زكريا يوسف.. الجدية تخسر دائما في الثقافة العراقية

تاريخ النشر       18/05/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير

تكفي قراءة استعادية لجهود شخصيات عراقية على هامش السيرة الثقافية المكرسة في بلاد السياب، لوضعنا أمام هشاشة تلك السيرة وتهافتها وضجيجها العالي، فهي أقرب إلى أن تكون سيرة الخداع والتضليل، بمقابل التنكر للجهود الأصيلة والمعمقة، وبالذات تلك التي تأتي من شخصيات خارج الأنساق الفكرية والعملية التي اعتمدتها المؤسسات الثقافية لأنظمة الحكم في العراق المعاصر ومعارضاتها أيضا.
شخصيا، بدأت التنبه إلى عمل دؤوب وجوهري في الثقافة بدا دائما خارج السيرة المكرسة لنتاج أدبي وفني وفكري في بلاد طه باقر، منذ أن بدأت اهتماما شخصيا قارب الشغف بكل ما يتصل بالذاكرة الوطنية العراقية. وخلال بحثي طوال سنوات عن تفاصيل الحياة الموسيقية في العراق المعاصر، تنبهت إلى أحداث بارزة شهدتها بغداد معنية بالجوهر الثقافي التأصيلي للنغم الموسيقي، فثمة:
*مهرجان الذكرى الألفية لمولد "الشيخ الرئيس" ابن سينا، المنعقد في بغداد للفترة من 20-28 آذار/مارس 1952.

*مهرجان الكندي المقام ببغداد 6 كانون الأول/ ديسمبر 1962.

*المؤتمر الدولي للموسيقى العربية في بغداد للفترة من 18 تشرين الثاني/نوفمبر – 25 كانون الأول/ ديسمبر 1964.
وما يبدو قاسما مشتركا في المهرجانات الثلاثة البارزة، كان الباحث والفنان الموسيقي العراقي زكريا يوسف. فمن هو؟ 
للمرة الأولى التي توقفت فيها عند اسم الباحث زكريا يوسف، كانت خلال مقابلة أجريتها العام 2000 في القاهرة وعلى هامش مؤتمر الموسيقى العربية السنوي بدار الأوبرا المصرية، مع الفنان والباحث الموسيقي باسم حنا بطرس، الذي قال ان باحثا عراقيا مرموقا ولكنه منسي، هو الراحل زكريا يوسف كان له الفضل في انجاز أهم حدث عاشته الموسيقى العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، في إشارة إلى "المؤتمر الدولي للموسيقى العربية" المنعقد ببغداد 1964.

مؤلفاته التي لم تنشر حتى الآن؟ 
والمرة الثانية كانت عبر تفاصيل جوهرية عن جهد "الباحث الأصيل" زكريا يوسف، وهو كذلك حقا، عبر جهد كريم قدمه الأستاذ مهيمن الجزراوي، وجاء على نقيض ما تقدمه المدونات الثقافية والموسيقية العراقية الرسمية، فينصرف للبحث عن أثر الراحل الكبير وبكونه "رائدا في مجال البحث الموسيقي الأكاديمي في العراق المعاصر، وترك بصماته على مسيرة الحركة العلمية، ورفد المكتبة الموسيقية بعدد زاخر من المؤلفات القيمة، ومن المؤسف حقاً تشتت أعماله التي طواها النسيان، وعلى وجه الخصوص مؤلفاته المخطوطة التي لم يتم طبعها ونشرها حتى الآن، من خلال دراسة سيرته الذاتية والفنية وتوثيق مسيرتها المتزامنة مع مسيرة تطور البحث العلمي الموسيقي في العراق لفترة تربو على نصف قرن من الزمن، وأفنى حياته على مهمة جمع مخطوطات الموسيقى العربية المتناثرة في مختلف مكتبات دول العالم وعمل على تحقيقها وشرحها ونشرها".

*ولد (زكريا يوسف توماشي) في مدينة الموصل عام 1911. 
*في العام 1917م، دخل مدرسة "شمعون الصفا" الابتدائية (تابعة للكنيسة الكلدانية وتديرها مجموعة من الراهبات) ، وفيها كان عضو فرقة للموسيقى والإنشاد، ضمت أيضا زميله الذي سيغدو فنانا مرموقا، هو سعيد شابو. في تلك الفرقة تعلم العزف على آلتي الترومبيت والترومبون الهوائيتين، ولتبدأ من هناك رحلة مع الموسيقى، ستكون مثالا على جدية وأصالة لا تحتفي بهما تيارات الثقافة العراقية السائدة، والمجبولة على ذل السلطة والقوة والتملق إليها.
*في العام 1926  يبدأ الدراسة في "دار المعلمين الابتدائية" ويدرس النشيد على يد الاستاذ نوري ثابت (صاحب جريدة "حبزبوز" الناقدة الساخرة الشهيرة حينها). وبمعونة منه تم تاسيس فرقة موسيقية غنائية اطلق عليها "فرقة دار المعلمين الابتدائية"، وتألفت من: سعيد شابو (ترومبيت) ، لويس فرنسيس (آلتو)، زكريا يوسف (ترومبون)، يعقوب عبد المسيح (كونترباص)، وخليل حنا (باريتون).
لنلاحظ اننا في بغداد وخلال عشرينيات القرن الماضي، وثمة شبان يتعلمون باندفاع وجدية فنون العزف على آلات أساسية في موسيقى مجتمعات متقدمة وتشكل عماد فرقها الأوركسترالية.  
*في العام 1929، أنهى دراسته وحصل على شهادته معلما، إلا ان هذا لم يمنع تعلمه العزف على آلة الكمان باشراف الموسيقار صالح الكويتي.
*في العام 1944، أصبح طالبا في معهد الفنون الجميلة (القسم الغربي) لدراسة آلة الكمان، وتتلمذ على يد الأستاذ الروماني الشهير ساندو آلبو، وفي نفس الوقت كان يقوم بتدريس مادتي مبادئ الموسيقى النظرية وتاريخ الموسيقى العربية في (القسم الشرقي) للمعهد،  وهو ما صار لاحقا مساره المعرفي والمهني الأكبر، ففي العام 1951م أصبح معاونا لرئيس القسم الشرقي آنذاك الموسيقي الحلبي المعروف الشيخ علي الدرويش. وفي الفترة ذاتها، يقدم محاضرة موسيقية في المعهد الثقافي البريطاني، ما ستلبث ان تصبح ممرا لتحصيل دراسي عال.
*في عام 1952م شارك كباحث موسيقي في المهرجان الألفي لذكرى مولد "الشيخ الرئيس"، ابن سينا، المنعقد في بغداد للفترة من 20- 28 آذار/مارس 1952. وفي العام ذاته سافر عبر بعثة وزارة المعارف إلى انجلترا للدراسة على يد المستشرق المعروف هنري جورج فارمر.
*في عام 1955م عاد زكريا يوسف كأول موسيقي عراقي يتحصل على شهادة أكاديمية عليا، وتحديدا من كلية لندن للموسيقى، فضلا عن اكتساب أفكار وخبرات جديدة، كان يأمل تطبيقها عند عودته لقسم الموسيقى في معهد الفنون الجميلة، ليجد نفسه معزولا ومحاصرا من قبل "حرس قديم" لينتقل الى "كلية الملكة عالية"، استاذا لمادة النظريات الموسيقية في قسم الفنون، ليتفرغ للبحث العلمي الموسيقي والكتابة والتأليف وتحقيق المخطوطات الموسيقية، ليتقاعد عن العمل الرسمي 1961.
*في عام 1962 شارك باحثا موسيقيا في "مهرجان الكندي" المقام في بغداد، عبر تحقيقه لرسائل مخطوطة ونادرة للكندي، تم طبعها واصدارها في بغداد بالتزامن مع أيام المهرجان.  وفي مقدمة كتابه "مؤلفات الكندي الموسيقية"، يكتب "هذه مجموعة رسائل أقدمها اليوم للقراء إيفاء لوعد قطعته لهم قبل سبع سنوات. لقد كان في نيتي تحقيقها ونشرها منذ ذلك الحين، لولا ظروف قاسية أثّرت في صحتي، فمنعتني من انجازها، وانجاز غيرها من مثل هذه الآثار النفيسة، التي صرفت جهدا ليس بالقليل في التنقيب عنها والحصول عليها.

مجموعة طوابع خاصة بـ"مهرجان الكندي" بغداد 1962

*للفترة من 18/11 – 25/12/1964 انعقد المؤتمر الدولي للموسيقى العربية في بغداد، وتم انتخاب الباحث زكريا يوسف ليكون رئيسا للوفد العراقي المشارك، وأمينا عاما للمؤتمر، الذي أقرّ تنفيذ فكرة زكريا يوسف بتأسيس "مجمع عربي للموسيقى" وهي الفكرة ذاتها التي خلص إليها المؤتمر الأول للموسيقى العربية في القاهرة 1932، لكنها انتظرت 32 عاما كي ترى النور عبر عمل شجاع وفكر عميق للباحث العراقي. 

مجموعة طوابع خاصة بـ"المؤتمر الدولي للموسيقى العربية" بغداد 1964

*ولأنه ينتمي إلى الجدية وهذه كفيلة بقتل صاحبها في الأوساط الثقافية العراقية، عرض الباحث، زكريا يوسف، مكتبته الشخصية النادرة والضخمة للبيع الى "دائرة الفنون الموسيقية" التابعة لوزارة الثقافة والإعلام، حين كان الراحل، منير بشير، سيدا وآمرا ناهيا ليس في الدائرة وحسب، إنما في عموم المؤسسة الثقافية الرسمية، من أجل توفير ما يسد نفقة إجراء عملية جراحية، علها تؤجل قدره المحتوم، حين توقفت كليتاه عن العمل، ليرحل عن دنيا قاسية فظة على قلب كقلبه المؤمن وعقل كعقله الجميل، وذلك في 24 حزيران عام 1977م ببغداد.
*عن سيرته التفصيلية باحثا رصينا في فنون الموسيقى العربية وآثارها، ستكون لنا وقفة أخرى.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM