عبد الرزاق العزاوي.. صورة الفنان في عذابه*

تاريخ النشر       29/03/2018 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام

لا يحضر المؤلف الموسيقي والمايسترو العراقي عبد الرزاق العزاوي، إلا وتحضر ملامح وجدانية شخصية على درجة عالية من التأثير، فثمة لطفه الروحي الغامر وحنو شخصيته، حتى مع مواقف في غاية الجدية والصرامة، وهو ما شهده يوم قاد أول حفل للفرقة السيمفونية الوطنية العراقية بعد سقوط النظام السابق 2003، والأسى الذي يحمله عميقا جراء ذلك الفقدان الذي كاد أن ينسف حياته، حين كان عليه ان يقود الأوركسترا فيما العويل يتصاعد من بيته وبيوت بغداديين كثر حين سقط صاروخ إيراني على مدرسة للأطفال في تشرين الأول/ أكتوبر 1987، فقتل كثيرين، منهم فلذتا كبد العزاوي ومهجته.
ترى كيف كان على الرجل أن يتماسك على هذا النحو، وأن يقوم بمهمة قيادة الأوركسترا في اليوم ذاته الذي أصابت الحرب بيته وقلبه وحياته؟


سببان وراء ذلك، أولهما روحي، مستمد من فكرة إن أعظم رد على الموت يأتي عبر الانتصار لقيم الحياة الرفيعة، والموسيقى في مقدمة تلك القيم، وثانيهما يتعلق بالانضباط والالتزام المهني العالي. أما الانضباط فهو على درجة عالية فيه كموسيقي وعسكري في آن: آمراً للموسيقى العسكرية لسنوات، بعد تخصص في بعثة إلى بريطانيا، والالتزام حيال الواجب (قيادة الأوركسترا في حفل معدّ مسبقاً مهما كانت الأوضاع الشخصية معنوياً ومادياً).
والعذاب النفسي والفكري الآخر لعبد الرزاق العزاوي، تمثّل في لحظة اختيار موقف بالغ الدلالة، أن يقود الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية في أول حفل بعد الغزو الأميركي للبلاد 2003 ؟ وثمة من يسأل: ما الضير في ذلك؟ وحتى لو كان الحفل بحضور الحاكم المدني بول بريمر وبحماية القوات الأميركية؟ أليس هو نوع آخر من الالتزام حيال فرقة ارتبط بها العزاوي وبمصيرها حتى في أحلك الفترات ومنها فترة الحصار القاسية في كل ما فيها؟ وأليس هو مبعث فخر أن يظهر العزاوي وموسيقيو بلاده الممثلون في الفرقة السيمفونية الرفيعة التاريخ والانجاز أمام الأميركيين بصورة حضارية تمثلها الموسيقى، كي تؤكد لهم بطلان صورتهم النمطية عن العراق بوصفه نظاماً ديكتاتورياً ومجتمعاً عنيفاً؟
"قدمنا حفلة حضرها الحاكم المدني بول بريمر، وفيها مقطوعات عالمية. ابتدأ الحفل بعزف النشيد الوطني "موطني" الذي أبكى العراقيين الذين كانوا في المهجر، وسألني بريمر عن سبب بكائهم فقلت له بأنهم عاشوا في المهجر سنين طوال والغربة كانت صعبة بالنسبة لهم وبعدهم عن العراق، ولحن النشيد الوطني ذكّرهم بالسنوات التي عاشوها في بغداد".
ولكن "موطني" ليس "نشيداً وطنياً عراقيا" بل هو مجرد نشيد مدرسي عرفه التلاميذ والطلاب العراقيون قبل مجيء البعث إلى السلطة في 1968، مع إنه ليس عراقياً، فالشعر للفلسطيني إبراهيم طوقان، واللحن للأخوين فليلفل من لبنان، ولكنها "حيلة المضطر" إذ إن من إرث الديكتاتورية أن لا نشيد وطنيا عراقيا بل عدد من الأغنيات التي تمجد الحروب والطغيان.
عن ملامح التعب والعذاب في صورة العزاوي تلك اللحظة كتب المصري الشهير أنيس منصور(1) "لقد هجرالفنانون بغداد ولجأوا إلى عواصم أخرى حيث الفن والمال والأمان والسلام‏.‏ وبقي عبدالرزاق العزاوي وحده‏.‏ وقرر أن يهتف بحياة الفن في وجه الموت، والجمال ويواجه الدمار‏..‏ ويلملم المستمعين ليجعلهم عازفين‏..‏ ليكونوا كورس أقوى من النسيان‏.‏ وأنت لا تعرف المايسترو عبدالرزاق العزاوي ولا أنا‏..‏ ولكننا معا أمام‏ (‏ فنان ظاهرة‏)..‏ وقف فوق أطلال بغداد ليسمو بها فوق الألم‏..‏ والمثل يقول إن بداية الربيع زهرة واحدة تتفتح‏..‏ وبداية الجمال آلة واحدة تعزف".
وبدا كلام منصور حين نشر في تلك الأيام الصعبة مقبولاً بل مرحبا به، لجهة احتفائه بالعزاوي فناناً عراقياً رصيناً وبلحظة تاريخية وإن بدت مشوشة كثيراً: "الوقوف على أطلال بغداد"، لكن الحقيقة التي ظلت غائبة هي عن الأدوار التي لعبها العزاوي مع الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية، وتحديدا من 1991-2003 حين ظلت "علامة جمالية تكافح زمن التردي"(2).
فالفرقة السيمفونية الوطنية العراقية، ظلت تؤشر لمنحى جدي آخر، نقل الثقافة العراقية الطالعة من الرتابة والتقليدية الصارمة، إلى آفاق تحديثية تواكب طبيعة التغييرات التي كانت قد دخلت في مفاصل عديدة من الحياة الاجتماعية والسياسية في البلاد.
وعلى الرغم من قلة عدد عازفيها من العراقيين والاستعانة بجهود الأجانب من الموسيقيين الهواة أو المحترفين، غير انها استطاعت تكوين مركز استقطاب لأجيال كثيرة من الموسيقيين كانوا يتخرجون من معهد الفنون الجميلة، كما استطاعت أن تبدأ في نشر الثقافة الموسيقية الرصينة والجادة وسط جمهور بدأ يتعرف شيئاً فشيئاً على نماذج تلك الثقافة الموسيقية والخروج من دائرة المؤثرات الشعبية الغنائية والموسيقية للتعرف على أساليب وأشكال موسيقية تتسع لتعبيرات انسانية عميقة.
كل هذه الخبرات والمعالم الفنية التي حملتها تجربة الفرقة السيمفونية، ما لبثت أن تضاءلت، وانعدمت أمامها فرص التطوير الحقيقي نتيجة عقم السياسات الثقافية والاعلامية الكارثية للنظام الحاكم الذي حاول جعل الفرقة بوقا من أبواق دعايته، ثم بدأت هذه الوقائع تغدو أكثر قسوةً وبشاعة، مع امتداد سنوات الحصار وتدمير معالم الحياة العراقية، فهاجر أغلب اعضاء الفرقة السيمفونية الوطنية بحثاً عن فرصة عمل تمنحهم الاحساس بجدوى حياتهم التي شكّل الفن الموسيقي دعامة أساسية فيها.
ومن بقي من أعضائها داخل العراق، راح يفتش عن فرصة عمل ساندة حتى لو كانت متعارضة مع موهبته الموسيقية، أو كان عليه الاستمرار مع الفرقة كنوع من الصمود أمام موجات التفاهة والإفناء المادي والمعنوي التي تعنيها المسافة المخيفة بين سندان النظام الحاكم ومطرقة العقوبات الدولية.
إن ملامح السوء الذي أصاب مسار هذه الفرقة الموسيقية الرائدة في انجازها وذات الخبرة الطويلة، لهو مشابه للسوء الذي أصاب عموم الحياة الثقافية العراقية، الأمر الذي يؤشر معنى آخر من معاني الانتكاسة التي اصابت انساننا العراقي ومعالمه الثقافية والروحية.

الحياة يجب أن تتقدم
هذا يتصل ببؤرة وفاء وألم ينطوي عليها عمل العزاوي وباقي أعضاء الفرقة السمفونية الوطنية العراقية خلال فترة الحصار، التي فقدت الكثير من أعضائها، لكنها تصرً على المضي قدماً في مشوارها بالرغم من التهديد بتجدد النزاع العسكري مع الولايات المتحدة(3).
ويقول عمر الشيخ، عازف التشيلو البالغ من العمر 39 سنة، إن العقوبات الاقتصادية "أثرت علينا بطرق مختلفة".ويضيف الشيخ الذي يعمل مهندساً في النهار: إن "هناك مشاكل تتعلق بتوفر الآلات وقطع الغيار. فمثلا انقطع أحد الأوتار في آلتي ولم أجد بديلاً".
لكن قائد الفرقة السمفونية، عبدالرزاق العزاوي، يخفف من وطأة هذه المتاعب "البسيطة، قائلا إن الحياة "يجب أن تتقدم".
ويجد العزاوي الذي درس في مدرسة الموسيقى العسكرية الملكية في بريطانيا في الموسيقى عزاء من التراجيديا الشخصية ومن الأزمة العراقية على حد سواء، فهو فقد طفليه في هجوم صاروخي إيراني، والمشكلة الكبرى بالنسبة للفرقة تتمثل في "فقدان عازفين جيدين غادروا إلى سورية والأردن أو بلدان أخرى من أجل حياة وفرص أفضل، مما يؤثر على توازن الفرقة ككل".
ولم يتبق في الفرقة سوى عازف واحد على الناي (الفلوت)، لكنها لا تزال تتدرب ثلاث مرات في الأسبوع وتؤدي حاليا لموزارت وهايدن وقطعا من تأليف العزاوي نفسه وذلك في وسط العاصمة بغداد.
ويؤدي العازفون الذين يرتدون ربطات عنق سوداء أنيقة في صالة نصف فارغة، بالرغم من أن البطاقة لا تكلف سوى ما يعادل نصف دولار.
ويقول العزاوي إن الفرقة لم تتوقف عن العزف سوى مرة واحدة لمدة شهرين وذلك خلال حرب الخليج الثانية عام 1991، ويتركز قلقه على احتمال وقوع حرب جديدة: إنها قاسية بالنسبة للجميع. لكن يجب علينا أن نواصل عملنا وتدريبنا وعزفنا. لا ينبغي أن نتوقف".

ابن مدينة المعرفة
ولد عبد الرزاق العزاوي في بيئة شعبية بمدينة المعرفة والآداب: الحلة 1947، وكان لأخيه الكبير الفنان المسرحي والسينمائي خليل العزاوي تأثيره الحاسم "أيقظ فيً داخلي حب الفن والموسيقى، إذ كان يصحبني إلى المسرح أثناء تأديته البروفات، ويسمح لي بمشاركته اهتماماته بما يقتني من الآلات والكتب الفنية، وفي مرحلة الدراسة المتوسطة ظهر لديّ اهتمام بالرسم والمسرح والغناء. عام 1959 دخلت معهد الفنون الجميلة وتخصصت بالموسيقى الغربية إذ درست آلة الكلارنيت، وفي الصف الثاني من الدراسة عملت عازفاً في الفرقة السمفونية، بعدها التحقت بدورة لضباط الموسيقى العسكرية لثلاث سنوات في انكلترا درست خلالها الهارموني والتوزيع والقيادة والتأليف الموسيقي والعزف على معظم الآلات الموسيقية وخاصة الهوائية منها، وحصلت على شهادة زمالة الكلية الموسيقية في لندن".
عاد العزاوي إلى العراق ليمنح رتبة ملازم ثان موسيقي واشتغل بالموسيقى العسكرية حتى تقاعد عام 1991 برتبة عميد وكان مديراً للموسيقى في الجيش العراقي. 

نتاج موسيقي وثقافي 
كتب العزاوي(4) العديد من المؤلفات الموسيقية المهمة في تاريخ كتابة عراقية للأعمال الكلاسيكية، منها: "افتتاحية طوق الحمام"، "افتتاحية طبول الحق"، "سيريناد للوتريات"، "حب لبابل"، "الراية"، ومقطوعة "ضجر". ولموسيقى الجيش التي يبدو التأليف لها مختلفاً، وضع "فالسات" منها "فالس أصوات في البرية" و"مارشات" منها "مارش الشجاعة"، فضلا عن مقطوعة حملت عنوان "إلى الأمم المتحدة"، تظهر مستويات الأذى والألم التي خلّفها الحصار على العراق.
وفي مجالات الموسيقى الأخرى كتب موسيقى أفلام عراقية منها "الملك غازي"، "إفرض نفسك سعيداً، "شمسنا لن تغيب"، "حفر الباطن" الذي لم يعرض، وموسيقى لمسلسل "حكاية المدن الثلاث" وبعض الألحان الغنائية.
كما كتب برامج موسيقية للإذاعة والتلفزيون، منها الحلقات الأولى لبرنامج "سهرة مع المقام العراقي" الذي كان يقدمه المرحوم هاشم الرجب ثم يحيى إدريس، وبرنامج عن الموسيقى العراقية وعلاقتها بالأنهار، يتناول الموسيقى والأغاني الشائعة لدى سكان القرى والمدن المحاذية للأنهار، وشملت مدن العراق من الموصل حتى البصرة.
هذا يتصل بجانب اجتماعي يتصل بمفهوم "الشعبي" عند العزاوي، فهو يرى: "إننا نملك تنوّعاً بيئياً وجغرافياً هائلين، ممكن الافادة منهما في التأليف الموسيقي. حتى الباعة الجوالون ممكن أن يفاد منهم ومن كل جملة وإن كانت قصيرة. في الجنوب لدينا مورث نغمي ممكن ان نغرف منه حتى مطلع الفجر. أعمالي كانت تنطلق بهاجس الموسيقى الشعبية"(5).
ومنذ سنوات خبرها كاتب السطور، كان للعزاوي خشية جدية من الحداثة في الموسيقى، لا سيما خشيته من الخطر المتمثل بالاعتماد على البرامج الالكترونية في الموسيقى كتابة وعزفاً وتدويناً وتوزيعاً: "هناك برامج ممكن أن توزع عشرات الألحان في ثوان معدودة (.....) فأصبح العمل لايحتاج موزّعاً دارساً، بفضل التكنولوجيا المتطورة، التي سوف توقف خيال الفنان وتنهي الابداع".
وفي أمسية لكاتب السطور في اتحاد أدباء بابل عن تجربة زياد رحباني مؤلفا موسيقيا في العام 1992، كان العزاوي واضحا في نقده لتجربة رحباني وتحديدا استخدمه الآلات الحديثة في عزف الموسيقى وتوزيعها: "أسماء لمن يعمل بهذه الطريقة أصبحوا مؤلفين، وهنالك من يطلق على نفسه ألقاب كثيرة كموزع وموسيقار، وهم في الحقيقة كذبة يعيشون بها ويوهمون الناس إنهم من كبار الموسيقيين .. إنهم يعتمدون على الكومبيوتر الذي يوزع لهم أعمالهم ويضعون أسماءهم عليها ويطلقون على أنفسهن لقب موزّع وموسيقار".

هوامش:
*تناص مع عنوان رواية جيمس جويس "صورة الفنان في شبابه".
(1)أنيس منصور، جريدة الأهرام القاهرية 21 أيار/مايو 2003.
(2) علي عبد الأمير، صحيفة "بغداد" المعارضة الصادرة في لندن 30 آب/أغسطس 1996.
(3)الفرقة السمفونية العراقية تواصل نشاطها، كارولين هاول، موقع "بي بي سي" العربي 5 تشرين الأول/نوفمبر 2002
(4)حسام الدين الأنصاري، تأريخ الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية في خمسين عاماً (1962-2012)، بغداد "شركة الديوان" للطبعة الفنية.
 (5) رياض المحمداوي (الموسيقي والكاتب)، فنان الشعب الموسيقار والمايسترو العراقي الاستاذ عبدالرزاق العزاوي.




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM