مع سلطان الخطيب في الطريق إلى "كارمينا بورانا"

تاريخ النشر       03/10/2017 06:00 AM


علي عبد الأمير

في العام 1991، وبعد أن كسر ظهري في "أم معارك" الطغيان، بل كسر ظهر البلاد، كنت قررت تهيئة أحوالي كي أغادر إلى غير رجعة، وكتبت عن تلك الفترة نصا حمل عنوان " ينبغي أن أنسى" ومنه:
النوافذ المضاءة المسدلة الستائر/ أحبها دائما وقد غسلها مطر مفاجىء/ مطر من سماء جديرة/ بأن ترسل رخاما/ وتجعلني أعود الى مهمتي في إعلاء شأن الصخرة/ الصخرة التي سقطتى على حياتي/ وبعثرتني باحثا عن فضاء مبعثر يشبهني/ هي سنوات لا سحر فيها ولا غواية/ هي نظم في الوهم/ وهي تأويل ذكي
لابتسامة فاترة على شفتي/ ينبغي أن أنسى/ ينبغي أن أضم أصابعي الى راحة يدي/ ينبغي ان أنسى صورتها مبسوطة/ وأفرح بها مكتومة ومتيبسة/ ينبغي ان أنسى رائحة الطين/ وتهدج روحي/ ينبغي ان أنسى/ هذه الأرض ليست لي/ وضاقت بي قدر ما ضقت بها"، قرأته في أمسية باتحاد بابل، وحضرها أخي الحبيب ومعلمي قاسم عبد الأمير عجام، ووقع النص عنده، وقعا مؤذيا فقد عرف ان رحيلي بات أمرا قريبا. لم أتوقف عن متابعة ملامحه حين راح ينظر عميقا عبر نافذة كان قد جلس قريبا منها، وكأن شعوره بالوحدة والغربة راح يتكثف أكثر مما كان عليه، حتى وإن تحايل عليه بجدية العمل الوظيفي والكتابة النقدية والعلمية.
سافرت في أواخر العام ذاته إلى الأردن في عمل تجاري صحبة زوج شقيقتي، ثم مرة أخرى في بداية العام 1992، وخلالها رتبت الخطوات الأولى للرحيل وكيف ستكون الإقامة في عمّان. بقي شيء متعلق بالعمل لم يكتمل وكان لابد من سفرة أخرى لم تتم، حين وجدت نفسي ممنوعا من السفر. هنا عاد عنوان النص "ينبغي إن أنسى"، وكأنه صفعة ولكن أنسى ماذا؟ البقاء وقد صار إجباريا أم الرحيل وقد صار مستحيلا؟
عدت إلى عملي كطبيب بيطري، ونشطت في اكمال مشوار تخصصي في أمراض الدواجن، وبسرعة لم أتوقعها تحسنت تجربتي العملية والعلمية فضلا عن تحصلي على عائد مالي كان ممتازا قياسا بمحنة الناس في الحصار، حتى وإن كان في أيامه الأولى. مثلما عدت إلى الكتابة والنشر، وضمن ميداني الأحب إلى روحي: نقد الموسيقى العربية والغربية، وتحديدا جديدها (الأسطوانات والمجلات الأجنبية) والذي كنت أحصل عليه عبر أصدقاء أردنيين وفي مقدمتهم الناقد السينمائي ناجح حسن.

"موسيقى.. موسيقى"
في وسط تلك الحمى العجيبة، طرق باب بيتي، الصديق عازف العود والمؤلف الموسيقي نصير شمّه، الذي كنت رافقت تحولات جوهرية في تجربته عزفا وتاليفا منذ أن تعرفت عليه أول مرة ببغداد 1986 حين كان مقد طبع بقوة حضوره في المشهد الموسيقي والفني العراقي رغم سنواته التي تجاوزت العشرين بقليل. وعلى الفور قال: هذا مشروع لا تراجع فيه: ستكون معي في برنامج تلفزيوني سيحمل اسم "موسيقى موسيقى" ومعنا سيكون عازف البيانو سلطان الخطيب. أنت ستتولى تقديم الرصين في الموسيقى الغربية المعاصرة، والخطيب سيعرض للموسيقى الغربية الكلاسيكية، فيما ستكون الموسيقى الشرقية والعربية من حصتي. على الفور قلت لنصير:" هل أنت تحلم.. برنامج موسيقي رصين في هذا الزمان؟ ومن يضمن هذا"؟ وجاء الجواب: "المخرج القدير فيصل الياسري، فهو صاحب الدعوة لتقديم البرنامج وعلى الأرجح فأنت تثق بالرجل"، فجاء ردي بالإيجاب، واتفقنا على موعد للذهاب إلى مبنى التلفزيون لإجراء أول الاختبارات وكان أمام مخرج البرنامج الفنان ناصر حسين، والذي سألني "ماذا ستقول في تقديم فقرتك"؟ ولا أدري كيف ارتجلت كلمة تبدأ "هنا سنتعرف على ملامح غير معروفة عن النغم الغربي المعاصر.." وقبل أن أكمل قال الرجل: "هذا يكفي .. بداية موفقة".

Harp of the Sumerian Queen
أخترت في الحلقة الأولى تقديم أغنية "ملكة سومرية" لفريق الروك العراقي "May Be"،


وهي امتازت حينها بتقديم الهوية الثقافية والحضارية الرافيدنية عبر نص بالانجليزية، وتشاء الصدفة ان يكون مغني الفرقة، مروان بغدادي، قد بدأ عمله كمساعد مخرج متدرب مع البرنامج، غير ان المخرج الأستاذ ناصر حسين، وبعد ان توطدت علاقتي به، وزرته في بيته، للسؤال عن أحوال شقيقه الفنان ناصر حسن، وأحد الموسيقيين الذين أثروا كثيرا في ذائقتي خلال السبعينيات، كان قد غادر بغداد متوجها إلى كردستان التي كانت قد خرجت من سلطة الحكومة المركزية، كأنه يذكرني بالنداء- النذير ذاته في نصي الشعري "هذه الأرض ليست لي"؟ كأنه يسألني: متى رحيلك اذن؟

وسيم أنيق وسط غبار الأرشيف!
في تلك المرحلة التمهيدية من البرنامج، التقيت الفنان شاكر حامد الذي كان يقوم فعليا بواجب مساعد مدير التلفزيون، ليخبرني بضرورة ان أبحث في أرشيف التلفزيون عن مقاطع غنائية وموسيقية تفيد فقرتي في البرنامج، فأخبرته أين هذا الأرشيف، فأشار إلي نحو "بنكلة" كئيبة بالكاد يتخللها الضوء وفيها أكوام من الاشرطة التلفزيونية القديمة الطراز، ووسط هذه الأكوام التي كانت تحمل بعضا من دمار القصف الجوي الرهيب على بغداد 1991، كان شاب وسيم انيق بملامح كلاسيكية رصينة، ينشغل بجدية في البحث بين الأشرطة وعلبها الضخمة، انتبه إليّ وتقدم نحوي قائلا: أنا أعرفك جيدا، أسمي سلطان الخطيب وسأكون معك في البرنامج الموسيقي المنتظر.

نصير شمة، علي عبد الأمير وسلطان الخطيب بعد تسجيل حلقة من برنامج "موسيقى موسيقى"

وبحسن تقدير عال، يدل على فطنة وتهذيب، ومن أجل أخراجي من حال الذهول التي كنت عليها وسط تلك الفوضىى، دعاني الخطيب إلى مرافقته نحو آلة مونتاج في وسط ذلك المكان العجيب، وقال انه سيريني مقطعا عمل على تقطيعه، هو قراءة للعمارة الأوروبية وأساليبها من القوطية حتى المعاصرة، وفق عمل أوبرالي قال ان اسمه هو "كارمينا بورانا". هالني ما شاهدت وسمعت: كل مقطع غنائي يقابله نمط في العمارة، وتغيير في الصور وفق تناسق مع ايقاعات الأنغام، وهو ما كان في حينها مستوى متقدما من قراءة الموسيقى بوصفها معادلا موضوعيا لغير نتاج ثقافي. حينها عرفت انني حيال مهمة جدية، وليست مجرد نصف ساعة تلفزيونية من التسلية.

ويقول الكاتب والباحث الموسيقي والروائي علي الشوك عن "كارمينا بورانا" إنها "كانتاتا (مغنّاة) للموسيقي الألماني كارل اورف (1895-1982)، يستغرق إداؤها زهاء ساعة، وتجمع بين الموسيقى، وغناء الكورس، والسوبرانو، والتينور، والباريتون، وغناء الأطفال. الاوركسترا تضم مئة عازف، والكورس يضم مئتي مغنٍ ومغنية، وغناء خمسين طفلاً، الى جانب الأصوات المفردة. هذه الكانتاتا تعد واحدة من بين أجمل الإنجازات الموسيقية في القرن العشرين. إنها تخاطب أرقى المستمعين وأبسطهم بإيقاعاتها الموقظة للحواس، وكلماتها المثيرة: ان سيدات الجمعية الكورالية يصرخن: «إذا كان القدر يضرب الرجل القوي، فإن الكل ينتحبون معي». أو إذا كان مزاجهن أكثر مرحاً: «فإن عذريتي تجعلني لعوباً، وسذاجتي تطوقني. آه، آه، آه، أنا أقبل على الحياة بكل إندفاع». كل هذا في حين ان الرجال المرتدين جاكيتات السهرة يغنون أغنيات فاسقة وهم سكارى…. على أية حال، تلك هي كارمينا بورانا".

مولع بـ"كارمينا بورانا"
الولع الذي أورثني إياه سلطان الخطيب بهذا العمل الفريد، دفعني بعد نحو عام من استخدام لحنها الافتتاحي الرهيب ضمن منتخبات من مؤلفات موسيقية بعضها كلاسيكي والآخر معاصر، كموسيقى تصويرية لعرض مسرحي (هو الأول في سيرة المخرج كاظم النصار) بعنوان "حياة مؤجلة" عن نص الشاعر والمسرحي الالماني هاينريش بول، وأعدها الشاعر والناقد المسرحي عبد الخالق كيطان، وقوبلت تلك التجربة باستحسان الوسط المسرحي والثقافي العراقي، مع ثناء خاص على الموسيقى التصويرية التي استخدمت فيها ولأول مرة في المسرح العراقي، تقنية الموسيقى الرقمية، حيث احضرت أجهزتي الشخصية من اسطوانات مضغوطة وآلاتها الخاصة فضلا عن مكبرات الصوت الضخمة التي وفرت معالجة موسيقية نقية الصوت وهو ما بدا غريبا على العروض المسرحية.
وبالعودة إلى سر هذا العمل الموسيقي- الغنائي، يتساءل علي الشوك "لماذا اكتسبت كارمينا بورانا شعبية"؟ ليجيب لاحقا "عمل موسيقي حديث ينتمي الى القرن العشرين، لكنه بسيط في هارمونيته، على خلاف معظم الموسيقى التي تم تأليفها في هذا القرن. إن الايقاع الرئيسي والروائع الموسيقية الأساسية تتيح للمستمعين بأن يتجاوبوا على الفور. في إطارٍ ما يبدو العمل بربرياً ووثنياً وشديد الإقناع. إنه مقدمة مذهلة للموسيقى الجادة، وعلى وجه الخصوص لأولئك الذين يفكرون بصورة جادة أو يعتقدون الموسيقى «الكلاسيكية» مضجرة ورتيبة". وهذه قراءة موفقة للغاية بل تبرر حقا تلك الشعبية الكاسحة لذلك العمل النادر الذي يعرفه كثيرا عبر السماع لكن دون معرفة تفاصيله ولا قدرته التعبيرية العالية: تلك القدرة التي جعلت سلطان الخطيب يتفنن في مونتاجها التصويري عبر اساليب العمارة الأوروبية، مثلما جعلتني اراها قراءة موسيقية لاحداث مسرحية عن الاغتراب الانساني كما في عرض "حياة مؤجلة".





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM