"رسائل من العراق" لرحيم الحاج: النغم الرفيع صدقا وجمالا

تاريخ النشر       07/05/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير
أن تعبر عن مضمون إجتماعي في الموسيقى، فذلك عمل تكتنفه الصعوبة، فلطالما كانت الأنغام عملا أقرب إلى التجريد، وبالكثير فهي تعبيرية أو تصويرية تقترب من الإيحاء وتبتعد عن المباشرة، فكيف الحال اذا كانت معنية بالتعبير عن شجون العراق العميقة والمفتوحة على فصول من مراث ومآس وآمال بالكاد تحاول التقاط أنفاسها؟
هذه الأسئلة وغيرها، تثيرها أسطوانة عازف العود والمؤلف الموسيقي العراقي المقيم في أميركا، رحيم الحاج، والتي حملت عنوان "رسائل من العراق"، وصدرت حديثا عن "سيمثسونيان فولكوايز" Smithsonian Folkways  المؤسسة الثقافية والفنية الرفيعة، وهي تندرج في المهمة الأصعب التي اشرنا إليها أعلاه، فثمة رسائل تكشف تفاصيل روحية عبر قصص غير متداولة خلال سنوات الحرب الطائفية الدامية.  

الغلاف الأول لإسطوانة "رسائل من العراق" بلوحة من التشكيلي رياض نعمة

ما الممكن ان يفعله المؤلف الموسيقي هنا؟ قطعا تبدو المداخل ضيقة، لا سيما في حال أراد لأنغامه ان تكون متموضعة حقا وليست محلقة في تجريد عال، ويكتفي بان يقرنها بعنوان واقعي كما فعل وقد يفعل غيره من مؤلفي الموسيقى العراقية والعربية المعاصرين؟ 
هنا أختار صاحب الأسطوانات التسع، والوحيد عربيا ممن رشحوا لأرفع جائزة موسيقية عالميا (جائزة غرامي)، ان يذهب إلى أسلوب يمزج بين التصويرية والتعبيرية، كي يصل لما ابتغاه من رسم ملامح غير متداولة عن سنوات الفرن العراقي الملتهب: سنوات الحرب الطائفية، وما أعانه في توصيل رسالته، الكتيب الغني بالمعلومات عن المقطوعات الثمان التي تتكون منها الأسطوانة، والذي زاد غنى وجمالا تصميم الغلاف واللوحات من قبل التشكيلي العراقي العميق في لونه وتكوين عناصر لوحته الإنسانية، رياض نعمة. 

الغلاف الثاني لإسطوانة "رسائل من العراق" بلوحة من التشكيلي رياض نعمة


حب في مدينة لا تعرفه
في المقطوعة (الرسالة الأولى)، والتي حملت عنوان "حب شرقي- سنان" حكاية فتى شيعي في حي تسكنه غالبية من طائفته ويقع في حب فتاة من عائلة سنية تجدها نفسها محاصرة بحرائق الكراهية والتهديدات الجدية بالقتل. ترحل العائلة ويظل الفتى العاشق حيال جذوة الحب وهي تتقد كلما مر أمام منزل حبيبته المهجور. موسيقيا، وهو المهم، كيف صاغ الحاج تلك الحكاية نغميا؟ أنه يحسن صعنا مرة أخرى بالذهاب إلى خيار الفرقة الموسيقية الصغيرة لتنفيذ مؤلفه النغمي، بل هي في شكلها أقرب إلى استعارة شكل "موسيقى الصالة" المعروف غربيا وجعله شرقي الهوى، فضلا عن ذلك، أنه لعب على قالب "السماعي" وهو أعرق أشكال التأليف النغمي الشرقي، أي ان الحاج أحال الموضوع إلى جذوره الشرقية- العراقية، ثم جاء ليغني جمله الموسيقية وعبر فرادات في العزف، فالشجن جاء من تقاسيم على العود، والوتريات (الكمانات والفيولا والتشيللو) حملت موجات متدفقة من الشجن والتأسي العميق.
في المقطوعة (الرسالة الثانية) وحملت عنوان "عشق محظور- تيما"، نتابع حكاية مماثلة: "لم يعد يستطع رجل شيعي وعشيقته السنية أثناء العنف الطائفي ان يشاهدا بعضهما.......". هنا لعب على الماضي، على منصات الالم، عبر لحن تصويري عماده حوار بين العود والكمان، كأنما هو حوار بين طرفي العشق المحظور، دون ان ينسى المؤلف استخدام شيء من ثيمة لحنية عراقية شعبية "مروّا عليّ الحلوين" وتنفيذها عبر العود بوصفه ساردا ومعبّرا، ومن ثم العودة إلى الفرقة كأنها في نشيدها الجماعي تؤكد انتصار قيم الحياة المتداخلة والمتدفقة على وقائع ظالمة يصبح معها الحب محظورا.
ومن المقطوعات (الرسائل) التي جاءت نغما صافيا آسرا، تلك التي حملت عناون "آخر مرة يطير فيها الحمام-رياض" وهي مرة أخرى عن الوقائع السود التي عنته حياة العراقيين في الحرب الطائفية ومواسم العنف والإرهاب المتواصلة منذ سنوات، حد انها بدت عن فضاءات وسماوات غادرتها الحمائم الفزعة على امتداد تفجيرات تبدأ ولا تنتهي... وبين الحمائم الفزعة ثمة حبيبان مرعوبان أكثر من الحمام ذاته. في المقطوعة يصفو النغم على مدى دقائق كأنه يقطّر الحكاية تقطيرا، بالأثر المتأسي للايقاع البطىء والأوتار النائحة في تصوير ما الذي تعنيه مدينة القلوب الكسيرة.

وهم الأمل وحقيقة الكابوس
وفي مقطوعة "السفر إلى الوطن- رحيم" حكاية مزدوجة هي عن رحيم الحاج المؤلف والعاز،  مثلما هي عن التشكيلي رياض نعمة صاحب الحضور المتوهج عبر لوحات مختارة في الكتيب المرفق بالإسطوانة، وتصح أيضا لتصبح المقطوعة المعبرة عن آلاف كانوا على يقين من انهم سيكونون على موعد مع وطن حقيقي ينهض بعد الديكتاتورية (تمهيد ناعم ثم نغم آسر)، واذا بيقينهم يتحول كابوسا حقيقيا أولا ثم وهما تضيع معه أو تكاد حتى مشاعر الحنين (نغم أقرب إلى قالب السماعي، بروحية معاصرة، هي خليط من الماضي المنسجم مقابل العصر حيث انكسارات اللحن المقصودة وتقاسيم عود حائر).
وتكاد المقطوعات الثلاث الأخيرة "ليلى"، "فاطمة" و"زينب" تنهل من نبع واحد لجهة الاحتفاء بالحياة مع كل ما فيها من حلو ومر، لا عبر قصص فتيات عراقيات وحسب، بل عن أفكار شابة تتوثب رغم أسيجة الموت والقمع التي لطالما كانت حاضرة في عراق ما قبل 2003 وحاضرة أيضا بعده، إن لم تكن قد أصبحت أكثر صلافة وقبحا. انها ثلاث مقطوعات بايقاعات رشيقة، الكمان المنفرد كأنها يغني، الخلفية الإيقاعية الرشيقة وشبه الثابتة كأنها ترجمة لمسار الحياة، فيما تنويعات اللحن بحسب الآلآت التي يعزف عليها الخماسي المكون من (عازف الكمان الأول آي ديفيد فلبرغ، عازفة الكمان الثاني، روكساندرا ماركواردت، وعازف الفيولا شانتي راندال، وعازف التشيللو جيمس هولاند، وعازف الكونتر باص جان لوك ماتون، فضلا عن ضارب آلات النقر عيسى معلوف)، تبدو وكأنها الأحداث الصغيرة الدالة على مفاجآت ومباهج حتى لو كانت صغيرة.
واذا كان الغنى في تأليف المقطوعات والصدق التعبيري حاضرين بقوة في عموم إسطوانة "رسائل من العراق" فان التوزيع الذي تولاه زاك كير، لم يكن على الدرجة ذاتها من الحذاقة التي جاءت عليها الألحان، وكانت تلك الأعمال ستغدو اكثر عمقا وتأثيرا لو كان هناك موزع يعرف اللحن الشرقي وجوهره، بل حتى من اولئك الذين يوزعون الألحان الخاصة بالجاز الحديث.
رحيم الحاج في عمله الجديد يتقدم بجرأة وشجاعة الى حقل التأليف الموسيقي للأوركسترا (حتى لو كانت صغيرة) دون ان يتوقف عند هالة شخصية اسمها العزف المنفرد على العود، وهو بذلك يؤكد يجسّر الهوة بين ثقافات العالم المختلفة.

*للمزيد عن رحيم الحاج راجع جزءا من فصل (عازفون مؤلفون) ضمن كتاب علي عبد الأمير الجديد "رقصة الفستان الأحمر الأخيرة- سبعة عقود من تاريخ العراق المعاصر عبر الغناء والموسيقى" الصادر عن "دار المتوسط". والكتاب متاح للتسوق الإلكتروني على موقع "النيل والفرات".
http://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=lbb288072-273989&search=books





  





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM