نقد أدبي  



أحمد النسور في "شرفة" أخيرة على عمّان

تاريخ النشر       07/02/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير*  

                                          إلى أحمد النسور** في رحلته السريعة الغامضة 

 دونما اعلانات شفاهية كبيرة تشير الى الاختلاف والمغايرة، ودونما اعلانات غاضبة عن ركود المشهد الثقافي ونمطية معطياته، تأتي مجموعة من الوثائق النصية لتقدم دليلا على اختلافها عن السائد والنمطي، وكما قلنا هذه المرة دونما ضجيج شفاهي وسجال كلامي، بل عبر نصوص في الشعر والقص وانطباعات شخصية مصاغة بلغة عالية ضمن شكل النص المفتوح، هكذا تأتينا "في الانتظار ... مجلة أدبية عربية – فرنسية"، احتوت اضافة على النصوص العربية، نصوصا بالفرنسية ظهرت مرة بلغتها الاصلية واخرى مترجمة الى العربية، ومناسبة هذا الشكل من الاتصال النصوصي تأتي من جهة رعاية المنشور: الخدمات الثقافية في السفارة الفرنسية في الاردن والعربية للاعلام.
النصوص العربية والفرنسية كتَبها شبّان يحملون وجهات نظر تتسم بالإختلاف، ويتأكد ذلك عبر زوايا التقاط المشهد الذي حضر في النصوص، وبحضور لغة مفارقة للاستخدامات الشائعة في كتابة الاشكال الابداعية هنا في عمّان من شعر وقص، وعنيت النصوص العربية ببؤرة مكانية هي قاع المدينة، المكان الذي تتكثف فيه مجموعة من العلاقات ويكشف نوعا من التعاطي مع علاقة الكائن الانساني بالمكان : إنشغالاته، بحثه الدائب عن فرصة عيش ممكنة، وتعاطي المثقف ايضا مع هذه البؤرة الفوارة وإكتشافه لجماليات الضجيج بإعتباره إنشغالا في الطاريء والحياتي اليومي والناتج للعابر، والنصوص إذ تنشغل بقيمة كهذه، فهي تأمل بالنقيض والمضمر في علاقات تبتعد، فيما تجهد النصوص بالاقتراب منها والاشارة الى دربها المجلجلة.

نظرة إلى "وسط البلد" بعمّان ليلاً بكاميرا الكاتب وفي الإطار الراحل الوسيم أحمد النسور
  
نَص احمد النسور الذي يحمل عنوان "الشرفة" يذهب في شعرية تسجيلية ومهارات في تشكيل الصورة وتقطيعها سينمائيا، ليقدم ما يشبه البيان عن نفوس اصحاب النصوص وطرق انشغالهم بمكان هو بؤرة قاع المدينة، ومن ثم ما يشبه المقدمة حول هموم النصوص وطريقة تشكيلها كما هي بين يدينا في المجلة، انه يرسم لنا عبر شرفة مقهى العاصمة بؤرة القاع ومشهد تقاطعاته، وعبر النص نجد لغة ترتجف فرط الغضب من ظواهر تشييء الانسان وتسهم في صنع ظاهرة اغترابه، هنا عناصر اغتراب لا حصر لها: لغة خارجية تمارس حضورها عبر وسائل الاتصال، تؤكد قوة التحول الانساني وتمكين الفرد من تفجير طاقاته فيما هو يغوص الى قاع فردية تسحقها الوقائع التي تلقي امامه كومة اسئلة تلبس لبوس العثرات، بل ان نص احمد النسور يقدم في اللغة ما يمكن اعتباره بيانا غير معلن لاتجاه الكتابة الذي ميز النصوص، معالجة مكانية اخرى تتم في النصوص، بل ان المقدمة ذهبت اليه مباشرة :
"للذين يأتون عند هاشم، فليس هناك من يقين سوى في الشك، المحاولة للتعبير عن هذه المحاولة بعينها، عبرها ستحاول هذه المجلة ان ترسم نطاقا ما، ان ترسم تخوما متعددة" وهذا الاقتباس يدلنا على اسم مكان، بل بؤرة اخرى ومنطقة إفراز اجتماعي ومشهد علاقات اخرى من قاع المدينة، فهاشم، المطعم الشعبي واعلانه المضيء، يشكل احيانا سمة للاعتراض على ايقاع ثابت في المدينة، فهو يفتح ابوابه وارصفته الضيقة للزبائن على امتداد 24 ساعة في مدينة عرفت بذهابها الى النوم مبكرا! ايضا هو سمة الاتصال الخفية بين النصوص الفرنسية والعربية في المجلة :
"لكل الذين سيذهبون عند (هاشم) ... لكل هؤلاء الذين بفضل هذه المجلة سينضمون اليهم عبر هذا الحب المبهج للغة، لكل هؤلاء الذين سيتقاسمون هذه السعادة في اكتشاف كاتب جديد، سالكين جسر اللغة العربية أو عبر النص الفرنسي" وما بين قوسين صغيرين حمل توقيع أنييس رومانتيه وجاء في الصفحات الاولى وهو يشير الى ما ذهبنا اليه من إعتبار المكان كبؤرة وفاعلية، نقطة اتصال قادت النصوص الى ان تظهر هكذا معا في الوقت الذي لا يجمعها مشترك واضح ومحدد. وفي نصه "عمّان : الانحناءات المؤدبة" يذهب احمد النسور الى تفاصيل القاع: "ازمة مواصلات حادة / وارغفة قليلة / وبطالة شبعت انتظارا / وكتب كثيرة لأرصفة بملامح اوروبا وغبار الشرق " والاندراج في هذه التفاصيل يزيح قدرة اللغة على الدلالة لتبقى الصورة ذاتها، الصورة مجردة وهي تبوح وتعلن وتسجل غالبا، فيما كانت نصوص عثمان حسن ترى في المدينة كمشغل نصي، غير بعيد عن انتظام رؤية، تتكون في اللغة وإنتقاء الصورة وقذفها الى اقصى تغريب ممكن لتصبح بذلك معادلا لما يحدث على الارض :
العصافير تبحث عن مناطق جديدة
فيها الكثير من القطط
وغير مدشنة بالستلايت
عماد غانم في قصصه يلعب دائما على المفارقة، مفارقة الحكاية وضخ اكبر قدر ممكن من افكار تبدو في معطياتها، تفيض على امتداد النص وتغدو اكبر منه:"الارنب الذي سبقته السلحفاة ! يعرفه كل الناس على مر العصور, فقفز خارج الزمن وامتلك وجودا قبل ان يسبك الزمن مادته في السنوات والايام"، فيما تحول الى مغايرة لا سلبية كهذه في قصصه القصيرة جدا "تجريد"، "تعبير" و "واقع"، إذ رقت اللغة امام كثافة الحدث وتركيز المتن الحكائي.

وفي باب القصة تأتي "حب أول" لفادي القاضي، وهي قصة عنيت بوصف حالة مثيرة للجدل دائما: موقع الكاتب كوعي ورؤية إزاء حركة الناس وانتظامها في صيغ تعبير ما، عن حالها وعن غضبها. انه هنا بدقة بالغة ينتقل من مراقبة لحالة هياج جماعي للجمهور الى ايجاد خيط للنفاذ الى تلك الحالة، وهو إذ يجد ذلك الخيط فإنما يحيله الى فتاة اصطدمت به وهي تحاول النأي عن الفوضى الجماعية .. تصويرية دقيقة ولغة مكتملة عند فادي القاضي واكتمالها هنا في عنايتها بالحكاية ورؤاها.
في نصوص الشعر, لدينا تهويلات لغوية من غسان ابو لبن "معلقا في اعلى الهذيان" وهذه لو خفتت اقل وذهبت في البحث عن الشخصي في اللغة والمعنى لوصلنا الى نص اوفر حظا في النجاح مثلما كان عليه السطر الاخير:
تهديني رغبة في الهبوب
الى يدي التي تعلو .. وتنسى 
ويحيلنا الشاعر جهاد هديب مرة اخرى الى قاع المدينة عبر نَصه: "مقهى العاصمة / رقاع من سيرة الرضا ووقت أخضر / نصلبه على جدران الماء" والنص يذهب الى التحديث في الشكل حيث النثر فيما المفردة ظلت في مدار مرجعيتها القديمة : رقاع, الرضا, سهد, ولادة, وغير ذلك ، بل ان في النص حنينا الى غنائية ما ظلت تحوم حول لغة النص، ثمة وصفية واضحة في متن النص، غير ان هديب يقدم ما يبتعد عن اثقال كهذه ليقول:
ولدتنا المقهى لتكون الخيبة أمّا
مواعيدنا التي
من نحاس يتأكسد
اما نصوص الشاعر غازي الذيبة  فهي لا تتأرجح في توصيفها الشكلي، بل تذهب الى النثر مباشرة وتتحاور معه في إعادة انتاج لنص يضج بالشعر، فالنص المعنون "فالصو"، يحكي كل هذا:
ليس من هدوء خلف النوافذ
خلف كل مماحكات الالم، امامنا تبدو اللذة
استعارة هالكة
وهي تتمدد على الاريكة
اللعنة كم ثرثرنا
ولم نتزوج غير هفواتنا.                                                      
وفي المجلة تكشف النصوص الفرنسية المترجمة، عن وعي مختلف عن الاخرى العربية التي جاورتها، وعي مختلف في التعامل مع اللغة، الذهن والمحسوسات، فهي تقصي غاياتها بعيدا عن الواقع وتصبح مجموعة إنتظامات في اللغة تلعب لعبة الإشارية لعالم يتداخل في غموض متتال حسب كتّاب النصوص، هكذا هي مثلا في قصة لودفيك بو، فيما راحت قصائد الكسي فيتا تنسج منظوراتها في مرجعية ايروتيكية متضخمة غالبا ما كانت تتوقف عند تعبيرات "ذهنية" وتعريفات عادية مثل: "الانسان الجديد هو كومة جثث من الاحاسيس "، فيما نجد بعض "الاشراقات" وقد انتظم في نسيج نصه الطويل: 
لن استغني ابدا عن الحب المجنون,
عن الحب الرقيق الذي يولد البحر ويعيد صنع العالم على هيئة نجمة
ها هي الصحراء تخصب ألمي
والوحشة تسقي شراييني 
فكرة اخرى عن التطهر عبر ما يوفره المكان هنا من بواعث للتأمل والمراجعة، الذهنية والايهامات اللغوية بدت شبه بعيدة عن قصص ستيفان فيري والتي توفرت على متن حكائي وطريقة رسم بسيطة ومؤثرة في رسم المشاهد، مثلما حدث في قصصه "فقط قليل من الخشب"، "عصافير ملء المنفضة" و "باريس – داكار" وهذه الاخيرة توفرت على امكانية ممتازة في اللعب على الاشارة التي يحملها العنوان ودلالته الاولية حين يؤدي الى ذلك السباق المجنون للسيارات والدراجات النارية بين باريس ( فرنسا) – داكار (السنغال)، فيما هو نصيا يؤكد الاختلاف الحياتي في مكانين، واختلاف المعنى ايضا.
و نص حمل توقيع ريم منصور، كان قطعة إنشاء ليس أكثر، كذلك نص لوران تولبيك أو قصته التي بدت وكأنها مجموعة علامات حاول صاحب النص تجميعها قسرا، عدا ذلك الاستهلال الموفق في الاسطر الثلاثة الاولى.                                  
ما الذي يجمع النصوص العربية بالفرنسية؟ أهو المكان؟ أهو اظهار فكرة الحوار والاتصال بين ثقافتين، لغتين، معطيين إنسانيين؟ أم هو مجرد فكرة شخصية لصاحبها احمد النسور الذي حرر نصوص المجلة وترجمها من والى العربية؟                        
مهما كانت الاسئلة عن بواعث اصدار مطبوع كهذا، لكنني اعتقد ان المطبوع وفق في الكشف عن نصوص مختلفة وحساسيات جديدة جاءت تلك بالعربية أم بالفرنسية، نصوص تثير اسئلة وتلتقط في المشهد ما تراكم عليه من غبار كثير.

* نشرت في صحيفة "المشرق" الاسبوعية الاردنية العدد الرابع 24 / 9 / 1995  
** شاعر ومترجم وكاتب أردني رحل قبل أيام في إيطاليا        


 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM