجد نبع حياتي وقد جف ومن هنا أقول: لتجف كل الاشياء حولي، ومن هنا يأتي الهدوء اليّ مع كل دمارات القصف الجوي والموت الذي يخطّ في سماء ذهّبت حافاتها أشعة الشمس التي حملت لوجوهنا وأذرعنا بعض الدفء الحميم.
خرجت من ملجأ امر الوحدة خائباً، فهو لم يوافق على الرغم من "براعتي" في إظهار ما كنت اراه سبباً مزدوجاً للخروج فيه الموضوعي والذاتي. اشتعلت المواقع الصناعية القريبة منا، الحديد والصلب، البتروكيماويات والذي اصبح محطة للتخلص من الفائض من القنابل، ونقطة تدريب للطيارين حديثي العهد بالقصف.
نيران تستعر من القاعدة الجوية القريبة منا - ثمة محاولات لترحيلنا الى هناك، خاصة بعد خروجنا العملي من الخدمة وتدمير اجهزتنا-.
الغارات تتواصل… وخلالها لا أدري كيف اهتديت الى عدد من الاشجار قريباً من السور الخارجي لثكنتنا ورحت أحث الخطى اليها، وفجأة ثمة من إنقض عليّ ودفعني الى خندق شقي سقطنا فيه معاً وما هي الا أجزاء اللحظة حتى اهتزت الأرض وغطانا التراب وامتلأت الرئات بالبارود وطارت فوقنا الشظايا، طائرة كانت منخفضة جداً وفي وضع التصويب نحو ما تبقى من ثكنتنا… لم يصب أحد والقنبلة سقطت وسط ساحة العرضات فيما تولت الشظايا إشعال النار في كدس الوقود وإحداث الثقوب الكثيرة في خزانات الماء.
لم كل هذا الخراب الذي شيدناه حولنا؟ لم بحثي الدائب عن مصادر المعرفة ومراجعها ومتابعة انشطتها، لم الجهد في اكتساب الوعي؟ لم سجل حافل بالخسارات الشخصية؟ أكل ذلك من أجل أن أنتهي هنا؟ يا الهي ما ذا أفعل هنا؟
أرى ان بؤسنا كتركيبة إجتماعية هي فقدان القدرة على أتخاذ قرار يحفظ لها حق الهواء والبقاء على وجه البسيطة - قرار تموت من أجله أصغر الكائنات الحية وأدقها - لكن أجيالنا المحتشدة هنا في ظل المحرقة التي تعدها وتنفذها قوات التحالف الدولي وطائرات وقنابل "النظام الدولي الجديد"، والبقاء أسرى الرغبات التي تتفجر بها العبقرية (الفذةّ)، أرى - فيما يرى اليائس- اننا نستحق كل ما نتعرض إليه: المزيد من الكوارث نستحقها فعلاً، لابد من دفع ثمن جرائمنا الشخصية إضافة لجريمتنا الجماعية، جهلنا بالدفاع عن أولويات الحياة: الحرية… نعم أراها قريبة، شجرة أخرى لم تتعرف اليها أذرعنا، علّها أذرع من سيبقى من أطفال بلادنا ستمتد اليها، وداعاً آخر أفراحنا البائسة، أهلاً لموتنا المنقذ.

* من "الخروج من قبة النار"  يوميات "عاصفة الصحراء".


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM