في نقد الدراما العراقية: بيت سيدة الصبر

تاريخ النشر       08/05/2016 06:00 AM


قاسم عبد الأمير عجام*

في أعماله التلفزيونية القليلة، استطاع فاروق محمد ان يمنحها سمات خاصة بها تخرجها عن التكرار الذي يكاد يشمل بدائرته أكثر الأعمال الدرامية التلفزيونية العراقية، اذ تخرج عن الحبكات والصراعات التقليدية التي تكررها اكثر، تمثيليتاها التلفزيونية لتلقي بمواعظها التي تشعرنا باننا بعد كل ما شهدناه، وكأننا لم نبلغ سن الرشد. واذا تذكرنا تمثيلية (بلابل) لفاروق محمد، أمكننا ان نذكر اهتمامه بمعاناة الإنسان الداخلية التي لا تأتي من مجرد العلاقات اليومية المعتادة، ولذا يضع أبطال أعماله في زوايا خاصة لا تعزلهم عما حولهم، ولكنها تسمح لهم بالبوح وربما بالتأثير في مجرى أحداث تمسهم.

وفي عمله الاخير (سيد البيت) الذي انتهى تلفزيون العراق من عرضه في الاسبوع الثالث من حزيران الجاري، يواصل فاروق محمد اهتمامه بدواخل أبطاله وهو يتحركون في دروب اشتباك حياتي جعل لهم خصوصية معينة، فبطله سعدي ابراهيم (سامي قفطان) يبدأ معاناة جديدة منذ لحظة خروجه بعد ما يقرب من احد عشر عاما، من السجن تتمثل في إحساس مرعب بالغربة أحاط به حالما يصل الى بيته وسط استقبال حيادي متوحش او بارد في احسن الاحوال، بل غريب اذا تأملنا استقبال زوجته بالذات لاسيما وقد اثبت جدارة في الصبر على محنتها بفقد معيلها، حين تولت تربية ابنتيها وولدها، وعبرت بهم أمواج المحنة الى بر مستقبل يوحي بالثقة وحاضر يدعو للإحترام. لكنها، وكأنها لم تفعل ذلك او كان ما أنجزته لا يدعو لفرح مضاعف يشيعه تقديم ذلك الانجاز للزوج العائد من سجنه، فتكتفي بمجرد السلام عليه وتهنئته بالعودة، وتكلف ابنهما قيس (فائز طه سالم)، بان يدّل اباه على غرفته الخاصة في البيت ويا لغرابة ذلك!

الكاتب فاروق محمد

أفليست تلك بداية مثيرة للاهتمام والتساؤلات؟ افليست مدخلا لكشوفات عديدة واحتمال صراعات ليست اعتيادية؟ نعم ولقد اشاع اخراج تلك البداية واداء الممثلين لاسيما (سامي قفطان) جوا بترقب تلك الاحتمالات، مما منح المسلسل نقطة سريعة تؤهله للتقدم نحو نقاط أخر. غير ان الاحداث الملاحقة لم تأت بما يكف من كشوفات تعمق الشخصيات الرئيسية حتى انها حرمت المشاهد، كما نزعم من تكوين حكم متكامل او موقف شامل من اطراف الصراع، وسقط الأبطال في شبكة او ضباب تساؤلات تتداولهم بين موقع الضحية والجلاد .. ولاشك ان عملا دراميا يحرم مشاهديه من عوامل أو حيثيات تكوين موقف او حكم على احداثه وشخوصه، يحرم نفسه من القدرة على توصيل رسالته التي انتدب نفسه لها.

وكانت مسؤولية ذلك مشتركة بين المؤلف والمخرج اساسا ثم بينهما وبين فريق التمثيل، فالمؤلف عبر السيناريو الذي قدم فيه قصته وما يتضمنها من حوار، لم يتوقف بما يكفي لإضاءة ظروف او جوانب جريمة الشخصية المحورية، شخصية الاب سعدي ابراهيم .. فهل كان قاتلا او مشتركا في جريمة قتل؟ وما هو سبب الجريمة أصلا، وكيف تصاعد الموقف الذي ادى اليها؟ وتساؤلات اخرى يطرحها المتلقي بديهيا ازاء مثل هذه الشخصية بل ويزداد الحاحا لما شاهدناه من استقبال مثير للتساؤل والشكوك للسجين العائد. لكن كل ما عرفناه من مشاهد الاسترجاع التي اقتصرت على مشهدين تكرر احداهما اكثر من مرة، ان سعدي ابراهيم كان موظفا سكيرا اهمل عائلته وقسا عليها معنويا وماديا، اذا لم تسلم زوجته خوله (ابتسام فريد) وأطفاله من ضرباته وركلاته في نوباته الخمرية! كما لم نعرف هل كان علوان (صادق علي شاهين) مجرد رفيق سجن لسعدي ام شريكه في الجريمة، وكيف اجتمع موظف يكرر اعتزازه بوظيفته التي لم نعرف طبيعتها أيضا، بشخص مثل علوان نعرف عنه سوى انه عاطل سكير !

وحتى بعد عودة الأب الى بيته، لم يجد من المؤلف من الأفكار والحجج التي يمضي بها ليطرح واقعه الجديد اذا سرعان ما عاد حبيسا مرة اخرى بين سلبية او برود علاقة الاسرة به، وبين تسلط شقيقته كريمة (عواطف نعيم) و تأثير رفيق سجنه علوان عليه، دون محاولة جادة من قبله لتشلين بداية جديدة مهما كانت طبيعتها ! وليس معقولا ان يخرج سجين بعد تلك المدة خالي البال من أية فكرة او خطة لعمل ما او صورة ما لحياته التي سيبدأ صفحة جديدة فيها، وهكذا بدت سلبية الاب وانغلاقه او ضياعه تحت تأثير علوان ومشاريعه، مبررا لموقف ليس في صالحه، مثلما كانت سلبية الزوجة في صالحها ايضا وبمثل تلك التعادلية يمكن ان تضيع حكمة العمل !

ومثلما بدا سعدي ابراهيم شخصية غائمة قبل السجن وبعده، بدت شخصية زوجته خولة لاسيما بعد السجن فاذا كانت قبل ان يسجن الزوج مجرد  ضحية من آلاف النساء الضحايا لإدمان أزواجهن للخمر مع فقر الحال فأنها، في صبرها ثم في شجاعتها على تجاوز محنه فقدها لمعيلها بعد سجنه بالعمل واعالة الابناء والنجاح في العمل مع الاحتفاظ للاب بذكراه بشكل من الاشكال، تمثل ايجابية تدعو للاحترام، وتكشف عن قوة في شخصيتها كأم وكإنسانة، رغم ان المؤلف لم يظهر جوانب تكوينها او تفكيرها، اذ لم نعرف كيف قفزت من موقع الضحية المسكينة لركلات الزوج السكير الهائج الى صاحبة عمل ناجح وربة بيت حازمة مدبرة، واذا قلنا انه يتضح او يرشح من الاحداث، و تم بمساعدة مباشرة من شقيقها أكرم (عبد الاله كمال) الذي تولى متابعة امور العائلة تفصيلا خلال غيبة الاب مما جعل الابناء يتعلقون به ويعتادون الاعتماد عليه حتى بعد عودة الاب مما جعل ذلك احدى اسباب احساسه بالغربة القاتلة! فكيف نفهم سلبيتها من زوجها بعد عودته الى حد مخاطبته بكنيته كأب لا باسمه المجرد، والى حد فصله بغرفة منفردة، لمجرد انها تقول انه لم يترك في حياتها من يمكنها من حبه، كما تقول ذلك لابنها قيس، كيف نفهم ذلك وقد كانت زوجة واما ايجابية معطاء الى الحد الذي ينسجم مع استعداد البدء بصفحه جديدة مع الزوج الذي طوى صفحة عبر غياب زمن لا يسمح تماما لاسيما للشخصيات الايجابية بالمزيد من الايجاب والمزيد من العطاء؟ كيف نفهم ذلك وهي تستمر في الصبر بل والتجاوز الى الحد الذي تمنح فيه الزوج العائد بكل سلبيته وانغلاقه، مبلغا كبيرا من المال (20 الف دينار) مما كونته بتعبها وهي تعلم انه سينفقه في زواج آخر!! كيف يستقيم ان تكون زوجه مضحية كتلك حفاظا على الاسرة، قاسية الى الحد الذي تبخل فيه على زوجها بعد احد عشرين من السجن حتى بحسن الاستقبال؟

وان ذلك يحفر أساس عقدة العمل كله وكأنه يقوم على عقدة مفتعلة خاصة وان الأحداث اللاحقة لم تسمح بمساحه من النقاش، او المواقف التي تعيد طرح القضية من جوانب اخرى، اذ انصرفت الام لمتابعة عملها وشؤون ابنائها وكان تغيرا محوريا لم يطرأ على العائلة، مع ان كثيرا منها كان مدخلا لطرح مكانه الأب في الاسرة على قضية البحث، ومثلما كانت خطوبة أسيل (ميسون خليل) واجراءات زواجها وحدها كانت كافية لإعادة تأسيس علاقات اسرية، كانت مشاريع قيس العاطفية مناسبة اخرى متكررة غير ان الاصرار على العقدة الاساسية دونما تبرير، كان مقتل هذا العمل وعلّته التي رافقته كل حوادثه؟

اما اذا تأملنا الحبكات الثانوية فستعزز ما ذهبنا اليه، اذ بقيت خيوطا لم تنسج مع جسد العمل الاساسي وفي العديد منها امتدادات بقيت سائبة ابرزها مثلا عقدة قتيبة (طارق الحمداني) شقيق خلدون (رياض شهيد ) خطيب أسيل، اذ ما تأثيرها بالفكرة الاساسية للعمل او تأثيرها في احداثه، وما تأثير شخصية كمر (خليل  الرفاعي) وعلاقته بعلوان او حتى بنهاية (عواطف ابراهيم) على حل إشكالات سيد البيت المركزية؟ وماذا اضافت مفردات حبكته لجسد العمل او افكاره؟ وحتى الحوادث التي كانت مؤهلة للتأثير في مسار العمل كمرض سندس (شعاع) مصدومة لعلاقات ابيها والوسط الذي يلتقي فيه وبمشروعه للزواج الثاني لم يوظف بما يكفي لإحداث تأثير ملموس بل مر لمجرد تأكيد سلبية سعدي (الاب) واهماله لشؤون اسرته رغم انه توقف لمركز قيادتها فعليا! وبمثل ذلك يمكننا ان نذكر ظروف اسرة خالة الابناء (عواطف السلمان) وزجها ثامر وابنتها بان (بيداء رشيد)، اذ بقيت عائمة في مسارها وانتهت.

 لقد شتت تلك الحبكات شحنة الفكرة الاساسية، خاصة وقد شهدت تمثيلا رتبيا لا يرتقي لنجاحات أبطاله وانفسهم مما أثقل على ايقاع العمل وبث به تجوالا في دروب لم تتصل بالمحطة النهائية.

فالمحطة النهائية، عودة الاب الى الاسرة، جاء اليها من خلال دروب لم تطرقها تلك الحبكات، اذ بدأ سعدي يتأمل واقعه الجديد من خلال تسلط شخصيته الذي لا يقارن بصبر وتضحيات خولة (ام الأولاد) وتتعزز  بانتباه بتأثير تلك المقارنة بين نهايته، مشروع زواجه الجديد، وبين خولة ام الاولاد، للعديد من لمسات الدفء والفخر في بيته واسرته فابنته سندس تعالج اسنانه مذكرة اياه بانها طبيبة اسنان، بكل ما في ذلك من مداعبة واثارة لمفاخر الاب، وخولة زوجته تتابع عنايتها بغرفته وملابسه .. وولده مستمر في احترامه له، وكل اولئك دعوة مستمرة وملحاحة  للعودة لأحضان هذا الدفء النظيف، فأين ذلك من الدوران في تلك الحبكات المفتعلة كحبكة كمر. او اين منها حبكة قيس وهبة (ميسون كمر) التي تنظف ابن السجين العائد دون حساسية من ماضي والده. لقد افتقدنا في (سيدة البيت) التمثيل المعبر، سواء تمثيل سامي قفطان او عواطف نعيم وعواطف ابراهيم وصادق علي شاهين، وحاصرتنا اللقطات المكررة، والزوايا اياها في ديكور ضيق محايد يصلح لأي موقف بل حتى ان المسلسل لم يحظ من المخرج (كارلو هارتيون) بتايتل مناسب، كما ان سلق الاحداث وتسريع حلها في الحلقة الاخيرة، ممارسة لتقليد مصري ليس من علامات الدراما المصرية الناجحة اصلا !

سيد البيت .. كان مشروع سهرة درامية بحلقة واحدة مؤثرة، اذا جردت من تلك الامتدادات، وتمت اضاءة جوانب شخصيتي الاب والام، غير انه ورغم كل ما قلناه، له حسنه تكرار الموضوعات اياها وحسنة كونه تحية حارة لنماذج النساء الايجابيات الصابرات. 

* لم تتضمن مسودة المقالة اي اشارة الى مكان نشرها وزمنه، فضلا عن عدم إمكان تحديد موعد بث المسلسل اول مرة.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM