بغداد 1991: حين احتفينا بالذكرى 200 لوفاة أماديوس

تاريخ النشر       23/01/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير

كنت مشغولا في العام 1991 بتجميع شتات روحي الممزقة، مثلما كانت البلاد قد أحالتها سياسات الديكتاتور و"عاصفة الصحراء" قطعا ممزقة كسيرة الظهر، ولا شيء كالموسيقى الرفيعة عوناً هائلا في مهمة تجميع الشتات الروحي والتمزق الفكري.

كنت قد توقفت عن نشر ما أكتب لفرط جزعي وعدم ثقتي بجدوى النشر في مؤسسات ثقافية تقودها أفكار التخريب والعدوان، لذا كنت أحمل بعض ما كتبت قبل "العاصفة" وبعدها كي أنشره في صحف ومجلات أردنية وعربية خلال سفراتي القصيرة إلى عمّان بعد نيسان 1991 واطلاق حرية السفر، مثلما كنت أحمل معي مطبوعات ثقافية عربية وأجنبية ومنها ما يعنى بالموسيقى على نحو خاص.

في خريف العام ذاته، نشطت الأوساط الثقافية والموسيقية في الإحتفال بالذكرى 200 لوفاة ولفجانج أماديوس موتسارت. وتلك كانت قصة بغدادية حميمة منسية أخرى، فقد عاشت شخصيات من المجتمع الثقافي العراقي خلال ثمانينات القرن الماضي على زاد جمالي غني، عبر الفيلم المدهش "أمايوس" للمخرج ميلوش فورمان 1984 الذي وصل نسخاّ معدودة عبر أشرطة الفيديو VHS وصار بعد فترة مئات النسخ التي تم تداولها بين الأصدقاء لتتحول إلى آلاف من محبي السينما والموسيقى الرفيعتين.

مثلما كان برنامج "كلاسيك" عبر إذاعة "بغداد أف أم" الذي يقدمه بصوته الجهير وحضوره المعرفي العميق، الطيار الكابتن رعد دراز، قد قدم موسيقى الفيلم التي جاءت ضمن أسطوانتين، وصارت تلك الحلقة علامة على محبة المستمع المحلي للنغم الرصين والتي انعكست بطلبات كثيرة من أجل اعادة الحلقة المدهشة تلك من البرنامج، وهو ما مكنني من تسجيلها ومن ثم الحصول على الأسطوانة الأصلية بعد جلسة أنيقة ضمتني إلى الكابتن دراز في بيته بمنصور بغداد، وتصوير الكتيب الغني بالمعلومات الملحق بها وهو ما وفر لي مصدرا لمقاربة الفيلم- موسيقيا، فضلا عن تسجيل الأسطوانة بجزئيها (نحو ساعتين) والتي تولى إعدادها وتسجيلها وإخراجها نيفيل مارينير ونال عنها جوائز مرموقة.


أسطوانة موسيقى فيلم "موتسارت"

منزل الصداقة الحميم

في تلك الأيام العجيبة بعد مأساة 1991 كنت أستقبل الأصدقاء في منزلي الصغير بمنطقة المسبح، وكالعادة تكون الموسيقى هي سيدة الجلسات، لا سيما مع توفري على أجهزة متطورة تقنياً تضعنا في أجواء استماع عميقة ومؤثرة. من بين الأصدقاء كان الناقد والكاتب صفاء صنكور، وقد جمعتنا جلسة موسيقية أخرى عمادها كانت الأسطوانة المزدوجة لموسيقى فيلم "أماديوس"، ثم حديثي عن الأحتفال الواسع على مدى أرجاء العالم بالذكرى 200 لوفاة "أماديوس" موتسارت 1756-1991.

هنا لم وبلطفه المعتاد الغامر، وقع الصديق صنكور على سبب مناسب بل موضوعي كي يعيدني إلى النشر، فطلب مني (كان محرراً ثقافياً في صحيفة "القادسية") أن أكتب عن الحدث إنطلاقا من كل هذا الشغف الذي كنا نشترك في جوه الحميم.

ولأنني ضعيف وهش حيال الصداقة ومعناها، ما كان لي سوى أن استجيب للطلب وإن أضع القارىء في جو هو بمثابة محاولة لوضعه على صلة حية بجديد الثقافة في العالم لا سيما بعد انقاطعه عنها بعد غزو الكويت في آب 1990.

تلك حكاية المقالة البغدادية الهوى والروح التي استعادت عبقري الموسيقى الذي مات في ظروف غامضة وهو في عز شبابه ( 35عاما) والتي جاءت وفق النص التالي*:

ذات ليلة من شتاء عام 1823 تعالت صرخة من رجل مسن، مشوش الذهن، تلك الصرخة روّعت فيينا: "موتسارت إصفح عن قاتلك، إنني أعترف بقتلك يا موتسارت".

حين هدأ هذا الرجل، حاول الإنتحار قاذفاً بنفسه إلى الشارع المُغطى بالثلج ومثيراً بذلك فزعاً أرعب المستشفى الخاص الذي ينزل فيه.

ولأسابيع عديدة ظل هذا الرجل المسن محجوراً عليه في غرفة خصوصية، حتى زاره كاهن شاب وسمع (اعترافه) بالسبب الذي دعاه للإنتحار.

كان الرجل المرتعش هو، سالييري، الموسيقي الذي عاصره موتسارت، القادم من قرية إيطالية صغيرة وقد شغلته فكرة مقدسة هي التقرب الى الله عن طريق الموسيقى، فقطع على نفسه عهداً في إحدى الكنائس، بأن يمنح كل ما لديه من صدق وعفة وبراعة صنعة، فيما لو حباه الله بإلهام موسيقي ممتاز وشهرة تليق بمؤلف كبير. فوصل "سالييري" إلى فيينا، حيث عباقرة الموسيقى ثم أصبح لاحقاً، المؤلف الموسيقي المُعتمد في بلاط الإمبراطور "جوزيف الثاني"، ذلك المُحب للموسيقى وشقيق "ماري إنطوانيت" ملكة فرنسا، غير أن شخصاً ما وصل فيينا عام 1781 وهو في الـ 25 ليغير حياة سالييري والى الأبد، إنه: ولفجانج أماديوس موتسارت.


العبقرية في سن الخامسة

كان موتسارت قد أنهى سنته الخامسة حين تعالت شهرته وأصبح إسماً يمتد على أفق اوروبا بالكامل مما حدا بسالييري بالذهاب إالى قصر راعي موتسارت وهو رئيس أساقفة سالزبورغ المتغطرس، متلهفاً لرؤية هذه العبقرية الموسيقية وظاهرتها، فقد كتب موتسارت الكونشرتو الأول وهو في سن الرابعة والسيمفونية الأولى في السابعة وأوبرا كاملة في الثانية عشرة ! ومع كل الدهشة والعجب اللذين خامرا سالييري، إلا إنه كان يتساءل: تُرى هل هذه الموهبة مكتوبة على وجه صاحبها حقاً؟


وقبيل لحظات من الحفلة التي سيقدم موتسارت خلالها موسيقاه، كان سالييري يجوب متمهلاً بين الضيوف المتأنقين متعجباً: مَن يكون هذا الموتسارت – الأسطورة؟

وفيما كان يمضي مع تساؤلاته هذه تصاعدت ضربات الموسيقى من الصالون الكبير، "إذن هذا هو موتسارت، هذا هو الكريه، الرديء المخيلة، الصبي المهرج، وما هو أسوأ من ذلك". هكذا حدد سالييري دوافع حقده على هذا العبقري الصغير، فقد كان وبلا شك يستمع إلى أروع ما سمع طوال حياته، وظل يتساءل متعجِّباً: لِمَ منح الله هبته لمَن يعرِّضها للدنس والقبح ولم يضعها في سر خادمه الدائب سالييري؟

إصطدم سالييري ثانية بهذا الكائن اليافع عندما إستدعي موتسارت إلى قصر الإمبراطور حين طلب منه تقديم أوبرا بالألمانية "الإختطاف"، وفي أسابيع تلت قام موتسارت وبكل سذاجة وبدون تعمد بإهانة سالييري بطرق عدة فقد قام بتحوير عمله "مارش السلامة" الى لحن خفيف برّاق، كما انه أغوى طالبة سالييري ومعشوقته السرية، المغنية السوبرانو كاترينا فاليري والتي غنّت لاحقاً في العرض الأول لأوبرا "الإختطاف" مع جوق الحريم التركي.

ومما ضاعف في "غيرة" سالييري وزاد من جنونه، هو إسناد وظيفة معلم الموسيقى لأبناء القصر الإمبراطوري لموتسارت، وما إكتشفه لاحقاً من أسرار جعلته يقف ذاهلاً أمام عبقرية الموسيقي الشاب، فقد حملت "كونستانزي" زوجة موتسارت البلهاء، بعضاً من أوراق التدوين الموسيقي لزوجها وحملتها الى (سالييري) سائلة إيّاه النصائح والإرشاد لعمل زوجها.

أطال سالييري التمعن في تلك المدونات فوجدها، متنوعة، مبتكرة وإعتراه الذهول التام حين عرف إنها النسخ الأولى والوحيدة لأعمال موتسارت. إنها لا تحوي على تصحيح أو إعادة ! إذن فالموسيقى تُكتب في ذهن موتسارت، كما لو أن هناك وحياً يمليها عليه مباشرة وفي هول المفاجأة تبلور عند سالييري الحقود قرار بتحطيم موتسارت!


ضغائن وأحقاد

إستخدم سالييري فتاة تُدعى (لورل) وقدّمها كهدية من معجب مجهول، للعمل في خدمة بيت موتسارت الذي كان يعاني العَوَز، ولكنها أتت للإستطلاع عن أسرار الموسيقي. ففي ذات حفلة كان يقدمها موتسارت في الهواء الطلق، أدخلت (لورل) سيدها سالييري الى غرفة إكتشف فيها النسخة الأصلية من أوبرا "زواج فيجارو"، وبما أن كتابتها تستدعي موافقة الإمبراطور، فقد سارع سالييري بأوراقها الى البلاط. إستدعي موتسارت للمثول أمام الإمبراطور الذي بادره قائلا "إنها مسرحية رديئة، تثير الضغائن بين الطبقات، وفي فرنسا يثير هذا الموضوع المرارة، فقد أخبرتني شقيقتي العزيزة ماري إنطوانيت بأنها تحس بالرعب من شعبها ومواطنيها (اُعدمت بالمقصلة لاحقاً في الثورة الفرنسية)".

غير أن موتسارت حاول جاهداً إستثارة حماس الإمبراطور كمرحلة لإقناعه بتغيير رأيه في العمل، ومن خلال الزمرة الإيطالية في البلاط حاول سالييري (الإيطالي الأصل) إلحاق أكبر نسبة من التخريب في "زواج فيجارو"، فقد اوقفت بعد حفلتها التاسعة ليقع بعدها موتسارت في حالة فقر شديد حملت إليه المرض الذي تضاعف لإفراطه في الشراب، ومما بعث على الضيق عند موتسارت هو ثناء الإمبراطور على أوبرا كتبها سالييري هي (AXUR) المنسية الآن – واصفاً إياها بـ"أفضل أوبرا كُتبت حتى ذلك الوقت"


موسيقى فذة

لم تمنع الكارثة التي حلًت بموتسارت حين توفي والده من إستغراقه العميق في عمله الأوبرالي التالي "دون جوان"، غير أن أحزانه تضاعفت حين كان (شبح) والده يظهر له مثيراً الإحساس بالذنب وفي الوقت ذاته إنشغل سالييري بمتابعة عمل موتسارت محاولاً إيجاد خطأً ما يشهره ثانية كسلاح ضده. مضى كل ذلك عبثاً أمام إستغراق موتسارت في إنجاز "دون جوان)"، الأوبرا التي ظهرت بأبرع ما يمكن، حتى أن سالييري ذاته قال فيها: "كم كنت أتمنى وفي كل مرة أحضر فيها القاعة أن أكون الوحيد الذي يستمع لهذه الموسيقى"!

ضغائن سالييري قادته ثانية لإلحاق الأذى بموتسارت، فقد قرر فجأة أن ينهي حياته فإرتدى قناعاً وذهب إلى منزل موتسارت لمنحه تفويضاً من (معجب مجهول) لكتابة "قداس" وكان ذلك مُخططاً للحصول على القداس ومن ثم تحويره بطريقة خاصة وتقديمه في مأتم موتسارت – الخائر القِوى الآن – تعبيراً من سالييري عن حزنه الجم بوفاة (صديقه) موتسارت !.

حين بدأ موتسارت كتابة "القداس" كان يواظب على قيادة الأوركسترا وهي تعزف موسيقاه في "المزمار السحري" وهنا بدأت الملامح الأخيرة لحياته بالوضوح، ففي ذات مرة خارت قِواه في منتصف العرض المسرحي للأوبرا، وحمله سالييري الى المنزل. إذن فقد أزفت الساعة لتنفيذ المخطط الشيطاني، لكن ما الذي يفعله سالييري بالقداس غير المكتمل؟ - تلك اللحظة عادت زوجة موتسارت لتكشف سالييري المضطرب أمام جسد زوجها الواهن وأوراق موسيقاه المبعثرة.

تُرى هل كان المسلك اللاأخلاقي لسالييري قاد موتسارت المُنهك إلى قبر كبير، حين دفع به جراء الضغائن والأحقاد الى المزيد من إنهاك الجسد والروح معاً؟

عربة وبعض أناس وشارع حجري مبلل وتابوت موتسارت، كان هذا هو المشهد الأخير في سيرة مدهشة لموسيقي وصفت (الموسوعة البريطانية) موته بأنه: خزي للإمبراطور، للبلاط، لعامة الناس، للمجتمع نفسه.


ما الذي تبقّى؟

في زاوية معتمة من مستشفى المجانين كان سالييري يكمل إعترافه للكاهن الشاب: "إن القدر الإلهي دمّر موتسارت وساهم بقدر متواضع في إعلاء مجده. مات موتسارت وتركني أتعذب لمدة 32 عاماً أراقب فيها موسيقاي تهمد وتنقرض فيما يتصاعد إبداع موتسارت ويغدو سرمدياُ".

محض سخرية كانت نهاية سالييري – ففي اللقطة الأخيرة للفليم "أماديوس" تصاعدت قهقهة من موتسارت حتى تصبح الضحكة العالية الملازمة له وتأتي على نهاية الفيلم.


* نشرت في صحيفة "القادسية" 15 تشرين الأول 1991



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM