نقد فني  



حكاية سينمائية عن صعود الحداثة العراقية وانهيارها (1-2)

تاريخ النشر       26/01/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير 

ليس سرا القول أن فيلم "سعيد أفندي" ما أنفك أفضل فيلم سينمائي عراقي(1) على الرغم من مرور ستة عقود على انتاجه، وليس مفاجئا القول أنه "فيلم من خمسينات العراق السعيدة"، وأن "الاخراج والتصوير والمعالجة، جاءت على نحو يفوق أفلاماً أوروبية ظهرت في ذلك الزمان".
وليس غريبا أيضا تحليله على نحو ثقافي- اجتماعي "كان العراقيون، حين الفيلم، يعيشون مَطْهَراً خُتِمَ بالنعيم والجحيم على حد سواء حتى اليوم... كانوا راضين بوطنهم، وموجوعين بمآسيه. يجدلون خيوطاً، لا يدرون هل تشتد، أم تنقطع، لكنهم أولعوا بالفيلم، على رغم دأبهم المعروف بالتندر على أفلام عراقية ساذجة، اعتادوا أن يجعلوها مادة للضحك والنكتة، إذ أن "سعيد أفندي" شكّل لهم زاوية حميمة وباهرة، فلم يكن، بكل تفصيلاته، إلا مثالاً لحيواتهم النابضة والمقبورة معاً"(2).

اعتمد الفيلم قصة للكاتب العراقي ادمون صبري، وهي قصة واقعية ذات حبكة بسيطة - كما هو الفيلم - ومكرورة، مثل قصص كثيرة وأفلام كثيرة، إلا أن المعالجة السينمائية الحميمة والمدهشة جاءت على غير ما هو متوقع لحبكة بسيطة كهذه. كل حوادث الفيلم مألوفة ومكرورة، الا أن ايقاع المعالجة هو الجديد. إذ أن المُشاهد يتابع ذلك بشغف ومن دون ملل، مجذوباً بخيط خفي يصعب تشخيصه، بسوى القول إنه اسلوب الفيلم. تضاف الى ذلك براعة التصوير، على رغم أن الفيلم هو من انتاج العام 1956 وبوسائل بدائية، ومن دون تمويل، سوى ما حوته جيوب فريق العمل، وكان معظمه من المواطنين ذوي الدخل المحدود، وسوى الحماسة النبيلة لإنجاز عمل فني مميز.
والمغامرة الإنتاجية الفريدة التي مثلها "سعيد أفندي" أدارها عبد الكريم هادي(3)، وهو واحد من القلائل الذين يتحدثون باختصار عن أنفسهم وعن أعمالهم. ترك المسرح قبل 1955 واتجه إلى الإنتاج السينمائي فكان واحدا من مؤسسي شركة "سومر" للسينما، يقول: "عندما خرجت من "سومر" أردت أن أبرهن لأعضاء الشركة انني قادر وحدي على أن أنتج فيلما. في تلك الفترة كان المصور كاميران حسني عائدا من دراسته في أميركا وهو يمتلك رغبة شديدة في ان يعمل في تصوير فلم جديد. بالمقابل كان هناك يوسف العاني ومجموعة من الممثلين لديهم فكرة تقديم فيلم، فنسقنا نحن الثلاثة، أنا ويوسف العاني وكاميران للعمل فيما بيننا، رغم العثرة القوية عبر الجواب الذي تلقيناه من إدارة "ستديو بغداد" ترفض فيه تأجير الاستديو السينمائي لتصوير الفيلم.
وهنا كاد "سعيد أفندي" يموت، إلا ان المنتج يصر على الاستمرار، فسافر إلى خارج البلاد واشترى كاميرا سينمائية و"مافيولا" آلة تقطيع/مونتاج الأفلام، وأدوات فنية خاصة بالتصوير والإخراج ثم عاد إلى بغداد لتحويل الفكرة إلى حقيقة. 
لقد اتخذ العاملون في فلم "سعيد افندي" من احد بيوت "الحيدرخانة" مركزا يجتمعون فيه ويتحركون لتصوير الفيلم.. في ذلك البيت ظلوا نحو سنة ونصف السنة، تواجههم كل يوم حكاية تقف حائلا دون تصوير لقطة لا تستغرق أحيانا دقيقة أول أقل. الأطفال وعناصر السلطة، كانوا يلاحقونهم فيؤخرون التصوير أياما طويلة ويربكون العمل. 
تجمعت آلاف الأقدام المصورة من "سعيد أفندي" غير إن "ستوديو بغداد" السينمائي رفض هذه المرة تحميض الفيلم وطباعته "لقد كان الوقت صيفا ومعنى هذا إن الفيلم أاذا ترك سوف يتلف وتتلف معه كل الجهود التي بذلناها خلال سنة ونصف اشتريت ثلاجة كهربائية وتم حفظ الفيلم فيها. ومن طرف ثان اتجهت إلى إدارة الاستوديو لاقناعها بتحميض الفيلم وطباعته حتى تمكنت من ذلك".
قصة "سعيد افندي" مثمرة بنتائجها، فالمنتج عبد الكريم هادي نجح في تحمله مسؤولية الإنتاج فضلا عن تحقيق الفيلم ربحا ماليا وفيرا، لكن هادي لم يستمر في انتاج الأفلام "بعد "سعيد أفندي" تعبت. كان مجهودا جباراً أن أنتج هذا الفيلم".


كاميران حسني (يسار) يراجع سيناريو "سعيد أفندي" مع بطله يوسف العاني

ومنذ العام 1957 ظل عبد الكريم هادي يعمل في استيراد الأفلام حتى شغل وظيفة منتج أول في وحدة الانتاج السينمائي في المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون العام 1978.
وكان عبد الكريم هادي المولود في محلة الشواكة الشعبية ببغداد العام 1920 قد تحصل على شهادته الجامعية من كلية الحقوق لكنه لم يتجه إلى المحاماة، ليلتحق بالقسم المسائي في معهد الفنون الجميلة وبعد تخرجه فكّر مع زميله عبد القادر ولي في تأسيس فرقة فنية للتمثيل يكون كافة اعضائها من خريجي معهد الفنون.
وفي مقهى مكشوف هي اليوم سينما أطلس، جلس نخبة من الخريجين وكتبوا طلبا إلى وزارة الشؤون الاجتماعية باجازتهم لتاسيس فرقة للتمثيل.. صدرت الاجازة في 12/8/1947 بتأسيس "الفرقة الشعبية للتمثيل".. كان عبد الكريم هادي يرأسها انذاك وتضم أعضاء وإداريين بينهم عبد القادر ولي، جعفر السعدي، ابراهيم جلال، عبد الستار البصام، أكرم جبران وفائق القيماقجي. 

إلى أميركا
ولكن السر في الجوهرة الفنية التي مثلها الفيلم الرائد، هو في قدرة كاميران حسني في السيناريو والإخراج، الذي يمثل حكاية أخرى عن صعود الحداثة العراقية، فهو ورغم البيئة المحلية ظل يرنو كحالم سينمائي إلى الطريق الحقيقي لتحويل الحلم إلى حقيقة فاعلة وفق سياق علمي حديث، اعتمادا على قدرات مادية ذاتية لكنها بدت صغيرة حيال الشغف الكبير "في العام 1947، كنت قد أكملت دراستي الثانوية، وكانت فكرة الاشتغال بالسينما، تاكل في رأسي، وبحماس المراهق الصغير هددت أابي بالهرب إذا لم يوافق على إرسالي إلى أميركا لدراسة السينما، فوافق بعد إلحاح كبير وأخذت اتصل بمعاهد أميركا الفنية، انتم تعرفون إان العالم كان في ذلك الزمن يسترجع أنفاسه بصعوبة بعد الحرب العالمية، وكانت أميركا وكل بلد محارب تستقبل أبناءها العائدين، وجامعات العالم مكتظة بطلابها، لذلك واجهتني كل المعاهد السينمائية بالرفض. ولكن خطا من الأمل جاءني في رسالة من معهد شيكاغو يعلن فيها قبولي"(4). 
وعلى الرغم من كون معهد شيكاغو لا يدرّس سوى التمثيل والمسرح فقط، لكن الحالم العراقي وافق على الانتماء إليه آملا أن يجد موطىء قدم في أميركا ثم يبدأ الإتصلل بمعاهدها السينمائية.
في الايام الأخيرة من العام 1947 غادر الشاب كاميران حسني بغداد، وهو يحمل في جيبه صكا بألف دولار وعلى موعد مع مواطن اميركي كان يراسله قبل سفره على أن يساعده هناك في التعرف على الآخرين وايجاد محل ملائم لسكنه وما إلى ذلك. قضى في البحر أربعة ايام قاسية لم يذق فيها طعاما وكان يتقيأ خلالها بصورة مستمرة، بسبب "دوار البحر".

نيويورك.. نيويورك
وصل كاميران حسني إلى نيويورك وهناك "فوجئت بالصخب الذي يملأ المدينة وكان الناس كلهم يرقصون ويغنون في الشوارع، وقد فكرت في حينه بأن هذه هي حياة الناس العادية في أميركا وكما يعرضونها لنا في أفلامهم. كنت لا أحمل في جيبي سنتاً واحداً عدا الصك الذي أخبرتكم عنه. وقد قبل سائق التاكسي بنقل أمتعتي بعد أن شاهد الصك، ثم ذهب بي لكي نصرفه، وبعد صعوبة كبيرة تمكنا من صرفه، وعندما اردت النزول من التاكسي سألت السائق عن اجرة الركوب فأشار إلى الأوراق النقدية التي أحملها وطلب أربعة منها، لقد احسست بانه يحاول استغفالي، لان أربعة أوراق تعني أربعين دولارا، وقد حاولت ان ارفض ذلك إلا أنني خفت، لقد تصورت انه سيسحب مسدسه ويفرغه في رأسي كما نشاهد في الأفلام. فألقيت ورقتين عليه، ثم انطلقت بأقصى سرعتي من السيارة"(5).
بعد ان وضع أمتعته في الفندق انطلق الشاب الطافح بالأمل إلى الخارج، ليسير مشدوها في شوارع نيويورك الصاخبة حيث أضواء النيون وناطحات السحاب المشتعلة بالنور، والناس الراقصين، وتفجر الموسيقى بين جموع البشر، وفجأة وجد نفسه في سينما "راديو سيتي"، حيث برنامجها يستمر أربع ساعات ويتضمن غناء ورقصاً وتابلوهات حية ومسرحيات، وفيلماً سينمائياً. أخذت مقعده وعيناه تلهثان في رشرشات النور وصريخ الناس ورعونة النغم. وعلى حين عرة انطفأت الأنوار، وخيم صمت اسود كان يسمع خلاله همسات محمومة، وفرقعات قبل قريبة، لتهتز جدران السينما بطرقات رهيبة، ويدرك فجأة انه في منتصف الليل من اليوم الأخير من العام 1947. 
في معهد شيكاغو "قضيت ثلاثة أشهر ثم نفذت نقودي، فبدأت افتش عن عمل أعتاش منه، وقد ساعدتني صدفة حلوة فتعرفت على إنسان طيب ساعدني كثيراً، لقد كنت في حفلة طلابية ساهرة واقترب مني طالب أسمر الوجه، وحياني بان امتدح ربطة عنقي، فانتزعتها وقدمتها إاليه، فدهش ورفض أن يأخذها، ولكنني اخبرته بأننا في العراق نتبع هذه الطريقة في الكرم وبعد ساعة كنا قد تعارفنا تماما، وفي اليوم التالي كنت أشتغل في معمل للصلب دلني عليه، زينو، ذلك الصديق الأسمر، لقد كان من المكسيك"(6).
كان حسني يقضي الصباح في المعهد كطالب مستمع ثم يستريح ساعتين ينطلق بعدها إلى المعمل حيث يشتغل حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. 

هوامش
(1)الناقد السينمائي مهدي عباس، بيت المدى يستذكر صاحب "سعيد أفندي"، صحيفة "المدى" البغدادية 17 كانون الثاني/يناير 2014 
(2) مهدي محمد علي (الراحل)، صحيفة "الحياة" اللندنية، العدد 13652،  28 تموز/يوليو 2000.
(3) محمد داود ، منتج فلم "سعيد افندي" يروي صفحة من تاريخ السينما العراقية، "مجلة الإذاعة والتلفزيون" البغدادية 1978.
(4) و(5) و(6)، لقاء أجرته "مجلة الفنون" كانون الثاني/يناير 1958 مع المخرج كاميران حسني، وأعادت صحيفة "المدى" البغدادية نشره في 15 كانون الثاني/يناير 2014.



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM