رؤية بغدادية لأميركا: تشبه ماء ملوثا لا خيار للعطشان سوى ان يشربه

تاريخ النشر       28/01/2015 06:00 AM


واشنطن- علي عبد الأمير*
تزخر التقارير والمقالات التي تنشرها صحف اميركية عدة، بالتقاطات وشواهد انسانية تكاد توجز قصة اميركا التي بدأت منذ قرار الرئيس المنتهية ولايته جورج بوش بالتدخل العسكري لاسقاط  نظام الرئيس صدام حسين، ومن تلك الالتقاطات ما صاغت به الصحافية تينا سوسمان قصته في صحيفة "لوس انجليز تايمز" حول الوضع في العراق من خلال مشهد الحواجز الكونكريتية التي حولت بغداد الى جزر طائفية منفصلة.

http://www.aliabdulameer.com/inp/Upload/28153651_conceret%20in%20baghdad.jpg

رسوم عراقية على الجدران : "الجمال" في اطاره "القبيح"


تقول الصحافية سوسمان:"غالبا ما يسألنا الناس الذين لم يزوروا بغداد عن الوضع هناك، وعما اذا كنا نعيش في "المنطقة الخضراء"(المنطقة الامنة التي تتخذ فيها الحكومة العراقية والسفارة الاميركية مقرات هي بالاصل سلسلة قصور وبيوت الرئيس العراقي السابق واركان نظامه).والجواب على الجزء الثاني من السؤال أمر بسيط وهو "لا"، لكن الصعوبة تكمن في الجزء الاول. فبغداد مثل أي مدينة كبيرة هي خليط من القبح، والجمال، والسحر، والاشياء التي تبعث على الضحك، وتلك التي تستدعي الغضب والانزعاج، كما أن فيها الوانا براقة واخرى رمادية، ولكن بشكل يختلف عن بقية مدن العالم.  ويصعب على الصحافي رسم صورة دقيقة عن العراق للذين لم يعيشوا اجواء الفوضى ونقاط التفتيش وانتشارالجنود ومشاعرالخوف. فبغداد تحت احتلال عسكري، والقوات الاميركية والعراقية منتشرة في كل مكان. هناك رجال مسلحون يرتدون الزي العسكري عند تقاطعات الشوارع، وهناك حواجز كونكريتية، ونقاط تفتيش متشددة". 

وتلتقط الصحافية  الاميركية صورا متنوعة للحياة في مدينة الصدر(مركز شيعي) والاعظمية( مركز سني) وفيهما تتواصل الحياة على نحو ٍ ما  داخل الحواجز الكونكريتية: "تقوم القوات الاميركية احيانا بالاستفسار من سكان الاحياء عن رأيهم بالاوضاع السائدة. لكن الاجابات لايمكن اعتبارها وسيلة صحيحة لقياس مشاعر العراقيين بعد حوالى ست سنوات من الحرب، كما أنهم لايعبرون عما يجول بخاطرهم أمام الاميركيين. وهاكم بعضا من آرائهم: يقول الحلاق "حسن رحيم" ان اميركا مثل الماء الملوث الذي يجب علينا شربه بسبب العطش، موضحا انه لايحب الوجود الاميركي، إلا انه يرى أن الاميركيين يحولون دون عودة القوى العراقية المتنافسة الى التقاتل فيما بينها. أما "حسين علي" الذي  يملك محلا لبيع الاجهزة الالكترونية في النجف فيشاطر رحيم عدم ترحيبه بالوجود الاميركي موضحا ان الاحتلال يشبه المرض، لكنه يفضل بقاء الجنود الاميركيين في العراق للسيطرة على الاوضاع.
وتتوقف الصحافية الاميركية عند المشكلات التي خلقتها الحواجز الكونكريتية للناس العاديين:"يقول صاحب محل لبيع العقار من مدينة الصدر للضابط الاميركي الذي كنت ارافقه في جولة على بعض احياء بغداد، ان الوضع الامني افضل بكثير مما كان عليه خلال فصل الربيع الماضي حين كانت القوات الاميركية والعراقية تقاتل عناصر المليشيات الشيعية في المنطقة. لكنه اشتكى من الحواجز الكونكريتية، موضحا انها تسببت في القضاء على مصدر رزقه. وتتكررهذه الملاحظة، فالجدران الكونكريتية ونقاط التفتيش أدت الى تحسن الوضع الامني، لكنها جعلت الحياة أكثر صعوبة. بالمقابل، إذا ازيلت الجدران ونقاط التفتيش فإن اعمال العنف ستعود.  وتساءل صاحب محل العقار عما إذا كان بالامكان إزاحة قطعتين من الحاجز لتسهيل وصول الناس الى محله مؤكدا للضابط الاميركي خلو منطقته من الاشرار".
وفي ما تحاول الصحافية تحديد الاسباب التي دفعت الى اقامة الحواجز الكونكريتية، تورد ملمحا انسانيا تجتمع فيه الطرافة بالالم وعلى طريقة "شر البلية ما يضحك":"انتقلت الدورية التي ارافقها الى فتحة في الجدارالعازل حيث توجد نقطة تفتيش عراقية. في هذه الاثناء وصل المكان رجل يرتدي بدلة وربطة عنق وحبات العرق تغطي جبهته. كان الرجل على عجل لأن سيارته المزينة بالورود متوقفة على الجانب الاخر من الجدار، وعليه المرور عبر نقطة التفتيش للوصول اليها والانطلاق لترتيب حفل زواجه. لكن في بلد تأخذ  فيه السيارات المفخخة والانتحاريين جميع الصور والاشكال، وحيث القي القبض خلال السنة الماضية على احد المطلوبين يحاول الفرار من بغداد وهو يرتدي ملابس عروس، اصبح كل شيء خاضعا للمراقبة الشديدة والتفتيش الصارم. وقد طلب الاميركيون من نقطة التفتيش الاسراع بتفتيش العريس وتركه ينطلق لإتمام ترتيبات زواجه".
وتنتهي الصحافية الى ان العاصمة ليست مكانا آمنا للعراقيين الذين سقطوا ضحية لأعمال العنف:"هدفت اقامة الحواجز الى تشجيع الناس الذين يشاهدون تحسن الاوضاع على الجانب الآخر من الحاجز على رفض التعامل مع المليشيات، لكن يستحيل الجزم بحصول هذا الامر. حين يُسأل الناس في مدينة الصدر عن رأيهم فإنهم يهاجمون الجدران والولايات المتحدة والحكومة العراقية، قائلين ان حاميهم الحقيقي هو "جيش المهدي"، أما حين سألهم الضابط الاميركي ،الذي كنت ارافقه، عما يتردد من أن جيش المهدي يمارس معهم الابتزاز والرشوة فقد هزوا رؤوسهم بالنفي. وخلال جولتي هذه كانت الحياة في بغداد تبدو طبيعية من خلال الزجاجة المتسخة للعربة المدرعة التي كنت استقلها. بغداد قد تكون الآن أكثر آمانا ، لكنها ليست كذلك لضحايا التفجيرات، فما زالت هذه العاصمة مكانا تسير فيه الدوريات الاميركية  ببطء شديد بسبب ضرورات مسح الطريق خشية من وجود عبوات ناسفة". 

* نشرت في صحيفة "الغد" 2009




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM