نقد أدبي  



عبد الله صخي يختم ثلاثيته الروائية بـكوابيس "اللاجئ العراقي"

تاريخ النشر       06/04/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير

بعد "خلف السدة" و"دروب الفقدان"، يختم الكاتب عبدالله صخي ثلاثيته الروائية بعمل جديد صدر قبل أيام عن "دار المدى"، يتعقّب مسارا هو الذي اتسمت به الحياة العراقية في العقود الأربعة الأخيرة: اللجوء، الغربة والنفي، انطلاقا من التتبع الشخصي لحياة، علي سلمان، أبن الفلاح الفقير المهاجر من جنوب البلاد إلى بغداد، والضاج بحياة لم يفارقها الأمل رغم عوامل الإنكسار والقهر.
ها هو  أبن "جيله الذي يعاني من دورة العنف السياسي، والتعذيب الوحشي في السجون، والحب الممنوع، والحرمان الجنسي، وانعدام الفرص، والقسوة، والانتهاكات، والاعتداء، وغياب التسامح، والعقاب العائلي بالضرب المبرِّح أو الحرمان من الطعام لأدنى هفوة. تلك الحياة المتوترة الجافة القاحلة تفقد المرء صوابه وتدفعه لارتكاب أبشع الأخطاء"، يقرر أخيرا وضع الحد لهذا المسار، فالأرض ضاقت والأحلام توارت، ولا بد من رحيل. 

رخص الإنسان ووحشيته؟
الخيار هنا لم يأت عبثيا، ومجرد مزاج فردي يائس، فقد "أدرك علي سلمان أنه لن يتمتع بالاستقرار طالما هناك ملاحقات أمنية ومضايقات سياسية تطال جميع الميادين وبشكل خاص الدراسية والوظيفية. وفكر أنه إذا فقد ثمانية شهور من حياته هذه المرة فربما سيفقد حياته كلها في المرة القادمة. من يدري أي تهمة جديدة ستوجه إليه؟ وقد يقضي فترات طويلة من دون أي اتهام أو تحقيق أو محاكمة! كم من المحتجزين والمعتقلين الذين لم يسأل عنهم أحد لسنوات؟ ما رآه داخل المعتقل أكد له رخص الإنسان ووحشيته". 
لنلاحظ هذا الوصف "رخص الإنسان ووحشيته"، فهو ينطوي على أبعد من التوصيف السياسي وحتى الآيديولوجي لقرار عراقيين كثر بالرحيل بعيدا عن بلادهم، انه نوع من القراءة الناقدة لطبيعة المجتمع العراقي كمنظومة أخلاقية وفكرية. هنا لا يقدم صخي تلك القراءة، كبيان رافض جاف وأقرب إلى المغالاة، بل جاء ممثلا لمسار شخصي في بطله الذي بدا أقرب إلى الفردانية، حتى وإن كان تحصيلا لفكرة آيديولوجية عامة وتنظيم سياسي (الجزب الشيوعي) ينظر بريبة إلى أعضائه ممن يتسمون بالحفاظ على تفسيرات شخصية للأفكار والسياسات.
صحيح ان وعيا جماعيا أنضج فكرة الهجرة التي" بدت له كأنها قدر مفروض على سلالته منذ أن ارتحل أجداده من أريافهم وقراهم وحقولهم وبطائحهم في الجنوب إلى بغداد، ثم إلى مدينة الثورة إحدى ضواحي العاصمة. والآن ها هو أحد أحفاد أولئك المستكشفين الأوائل ينوي القيام بهجرة جديدة، ولكن هذه المرة إلى ما وراء الحدود، إلى المجهول"، لكنها بدت طريقا فردية للخلاص بدلا من "البقاء والسير على حافة الجحيم"، فهاهو يفارق مكان أجداده ومستقر خيارهم، وها هو يفارق نظامهم الإجتماعي، الذي لم يبتعد كثيرا عن "رخص" الإنسان و"وحشيته".




نبوءات مبكرة
ما يلفت في رواية "اللاجىء العراقي"، انها تتضمن كشفا بنبوءات لا تتعلق بصخي شخصيا ككاتب وإنسان، ولا ببطله، بل بمسارات صارت ملازمة لمصائر مئات من أصحاب التجارب الغنية فنيا وفكريا وعلميا والذين اختاروا اللجوء، النفي أو الغربة، فقبل ان يغادر علي سلمان بلاده ، سأله صديقه واستاذه الروحي علاء شاكر إن كان راغبا في مواصلة دراسة الموسيقى معه، ليبلغ "إنه يشعر بأن أصابعه متخشبة، وأن عبثية اعتقاله وما عاناه خلال شهوره الثمانية حطمت شيئا في روحه"، ثم أبلغ أستاذه بنيته الهجرة إلى سوريا، ويأتيه الرد "سوف تظل تركض وراء لقمة العيش ياعلي وستفقد موهبتك الموسيقية". لندقق هنا في تلك النبوءة، عبر مصير موسيقيين ومسرحيين وعلماء وتربويين عراقيين، بدت تجاربهم خارج حاضنتها الإجتماعية الطبيعية اشبه بمحاولة زرع نخلة في ثلج السويد. تلك نبوءة جاءت بتلقائية شديدة، وسنجدها متصلة بأخريات نتعرف عليها عبر كوابيس حقيقية تحولت اليها حياة علي سلمان، وصولا إلى نهايته.
ليست التلقائية في رسم ملامح حياة علي سلمان مؤشر مهارة عبد الله صخي وحسب، بل تلك الإناقة المفرطة حتى في تعقب كيف تنزل الأحزان الشخصية (شظف العيش والفشل في الحب) والعامة (حروب البلاد وسجونها ووحشية نظامها الحكام في الداخل، وفشل الأفكار وخيبة الرهان على الدول المستقبلة للاجئين). الكاتب ولأكثر من مرة على امتداد روايته ( 192 صفحة من القطع المتوسط)، انتقل في صفحتين متقابلتين بمسارات بطله من مدينة الثورة (ببغداد) إلى غرف اللجوء الخانقة (دمشق) وصولا إلى وجوم رتيب ميز مستقره الأخير (لندن). ثلاثة أمكنة، ثلاثة حيوات ولكن ضمن تفاعل جعلها تحولات طبيعية لإنسان شقي. نعم حياة الشقاء هي حياة اللاجىء، لكنه هو من سعى إليها هو من اختارها حتى ولو كان مرتبكا "روحه شهقت بمرارة عندما أدرك أن بلاده توارت خلف الحدود، وراوده شعور يبعث على القلق بأنه سيواجه حياة صعبة وعرة". وتلك نبوءة أخرى تتحقق في مشهد اللجوء العراقي العاصف والمترامي.
ولنلاحظ ان الشعور الذي راوده " سيواجه حياة صعبة وعرة" وهو يعبر حدود بلاده إلى سوريا، يتأكد في عمله مؤسسة حكومية للحجر والمرمر، وليستعيد نذير استاذه وصديقه الموسيقي، وكأنه يساله "هل يعقل أن تقبل بقص الحجر وتترك الغناء"؟ لكنه لم يعر الصوت –السؤال-النذير، اهتماما، فثمة شعور ثقيل بات يسيطر عليه كليا ويشغله عن الغناء والموسيقى "شيء كالعطب يدفعه نحو العزلة الروحية". عزلة تعني في حقيقتها غياب الإحساس بالجدوى والفاعلية الإنسانية.

خيبات الآدمي 
ولأنه من النوع المجبول على آدميته وإن بدا في أصعب الأحوال، رفض خيانة من أحب، فحبيبته (رفيقته) تمكنت من الوصول إلى لندن قبلها وبعد ان "اجتاحت جموع العراقيين المقيمين في سوريا حمى الهجرة إلى أوروبا"، ورغم وهج الغواية وفتنتها (دمشقية جميلة) تعرف عليها من خلال صحبة أصدقاء عراقيين وسوريين. لكن ذلك الوفاء المنسجم مع الحب والفكرة وشراكة المصير، انتهى خيبة تامة اثر تحول ظل مجهولا من قبل الحبيبة – الزوجة حين اجتمعا مرة أخرى في لندن، وانتهى بطلب الأخيرة للإنفصال.
وحتى حين قرر لاحقا الإستسلام لغواية الدمشقية الجميلة (صارت مضيفة في خطوط جوية عربية واتصلت به حين وصلت إلى لندن، بعد انفصاله عن زوجته، لم يجد غير الخيبة حين رفضت استعداده لمغامرة عش، فـ"كان لذلك الموقف وقع مأساوي عليه، فتسمر في مكانه محاولا التغلب على الشعور بالخذلان. لم يعد أمامه أي أمل، لم يعد أمامه سوى الخيبة. كاد يبكي. أحس أنه ضعيف، أطرافه مشلوله وقلبه يتشظى".
وقبل خيبته عاشقا وفيا مخلصا، ثمة خيبته من السياق الفكري- السياسي التي بدت وكأنها خيبة من الرهانات الشعبوية والثورية، وخيبته الأصلية من وطنه إذ هو "بلد تذروه الرياح".

التعبير الأنيق عن الفجيعة!
وما يحسب لعبد الله صخي كمهارة أسلوبية في السرد وتعبيرية عالية في اللغة، ذلك النسيج المتناغم حتى وإن كان دالا على نقيضين، كأنه يكتب بأناقة بالغة وكثافة عميقة حتى عن أكثر المشاعر قسوة وظلما وبشاعة. خذ هنا الكتابة عن مشاهد الشظف وهو طفل في صرايف منطقته، وكيف تحول "الغنى" الشعوري إلى معادل موضوعي لـ"فقر" المكان والأحوال.
والسياق الكتابي هذا يتواصل مع رسم حياة علي سلمان في دمشق، وما يتصل بها من اشتعالات وانكسارات في مكانين متصلين بها: بيروت وعدن (كلاهما من مراكز المنفى الشيوعي العراقي)، حتى يغدو أكثر صفاء وانسجاما في لندن، بل يكاد في نعومته ان يصبح خافت النبرات ضمن ملامح مختزلة بعناية "لم يكن ضعيفا عندما طرحت خوله عليه الانفصال كقرار نهائي، بل على العكس كانت لديه القوة الكافية للمواجهة وعدم الاستسلام. وشيئا فشيئا تحول الإحساس بالوحدة إلى نوع من السرور والرضا لما آلت إليه علاقته بها".

صدق النبوءة ... كابوس الحقيقة
تتأكد نبوءة علي سلمان في ان قراره باختيار المنفى وكأنه الحكم عليه بالفناء "خيّل إليه أن تلك الخطوات الأولى على طريق المنفى ربما تقوده إلى حتفه"، وتتحول تلك الفكرة التي حاول نسيانها في الخطوات الأولى له بعد تجاوزه حدود بلاده أول مرة، إلى حقيقة رغم محاولته نسيانها، فهاهو يوهم نفسه انه "يعاني من تعب، مجرد تعب وسيزول" خلال مشوار مع جارته الشابة في لندن " مشت معه. خشيت عليه من السقوط فسحبته ليتكئ عليها. أدخلته الغرفة وجلسا على أرضيتها متجاوريْن مستنديْن بظهريهما إلى السرير. وضعت رأسها على كتفه. اقترحت أن تأخذه إلى الطبيب. لم يجبها بل تحدث بكلام متصل باللغة العربية عن النهايات: نهايات الليل، نهايات النهار، نهايات المخلوقات، نهايات الحب، نهايات الهجرات، نهايات الطرق، ثم تحدث عن الألم الكبير الذي يسحق روح الإنسان في كل فصل من فصول تلك النهايات".
أظن ان عبد الله صخي صاغ عملا صادقا ومشعا بدفقه الإنساني عن أحلام "اللاجىء العراقي" أو كوابيسه، فضلا عن ذلك الأسلوب المتسم بالأناقة التصويرية والتعبيرية في آن، بما يجعل تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي أمرا يسيرا حيث التقطيع الحاذق لمشاهد الأمكنة والنفوس حتى وإن امتدت لتطاول مسارات البلاد و مصائر العباد.  



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM