"على شواطي دجلة" أو "نشيد الإنشاد" البغدادي

تاريخ النشر       03/09/2018 06:00 AM



علي عبد الأمير عجام
حملت الأنغام، قديمها وجديدها، تلويحات أشواق وفخر وأوصاف للذكرى متوجهة بما يشبه التحية لبغداد و رمزها الحي المتجدد أبد الدهر: نهر دجلة. لكن قلة منها عنت بالملامح الطبيعية والبشرية التلقائية لذلك الرمز، بعيدا عن الإحالات المناسباتية "وطنية" كانت أم تربوية موجهة، بل إن من بين تلك القلة مابدا مخلصا لعبقرية المكان الطبيعي، أي النهر والملامح الإنسانية المتشكلة حوله ومنه. وأغنية "على شواطي دجلة.. مر" هي تمثيل فذ لذلك المعنى الفريد الذي يتدفق طواعية في مشاعره كما مويجات النهر وشواطئه.

الأغنية هي من إبداع ذلك الثنائي الذي لو نظرنا إليه بشيء من الإنصاف، لكان من أوائل الذي وضع الأساس لهوية وطنية روحية وثقافية عراقية، فقد صاغ كلماتها الشاعر والباحث والصحافي عبد الكريم العلاف، و وضع لحنها المطواع، الأب الحقيقي للموسيقى العراقية المعاصرة، صالح الكويتي، وغنتها أول مرة سليمة مراد.
النص مقام على قراءة شعرية لملامح بيئية و إنسانية تتعلق بالإمتداد الجغرافي الذي يعنيه مروره النهر ببغداد حيث يتجه أهلها في أيام الصيف(1) صوب شاطيء دجلة  الممتدة من الباب الشرقي  حتى الكرادة الشرقية، ويقيمون فيها بيوتا صيفية من الحصران والخشب معروفة باسم "الجراديغ" . تطل واجهاتها الامامية على النهر وتحف بواجهاتها الأخرى الخضر والأزهار ويمضون فيها حياة هانئة حيث الحرية المطلقة والجو اللطيف فيتسامرون في لياليهم على ضوء القمر.
نحن هنا حيال احتفال انساني بالطبيعة وجغرافية المكان وملمحه الأبرز، أي النهر وهو ما عبّر عنه الشاعر العلاف بروح آخاذة تجمع التصوير والتلقائية الشديدة: " شوف الطبيعـة / تزهـي بديعة، إبليلة ربيعة / يضوي البدر".
ففي تلك المسرات البسيطة المتشكلة من "المصايف"، والتعايش الأنيس مع الأوقات الليلية "يشعر الأنسان بالبهجة والسعادة وهو مستلق على سريره وينظر إلى ما حوله من المناظر الخلابة، وقد ارتدت الطبيعة حلتها الزاهية في الليالي المقمرة فتحلو في مياه دجلة السباحة وركوب القوارب، ولقد كانت تلك تموج بآلاف المصطافين مع غروب الشمس وبعده، فمنهم من يقضي الساعات الطوال في الماء ومنهم من يتحول بين الخضرة والأزهار. بينما اعتاد فريق آخر أن يستقل الزوارق للتنقل من جزرة الى جزرة ومن شاطئ إلى شاطئ بمصاحبة الغناء والموسيقى. وتلك الحياة عند البغداديين كانت أحلى ايام حياتهم حيث المتعة واللذة"(2).


دجلة العام 1932  حيث يظهر جسر الإئمة القديم بين الأعظمية (يمين) والكاظمية (إرشيف الكاتب)

هذه الملامح من النشاط الإنساني المتصلة بهبة المكان يترجمها الشاعر الذي كتب كلمات أغلب الأغنيات التي تشكل اليوم الذاكرة الشعبية العراقية: " لفـرش ابرملــه/ على شاطي دجلة، والماي دهله/ هل المنحدر". 
وكان هذا الملمح المعني بالتصوير البيئي والبشري لمكان محدد، شكل ريادة  كبيرة، فهو غيّر الصورة الثابتة عن الغناء بوصفه أشواق محبين وشكواهم، مع إن النص لم يخل من هذا الجانب العاطفي المهم، لكنه جاء متوافقا مع النسيج التصويري للمكان، حد إن عبارات الحب والوله جاء متأثرة بما يفيض به المكان وجغرافيته: "لكَعـد ابـفيـك/ لو سطـع ضيـك، وأمشي على حيك/ صبح وعصر"، بل ثمة تعبير ينتمي إلى حداثة تعبيرية حقيقية، كما في قول الشاعر: "واكتب ابوصفك/ نظـم و نثـر"، قبل أن يذهب في مناجاة المعشوق الهاجر بعبارات صريحة " كَلبك الكاصي/  كطع انفاسي، لاتظن نـاسي/  يـوم الهـجـر"، وحتى في هذا لنلاحظ العبارة الدالة على الإنتظار واللهفة حد "الأنفاس المتقطعة"، وهو لعمري تعبير ذو منظور حداثي لا سيما اذا راعينا زمن النص الغنائي (إربعينات القرن الماضي).

لماذا نشيد الإنشاد؟
اذا كانت هناك أناشيد عدة تصور بغداد ونهرها الخالد، فهذا "على شواطي دجلة" أجملها، واذا كان هناك تلويحات محبة لمدينة كانت تجتهد في ابتكار طريقها والخروج من أزماتها، فالأغنية هي أجمل تلك التلويحات، وإذا كان "نشيد الإنشاد" و هو أحد اسفار العهد القديم، يحفل فضلا عن بعد الديني، بأشواق امراة ورجل، فالأخير ينادي: "كالسوسن بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات"، والمرأة تجيب: "كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين"، فثمة في نص الأغنية ما يتصل بهذا المعنى في مواضع عدة منها "تقـطــف ورودك/ مـن بين اخدودك"، وآني علـى مودك/  أفـدي العمر".

سهل الكويتي الممتنع
ما الذي فعله صالح الكويتي تلحينا؟ هو أنه وضمن نهجه العبقري، صاغ لحنا قائما على السهل الممتنع، لجهة بساطة النغم الذي يترسخ في الذاكرة عبر ترديد اللازمة "على شواطي دجلة.. مر" ولكن بنسيج نغمي تصويري يحاكي تدفق النهر، فجاءت المقاطع مطواعة التأثير تندفع بتأثيراتها شيئا فشيئا في روح المتلقي ومشاعره، مثلما اتصل اللحن بشكل المتوالية الغربية "الروندو"، وهذا أنعكس في أداء سليمة مراد للأغنية، حين جاء صوتها متأسيا، رغم ما عرف عنه من قوة واضحة. 
وفي باب تحليل أداء الأغنية سنتعرف على أدائين لسليمة مراد، أحدهما هو الأصلي الذي حفظته أسطوانة "بيضافون"، وثالث حديث يتصل بالأصل (الكويتي)، عبر أداء المغني الإسرائيلي الشهير الذي بات يفخر بأصوله الثقافية العربية دودو تاسا، وهو حفيد داود الكويتي، شقيق صالح وصنوه في ذلك الأثر العميق الذي طبعا فيه الموسيقى العراقية المعاصرة، ونقلا عبره الأنغام من التلقائية الشفاهية إلى المعاصرة الواعية.
ذلك ما سنتعرف عليه لاحقا في مقالة خاصة.

هامش:
1و2: "كتاب الأغاني القديمة، أزجالها..ألحانها.. حكاياتها"، لمؤلفه حمودي إبراهيم الوردي.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM