نقد أدبي  



مفاتيح الطريق إلى جنة عدن لا أقفاله

تاريخ النشر       09/01/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير
إذا كان يوريس زارينز المولود  1945، في ألمانيا، وهو عالم آثار أميركي من أصل لاتيفي وأستاذ الآثار والتاريخ في جامعة ميسوري، والمتخصص في الشرق الأوسط، قد أبهر العالم نهاية القرن الماضي، بتقديمه الأدلة، القائمة على بحث مضن في الأرض السعودية، على الموقع الحقيقي لجنة عدن، ويمتد من شط العرب حتى حدود الساحل المقابل للبحرين، فإن القاص والكاتب السعودي حسن دعبل يؤكد هذا المعنى في سيرة كتابية عبر مؤلفات عدة آخرها "سادن الأقفال" الصادر حديثا عن "دار شهريار" في البصرة.



وحين يضع دعبل شرحا ثانويا قصد منه "تجنيس" كتابه في عبارة "نصوص سردية"، فإنه يبدو وقد تحرر من الشكل أو الجنس الأدبي، فلا هو بالقص، مع إن الكثير من النصوص يتضمن بنية القصة القصيرة المتكاملة، ولا هو بقصيدة نثر مطولة، مع إن الكثير من الشعر العميق مفردات ورؤى في نصوصه، ولا هو بالاستعادات الثقافية للمكان عبر حياة الكاتب الشخصية، مع إنه يتضمن هذا المسار الكتابي الأقرب للسيرة الذاتية.

لن نموت حسرة، ونحن في البصرة 
هذه "الحرية" التي اختارها دعبل لكتابه، أفقدت فن القصة القصيرة نصوصا مدهشة كما في "الرّيم" فهي قصة عن المكان "ركبوا من بندر دارين مع المسافرين إلى العراق"، والبيئات وأسرار العشق وغرائب الهوى "ومن معه، همو سمّاره، وجلاس الشعر والليل". مثلما هي عن مسار الحكمة في سياق من التلقائية الحياتية لا الجاهزة المصنوعة للإستعراض الفكري واللغوي "الهجرات قديمة، قدم الزمان، والناس يأخذهم دولاب الوقت وتحولاته".
ليس في هذا النص وحسب تحضر البصرة، إنما على امتداد الكتاب، فحسن دعبل يعرف المكان وأهله، يتحسس آمال العراق وآلامه كما لا يفعل مواطنوه "لن نموت حسرة، ونحن في البصرة، طافوا بتلك المدينة العجيبة، التي لا تكشف للغرباء أسراراها، قبل أن يكشفوا اسرارهم، وتخضرّ قلوبهم". لنلاحظ هنا عبارة "خضرة القلوب"، بما فيها من حنو وما فيها من إشراق روحي إنساني متصل بالمكان وخضرته المأخوذة من صورة "جنة عدن"، حيث البدء من شط العرب، ومن البصرة "في العشار ذابت الحكاية في الألسن، وأصحاب السفن والليل".
تلك الصورة التي قد لا يكون دعبل عرف تفاصيلها المثيرة كما في عمل زارينز المهاجر مع والديه إلى الولايات المتحدة بعد فترة قصيرة من ولادته،  ليحصل على شهادة أولية في الأنثروبولوجيا من جامعة نبراسكا في عام 1967، ثم يخدم في فيتنام قبل الانتهاء من الدكتوراه في لغات الشرق الأدنى القديم وعلم الآثار من جامعة شيكاغو في عام 1974. ثم عمله مستشارا لقسم الآثار في السعودية ، لكنه وثقها عبر الأنهار الحقيقية أم المندرسة، وعبر البنادر وهي كثيرة غنية الدلالات في الكتاب، فهي "بنادر العشق" قبل ان تكون ملامح مكانية ومهاد فاعلية إنسانية، "نزل في مسقط، وراح يمشي كما الناس في اسواق بندرها".
و حرية التجنيس التي منحها حسن دعبل لنفسه، أفقدت فن القصة القصيرة نصا مدهشا آخر متمثلا بـ"الشيخة مدللة" ثم المثال القوي على هذا المعنى كما في نص "القفل المدفون" حيث الدهشة تنتقل في نسق سردي لتتحقق في ومضات فكرية "لا الزاد يسّد الجوع" ولا المال يذهب الفزع" ، وأخرى إنسانية تتمثل بارواح تحفر في المتلقي عميقا "جمعوا من البيت رماله التي علقت بأرجلهم، ولم يرشوا الماء على عتبة الدار خلفهم. لأنهم أدركوا أنه لا رجعة أخرى لحنين المنازل أو غلق أبوابها".
مثلما يحضر الشعر بتجلياته الروحية المبهرة في هذا النص، إكان عبر اللغة الصافية المقتصدة أم في جمال الصورة "لم أهتد لتلويحاتهم التي تباعدت في أثرها، ولم ينفعهم ما رموه لي من حبال وقشة نجاة طافحة بالدموع" أو "لا بيت يؤويني، غير غرفة صغيرة في الميناء الذي شببت فيه ناطورا حتى غبش بصري".
إنها لغة خاصة لا تطنب في الوصف ولا تستغرق في المخيال اللغوي، هي إن شئت سردا شعريا واقعيا "حيث الحكاية تتغاوى، والأفعى تزحف بسرد نهر مفرداتها"، يعمل في حقل روحي خاص أقرب إلى التطهير من أدران كثيرة، ويتعمد عبر أنهار كثيرة "نزلت هابطا بجسدي، تتحسسني برودة الماء، وهو يناسب رقراقا، عذبا، لم أعهد بجسدي طرواة كهذه. أمررالأصابع، وأغسل شعري من غير تمتمات أحفظها أو أدعية، كما أسمعها ممن شاركوني النزول في الماء، والنهر المقدس".

"أقفال" النصوص ومفاتيحها 
صحيح إن حسن دعبل وضع مفردة القفل كمفتتح لعناوين نصوصه، لكن المتن في تلك النصوص تكفّل بالمفاتيح المخفية عبر الصور والمشاعر والرؤى الواقعي منها أو المتخيل، ففي كل نص (قفل) ثمة مكان وحكاية ومصير "يشع نوره خلسة"، ويضي الطريق ما يجعل المفتاح –الخلاص متاحا وثمينا وحاملا لأسفار الخروج والخلاص.
ومثلما تمتع الآثاري زارينز بخبرة واسعة في العمل الميداني الأثري في المملكة العربية السعودية ومصر وعمان، ويشارك الآن في مشروع جديد في اليمن، حظي حسن دعبل بخبرات روحية وعملية وثقافية "في البحث عن المدينة المفقودة" منذ أن وعى مكانه الأول، جزيرة تاروت، شرق السعودية، حتى كتابه الأول "جمرة الضوء" 1995، مرورا بسيرة عملية طويلة في شركة النفط (آرامكو) وفرت له الفرصة لـ"التنقيب" ولكن في كنوز المكان ودلالاته وأعماقه الحضارية المتصلة بالسومريين وظلال جنة عدن، دون أن ننسى تجربته التي أرادها روحية وفكرية عميقة عبر تجربة ليست هينة مع المرض، "شع نور" من خلالها وصارت نصوصا في وعي الألم نحو مفاتيح آمال كثيرة.





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM