من قاعتين للفنون الراقية إلى رمزين للهمجية

تاريخ النشر       24/03/2018 06:00 AM



علي عبد الأمير عجام
تشير الكثير من التجارب الديمقراطية الحديثة إلى الأدوار الحيوية التي استأثرت بها الطبقة الوسطى في مراحل الانتقال، وتأمين مساراته. بحيث لا تخفى مكانتها ووزنها داخل المجتمعات على مستوى التحديث، ودعم الممارسات الديمقراطية، وترسيخ قدر من التوازن كصمام أمان بين الدولة والمجتمع(1).
وتبدو الثقافة على تنوع حقولها، مؤشراً لحيوية الطبقة الوسطى وأدوراها في الانفتاح والرقي في السلوك، لكن مؤشرات كثيرة يمكن رصدها اليوم في بغداد لملاحظة المسار الإنحطاطي للقيم المدنية والحضارية، وهو ما يعني تراجعاً كبيراً لتلك الطبقة الفاعلة حد الغياب.
إن المصير الذي انتهت إليه "قاعة الشعب" يكاد يكون الأكثر تكثيفاً لذلك المسار الذي تعنيه حياة مدينة تغادر التحضر منذ نحو أربعة عقود. إنه المكان الذي شهد أهم العروض الموسيقية والأوبرات وعروض الأزياء الراقية في العهد الملكي. كانت تسمى «قاعة الملك فيصل الثاني» حتى 12 آب (اغسطس) 1958، حين أعلن رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم تغيير أسماء المؤسسات والمرافق العامة من دلالات الملكية الى "الجمهورية" و"الثورية" وغير ذلك من  القاموس الشعبوي الحماسي السائد تلك الأيام.

في عصرها الذهبي
القيم المدنية التي كان العراق يمضي قدماً في ترسيخها، انعكست في حركة العروض التي كانت تشهدها القاعة الكائنة في قلب بغداد، لجهة الرصافة، أي في الباب المعظم. وتضمن عرض برامج "تلفزيون بغداد" في الثامن من أيار (مايو) 1957 في فقرة الختام نقل حفلة باليه من قاعة الملك فيصل الثاني. 
تواصل هذا النشاط حتى إطاحة النظام الملكي في 14 تموز (يوليو) 1958، فانتكست القاعة لاحقاً بعد الانقلاب الذي توج بالمجزرة التي راحت ضحيتها العائلة المالكة، لتصبح قاعة الليالي الأنيسة مكانا للخطب الحماسية التي كان يعلو فيها صوت الضباط الجمهوريين متوعدين خصومهم بالموت، بدلاً من اصوات النغم الرفيع والموسيقى الشجية.
ومنذ ذلك التحول الدراماتيكي، ظلت القاعة (لملاصقتها مصدر الحكم وموقعه الأبرز في العراق الجمهوري أي وزارة الدفاع) مؤشراً لأوضاع البلاد. فمنها خرج من أطاح الحكم الملكي، الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم الى مقر الاذاعة والتلفزيون في 9 شباط (فبراير) 1963 ليتم اعدامه على أيدي حلفائه في إطاحة الحكم الملكي. ومن ثم تحولت القاعة معتقلاً ومركزاً للتعذيب على أيدي الانقلابيين الجدد، لتعود لاحقاً الى بعض ملامحها الاصلية، ولتغسل الدم الحقيقي والمعنوي الذي لحق بها وتستعيد في ما تبقى من ستينات القرن الماضي وسبعيناته، بعضاً من ألقها القديم، فصارت موقعاً لاحداث سنوية تقيمها مؤسسات الفنون المسرحية والموسيقية ومعاهدها وأكاديمياتها، فضلاً عن كونها موقعاً لأحداث فنية عربية ودولية بارزة ليس أقلها "مهرجان بغداد الدولي للافلام الوثائقية".
وفي حين صارت الفنون العراقية خلال أكثر من عقدين (1980-2000) "تعبوبة" ومجنّدة لحروب نظام صدام التي لا تنتهي، كانت "قاعة الشعب" شاهدة مرة أخرى على هذا التحول من خلال احتضانها حفلات وعروضاً موسيقية وفنية راقصة تهتف تمجيداً للحرب وقائدها "المظفّر"، ليأتي عليها الغزو الاميركي في العام 2003 بأعجب مما عرفته وشهدته من قبل. فصارت ملجأً لعشرات العائلات العراقية التي كانت تعيش في أحياء الصفيح، لتجد في مؤسسات الدولة المنهارة ملاذاً آمناً لها. فاحتشد في المكان الذي كانت تعزف فيه الفرق الموسيقية العراقية والاجنبية أعذب ألحانها، العشرات من الفقراء والمحتاجين إلى مأوى ومكان يضمهم تحت سقف آمن. ونجحت المؤسسات الحكومية لاحقاً في اقناع هذه العائلات بمغادرة المكان عبر تقديم إغراءات مالية، لتبدأ بعد ذلك أعمال إعادة إعمارها وصيانتها، لتشهد خلال عامي 2009-2010 إحياء عددٍ من عروض الفرقة السيمفونية العراقية و"فرقة منير بشير" لآلة العود و "فرقة الرافدين الموسيقية" و "فرقة ناظم الغزالي".
لكن ومنذ "العسكرة" التامة للحياة في العاصمة العراقية (الحواجز الإسمنتية العازلة ومئات نقاط التفتيش)، أُطفئت الانوار في قاعة صارت اليوم "صالة للغبار". والطرق المؤدية إليها مغلقة، مرة بسبب احتمال استهداف وزارة الدفاع الملاصقة لها، ومرّة أخرى بسبب عمليات حفر نفق باب المعظّم المقابل لها وغلق الشارع الذي تطل عليه ويؤدي الى شارع "الرشيد"، الأشهر والأقدم في بغداد، وهي في حال يرثى له الآن.
أحد أبرز من شهد تحولات "قاعة الشعب"(2)، المؤلف وعازف العود ورئيس "فرقة منير بشير" الموسيقية سامي نسيم، والذي حمل لمحبي بغداد ومعالم الجمال، صورة التقطت أوائل الاسبوع الجاري للمكان الرحب الجميل وقد صار نهباً للظلام والغبار، لتصبح وثيقة تدحض ليس "رابع حملة إعمار كاذبة" للقاعة فحسب، بل وثيقة تكشف المسار المتقهقر للحياة المدنية في مكان كان الى خمسينات القرن الماضي يضّج بكثير من النمو الفكري والاجتماعي، ويَعد بالأكثر منه.

"الخلد": من حفلة فيروز إلى حفلة دموية رهيبة
وليس حال "قاعة الشعب" والخراب الذي انتهت إليه، إلا نسخة "مخففة" من المصير الذي عرفته "قاعة الخلد" في كرادة مريم ببغداد، قبل أن تغلق وتصبح ضمن المنطقة الرئاسية "المحرمة" بعد تولي صدام حسين السلطة، ثم ضمن "المنطقة الخضراء" حاليا.


من حفل للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية بقاعة الخلد 1972

والمكان الذي شهدت فيه شخصياً ثلاث حفلات طلابية، هي واحدة خلال دراستي الإعدادية وإثنتان أثناء الدراسة الجامعية، والعديد من الأمسيات الموسيقية الراقية ومنها حفلة للمطربة الكبيرة السيدة فيروز 1976، فضلا عن تلك التي كانت تحييها الفرقة السيمفونية العراقية، صار مرتبطأً بواحدة من مراحل الهمجية السياسية والاجتماعية في تاريخ البلاد المعاصر، حين إرتقى منها صدام حسين إلى السلطة عبر سلّم دموي رهيب، حين نفذّ فيها مسرحية أجازت لهم قتل نصف قيادات الحزب والحكومة، وتحديداً من رفضوا خطوة إقالة البكر وانفراد الديكتاتور بالسلطة، ليأخذ البلاد إلى طريق دمارها التام.

مسرح بغداد العريق مكبّاً للنفايات
لم يكن يتخيل حتى اكثر المتشائمين من راهن العراق اليوم، أن يصبح "مسرح بغداد" ورشة الأمل الفنية التي احتضنت "فرقة المسرح الفني الحديث" في عروض لنحو عقدين شكلّت ملامح الحداثة في المسرح العراقي المعاصر، مكبّاً للنفايات، وهو الذي شهد مسرحيات شكلت علامات بارزة في الثقافة العراقية مثل: "النخلة والجيران" و" بغداد الأزل بين الجد والهزل" و" رحلة في الصحون الطائرة" و"جيفارا عاد فافتحوا الأبواب" وغيرها من عشرات العروض التي صارت منهلاً ثقافيا لأجيال من العراقيين، طبعه فنانون كبار مثل يوسف العاني، خليل شوقي، قاسم محمد، سامي عبد الحميد، جواد الأسدي، روميو يوسف، مقداد عبد الرضا، آزادوهي صاموئيل، فاضل خليل وكثيرون غيرهم، بلمسات من الرقي الثقافي والانساني.
وعلى موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" نشر المكتبي أكرم القيسي أحدث صورة للمسرح العريق وقال "هل حقاً هذا هو مسرح بغداد الذى احتضن أعرق فرقة مسرحية فى العراق، هي فرقة المسرح الفنى الحديث بعمالقتها الكبار؟ هل حقاً هنا وقف الكبير خليل شوقى وهو يمثل "الصديقان" مع الرائد المسرحى يوسف العاني، وهنا قدمت "رحلة فى الصحون الطائرة" لقاسم محمد وسامى عبد الحميد"، متسائلا  "لماذا هذا الاهمال لمسارحنا ونحن على أبواب اعتبار بغداد عاصمة للثقافة العربية"؟
ويعلق الكاتب والروائي (الراحل لاحقاً) حسين الموزاني "ليس فقط الفقدان والخراب وحدهما، بل عدم الإحساس بهما. فهناك ذاكرة مشتركة تمحى بكلّ قسوة وخبث وتجاهل أيضاً. وكم أتذكر هذا المسرح الجميل بالذات".
ويقول الممثل ماجد درندش "حينما تتحول المسارح الى مقرٍ للقمامة، إقرأ على الشعب السلام". 
ويسرد ممثلون و طلبة سابقون موقع المكان في ذاكرتهم "أتذكر حين كنّا طلّاباً بمعهد الفنون الجميلة، نأتي الى هذا المكان "مسرح فرقة الفن الحديث" ندخل مجاناً كوننا طلبة، شاهدنا مسرحية "نفوس " للفنان يوسف العاني وسامي عبد الحميد، و"مسرحية بغداد الأزل بين الجد والهزل"، بطولة عمالقة المسرح العراقي : خليل شوقي ويوسف العاني، ومسرحيات لاحصر لها.
في هذه البناية التي أصبحت الآن مكبّاً للنفايات، وقفت على خشبة مسرحها الممثلة ناهدة الرماح وأصيبت بالعمى وهي تؤدي أحد أدوارها، هذا الصرح الذي كان عمل على تثقيف ذائقتنا الفنية ".
الفنان حكمت ناهي يقول يعيد القول المأثور "أعطني خبزاً ومسرحاً أعطيك شعبا مثقفا"،  مستدركا "سيمر هؤلاء الطارئون كما مر التتر وهولاكو ... بغداد لن تكون إلّا مصدر اشعاع لكل العلوم والثقافات وانها عصية على الطغاة الرعاع ... ولن تكون قندهار أبداً... لآننا شعب حي لا يموت".

(1)صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأميركية.
(2)علي عبد الأمير، صحيفة "الحياة" 25 أيلول/أغسطس ٢٠١٣ 



 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM