تفجير شارع المتنبي 2007: رماد الكتب البغدادية وفينيقها

تاريخ النشر       13/03/2015 06:00 AM


بغداد- علي عبد الأمير
في اذار (مارس)، ومع اولى نسائم الربيع، عرفت العاصمة العراقية، واحدا من ايامها العصيبة التي ما انفكت الى اليوم، تستنسخ اهوالها ورعبها، حين صار شارع المعرفة وذخيرة الكتب والمطابع، والذي يحمل اسم الشاعر المتنبي، نهبا لنيران ولدها تفجير ارهابي ضخم، آتى على عشرات المكتبات واهلها وروداها، حد ان النيران ظلت تستعر لايام وهي تأكل قلب شارع الثقافة حتى أحالته رمادا دونما آخر.
وما إن هدأت النار، تجمع اكثر من اديب وفنان وسط الرماد والحطام، مرتجلين قصائد وكلمات ومشاهد مسرحية، بينها عرض قصير مؤثر للمسرحي جبار محيبس (الصورة) الذي استل صندوقا ليغطي به رأسه، في لحظة توجز العماء الذي كادت الحياة تدخل في ظلامه.


المسرحي جبار محيبس يرتجل مشهدا مؤثرا وسط  رماد "شارع المتنبي" وخرابه

 
وفي ما يشبه استعادة ذلك اليوم العصيب يكتب صاحب احدى المكتبات والمثقف، جلال حسن: "يوم احترقت مكتبتي في شارع المتنبي فوق بناية مقهى الشابندر في 5 أذار عام 2007، حين قام وحش بربري تافه بتفجير سيارته، وسط الشارع في المسافة الواقعة على بعد عشرة أمتار من مكتبة الشهيد عدنان، ظلت النيران تشتعل لمدة خمسة أيام رغم جهود الدفاع المدني. خمسة أيام بلياليها ورائحة الكتب والدخان يتصاعد من أكوامها، والأوراق الصغيرة المتطايرة من الاحتراق ملأت كل الشوارع ونهر دجلة القريب".
 

جنود اميركيون ينظرون الى الحطام المحترق الذي انتهى اليه شارع الثقافة العراقية 
 
ويرى حسن، الى ذلك الحدث من منظور قريب، تمثله حرائق الكتب في الموصل، على يد تنظيم "داعش"، فيقول " أكتب هذا الجرح وقلبي يتفطر حزناً حين قام تنظيم «داعش» الدموي ثانية، بحرق أكثر من ثمانية آلاف كتاب ومخطوط نادرة، كانت موجودة بأكبر مكتبة بالموصل"، متسائلا "كيف يشفقون على أوراق عتيقة تفضحهم وتكشف الظلام المخبوء في رؤوسهم الخاوية؟ أي حماية للأجيال كما يدعون من الأفكار الصادمة أو القبض على الكلمات المارقة وقد ملأوا الوديان دماءً؟ التصرف الذي يجيز قتل الإنسان بهذه الطرق الوحشية لا يعبأ بحرق الكتب وتحطيم الآثار، وعدم سماع الموسيقى وتحريم الرسم والفن والمسرح، ولا يهتم للحياة بل يسعى الى تخريبها من منظور ظلامي ووحشي. أن الذين لا يدركون معنى الحياة، لا يدركون قيمة الكتب، ولا يدركون قيمة التأليف والتوثيق والتدوين وصناعة الأفكار والقيم والتعليم والترفيه والاستفادة والمقارنة والاحتكاك في ثقافات الشعوب، إلا ما يزيد ظلاميتهم".
ويكتب د. اكرم المشهداني "في الخامس من آذار 2007 سقطت كتب بغداد مرة أخرى ضحية للحرب عندما انفجرت سيارة مفخخة في شارع المتنبي التاريخي، موطن بيع الكتب و المطابع و "مقهى الشابندر" الشهيرة، حيث يتجمع أدباء العراق ومفكروه منذ عقود، مما أدى إلى مقتل وإصابة أكثر من100 شخص وتدمير أشهر مكتباته التي التهمتها النيران.
في ذلك اليوم احترقت أقدم مكتبة "العصرية"، وقتل أشهر بائع كتب هو محمد يحياوي. منذ تلك اللحظة، ارتفع "المتنبي" من مجرد شارع، رغم عراقته وجلال ما يحمل، إلى رمز تجاوز محليته إلى مدن العالم الكبرى من لندن إلى سان فرانسيسكو، اذ يتم تذكره سنويا، كما نتذكر تلك الأيام المظلمة في تاريخ البشرية، حين تعاد القصة نفسها قبل هولاكو وبعده، قبل محاكم التفتيش وبعدها".
وعن تفاصيل المشهد المرعب يضيف المشهداني "بقيت حينها ولأكثر من يومين، سحب دخان الحرائق التي التهمت المكتبات التاريخية تغطي سماء شارع المتنبي، بعد أن تحول إلى ركام وأنقاض، وأعيد افتتاحه من جديد رسميا عام 2008. "مكتبة القيروان" و"المكتبة القانونية" و"مكتبة عدنان" و"مكتبة النهضة" و"المكتبة العصرية"، دمرت واحترقت كاملة. وقتل في هذا الهجوم 5 من أبناء صاحب "مقهى الشابندر"، محمد الخشالي، وعثر عليهم بين الركام وتحت الأنقاض، وأدى هذا إلى فقدان والدتهم بصرها إثر الصدمة ثم فارقت الحياة بعد عدة أشهر".
ويلفت الى تأثير الحدث وتحوله علامة تضامن دولية: "إذا كنا، عراقيين وعربا، قد نسينا هذا القصة بعد حين، لكثرة قصصنا المفجعة، فإن أكثر من 150 شاعرا وكاتبا وفنانا غربيا لم ينسوا ذلك، بل شكلوا ما يشبه التحالف الثقافي، ليس فقط لإحياء ذكرى مأساة شارع المتنبي تحت شعار "كي لا ننسى"، وإنما العمل أيضا، بقوة الكلمات نفسها، على منع تكرار ذلك في أي مكان من العالم، وفي أي زمان من الأزمنة".
كما لا يمكن النظر الى العمق الذي مثلّه "شارع المتنبي"، الا بوصفه ورشة الثقافة العراقية ايام الحصار القاسي (1991-2003)، فهو طوال عقود شارع المطابع والقرطاسية وتجارة الورق، فإنه في تسعينيات القرن الماضي، حين احكم الحصار قبضته الثقيلة على البلاد، قد شهد حركة ونزوحاً من المثقفين العراقيين نحوه، فهو مكان بيع مكتباتهم لضمان لقمة العيش ومقايضة نادر مقتنياتهم من الكتب بالجديد الغالي الثمن والذي تتحول نسخته الواحدة الى مئات من طريق الاستنساخ (التصوير). وعبر هذه الطريقة خرجت مجموعات شعرية وقصصية وبيانات ثقافية ومذكرات من دون المرور بالرقابة فجاءت "حرة" في خطابها وفي تأويلاتها للكارثة العراقية بأبعادها.
وظل "المثير" في الشارع و"المرغوب" ايضاً، بعيداً عن قدرة المؤسسة الرسمية "الصدامية" على انتزاعه، فهو المكان الذي تصل اليه الكتب والمجلات اما من طريق الأردن وسورية، او من طريق كردستان حيث الانفتاح على المطبوعات العربية الوفيرة، حتى صار مصدر الثقافة "الممنوعة" بامتياز، وهو ما عزز موقعه اشارة حرية نادرة في مكان كان منذورا للطغيان بشكل تام.
وعن استعادة "شارع المتنبي" لحيويته، نبضا وعلامة ثقافية بارزة في بغداد، وانبعاثه "طائر فينيق" من ذلك الرماد، يقول المكتبي جلال حسن "كنت شاهد عيان يوم حرق شارع المتنبي ببغداد، لكن في اليوم التالي زادت أعداد المطابع وزادتْ مبيعات الكتب، وتكدستْ دور النشر بالمخطوطات للطبع، وتوسعت أرصفة بيع الكتب. هكذا هي الحياة تشرق مهما دام الظلام".
 
*نشرت في "الحياة" 11-3-2015
      
 


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM