مقالات  



قدّاس لفتح الله عزيزة

تاريخ النشر       27/02/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير

1
قد لا يبدو، عمل ثقافي قائم على الإتقان الطباعي وبلمسات نادرة من جماليات التصميم وحداثة الصورة وبراعة الخطوط، أمرا لافتا اليوم مع التطور المذهل لفنون الإخراج الطباعي والكتابي والصحافي، لكن أن يكون ذلك قبل نحو نصف قرن، فهو أمر يدعو للتقدير العالي.
هذا كان نتاج الأستاذ فتح الله عزيزة، صاحب "مطبعة الاديب البغدادية"، الذي قدم أجمل ما في الأصدارات الثقافية العراقية المستقلة خلال عقود. والتميز هنا لم يك في جمالية المطبوع وأناقته حد الترف، بل في شجاعة اصدار ثقافي مستقل بينما كانت الحكومات العراقية قد أممت التعبير الفكري والجمالي لصالح سياساتها ونسقها الحزبي المتحجر والمدمر. 

الراحل فتح الله عزيزة

هذا الدأب لا يكون إلا مرادفا لمعرفة عميقة والتزام مهني عال، وصدقية في التعاطي مع جمهرة من الكتاب والصحافيين، وهو ما واظب عليه الأستاذ عزيزة والذي رحل في العاصمة الأردنية أمس بعد ان صارت مقر عمله اثر مغادرته بغداد ومستقره الحياتي ونهاية مشواره أيضا. يكفي الرجل انه حوّل مكتبه الأنيق في الدار العجيبة تلك، إلى ملتقى ثقافي أسعدني الحظ بمعرفته عن قرب خلال سبعينيات القرن الماضي، فقد كانت زيارة أبي الطباعة العراقية الأنيقة والحديثة طقسا خاصا عند أخي ومعلمي قاسم عبد الأمير عجام، وحينها يبدأ الحديث بينهما حول آخر ما كتب أخي الراحل في "طريق الشعب" أو مجلة "الثقافة"، وغالبا ما ينتهي بأصدار مميز أو أكثر من الدار العامرة، كنت أقلبها بمزيج من الدهشة والرغبة العارمة بقراءة ما ضمه كتاب أنيق، ومن بينها ديوان لم أزل اعتبره أجمل ما كتب عن الحب في الشعر العراقي المعاصر، وأقصد ديوان "سيدة التفاحات الأربع" للشاعر الراحل يوسف الصائغ.
عن سيرة الأستاذ عزيزة المهنية الرفيعة ينبهنا الكاتب والصحافي الكريم ليث الحمداني إلى موقع الراحل واثره في المطبوع العراقي المعاصر وتأريخه:  "مع رحيل (ابو ليث) سقط آخراضلاع المثلث الذي كان يتسابق لانجاز مطبوع متميز في العراق، فقد رحل قبله يحيي ثنيان ومن بعده ناظم رمزي، اضلاع ذلك المثلث الذين كانوا يتفاخرون بنوعية المطبوع الذي يخرج من مطابعهم ".

2
ولأن الراحل الأنيق في سلوكه ونتاجه وفكره، هو نظام من الدأب الرفيع، فقد أورث ذلك النسق من الإداء الإنساني والثقافي والمهني إلى نجله الفنان الفوتوغرافي والطباعي الأستاذ هيثم فتح الله، والذي سعى ما أمكنه ما أجل ديمومة تلك الفرادة الثقافية التي حفرها اسم "دار الأديب البغدادية"، ففي سنوات قليلة كانت للثقافة العراقية، والمهاجرة منها على وجه الخصوص، فسحتها الأنيقة عبر اصدارات حرص الاستاذ فتح الله على ان تكون جديرة بانجاز مستحق لمبدعين عراقيين في الفن والأدب والفكر والتأريخ. وهو لفرط ما فيه من مزيج راق انسانيا ومهنيا، شرفني بطباعة كتابي "حنين بغدادي"، مثلما ظل حريصا على ان أدفع له بجديدي في الكتابة النقدية وعملي التوثيقي الخاص ببغداد من اجل طباعته، مستعيدا بذلك أرث والده المدهش حقا في ارثه الثقافي الوطني والمهني في اقامة صلة مباشرة مع اهل الكتابة ومبدعي الفنون في بلادنا.

3
يرحل الأستاذ الفاضل والعم الجليل فتح الله عزيزة عن 87 عاما، في وقت تبدو بلاده الشخصية بكل معالمها ومعانيها التي تمثلها بشرف وكرامة، وهي على وشك الرحيل نحو مجهول لا يعرفه أحد غير الرب الذي سيظل أسمه مباركا. 
لاستاذي وعمي الجليل شآبيب الرحمة، وقداس الحقيقة العراقية المغدورة يليق به المتواصل منذ سنوات صاخبة عنيفة، هو قداس شخصي للوطني الكبير معرفة وسيرة انسانية واناقة مهنية نادرة. 
كان الله في عون العزيز هيثم فتح الله، على رحيل الأب والصديق والمعلم.




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM