نقد أدبي  



البهرزي يطير بعيداً عن الحشود ويطلق النار عليها

تاريخ النشر       20/02/2019 06:00 AM


علي عبد الأمير

تهزّني نصوص شعرية بين حين وآخر، لأعاود الكتابة عنها ضمن باب بدأته منذ 2012 وحمل عنواناً ثابتاً هو "في الشعر العراقي الآن". وآخر ما ضربني بقوة في صميم قناعاتي وذائقتي كان نصاً للشاعر إبراهيم البهرزي بعنوان "أساطير يومية" ونشر في العدد المزدوج الممتاز (شباط 2019) من المجلة الأدبية "شرفات" التي تعنى بـ "حداثة الأدب والفن والمعرفة" ودلّني عليها أحد أمناء تحريرها، الشاعر الأستاذ رعد فاضل. 
وفي حين يؤدي الحديث عن القيم الجمالية التي يتضمنها النص الشعري الحديث، إلى تهشيم الصورة الشعرية والاطاحة بالكائن المنضبط المخلّص لصالح الانسان العادي المتبرم بل "الكافر" بكل مقدس قديم حتى لو كان ثورياً، فإننا نجد تمثيلاً عميقاً لهذا المعنى في نص البهرزي:

"الميِّتُ منذ ١٤ عاماً يمخرُ شوارعَ بغداد على درّاجةٍ ناريّةٍ، الشوارع كلّها مُشَطَّبة بدراجاتٍ ناريةٍ مخروطيَّةٍ كأنها شكلُ الرعونةِ في استعراضها الأخير، لا مشاةَ على الأرصفةِ ولا سيّارات، يبتدئُ السباق من شروق الشمس حتى غروبها، الاصطداماتُ مباحةٌ ويجوز المرور على أجساد الجرحى والموتى".
تبدأ الفقرة بـ "الميت" وتنتهي بـ "الموتى". الأول حي في حقيقته بل هو "يمخر شوارع بغداد على دراجة نارية" وهو هنا توكيد على صفتين تم ذكرهما أعلاه: "تهشيم الصورة الشعرية" لصالح المجانية اليومية "الشوارع كلّها مُشَطَّبة بدراجاتٍ ناريةٍ مخروطيَّةٍ كأنها شكلُ الرعونةِ في استعراضها الأخير" و "الإطاحة بالكائن المنضبط المخلّص لصالح الانسان الغاضب المتبرم" بل هو ممن يجوز لهم "المرور على أجساد الموتى".
انه بطل من هذا الزمان، فضٌّ غاضبٌ متوحش بلا رحمة مع إنه ميت، ومن مدينة تشبهه "لا مشاةَ على الأرصفةِ ولا سيّارات". 



نقد البيئة الشخصية والاجتماعية
وفي حين ترد قصيدة النثر على إنها التركيب العميق للشعر والامتداد الأفقي للنثر من أجل منظور أدبي ثالث له مواصفاته الخاصة وجمالياته الجديدة، جاء نص "أساطير يوميّة"، ليؤكد هذا الجوهر الفني، فثمة عذابات وصرخات وكآبات من كل نوع تكاد تصبح لهولها "أسطورية" مع إنها واقعية بل و"يومية"، ومن هنا دلالة التشظي في العنوان الذي سنجده ممتداً حتى آخر سطر في النص.
ما يحسب للشاعر إبراهيم البهرزي إنه غير معنيّ بموقعه في الشعرية العراقية ولا العربية، بل هو من قلة أدارت ظهرها لتلك القصة المبتذلة التي عاشت طويلاً في الثقافة العراقية حتى نخرتها: الأجيال الشعرية وخصائصها الفنية والكتابية، وهو ما وفّر له حرية نادرة عمّقتها نبرةٌ ناقدةٌ لبيئته الشخصية والفكرية: "أعْجَبَهُ أن يرقص بينما الحشودُ تزدحم انتظاراً لِهِبَةٍ ما، انْسَلّ من الدَور الذي انتظَمَ فيه وراحَ يرقصُ وحيداً، ارتَفَعَتْ قدماهُ عن الأرض ِ ورفرفتْ يداهُ، وطمحَ بالطيرانِ فأسعَفَهُ الهواء العالي، وتَعالى حتى صار يراهُمُ كخيطِ النملِ".
هنا لا يبدو الاختلاف - الاغتراب غريباً فقد "كان النزوع إلى الحرية من البوادر الأولى لظهور قصيدة النثر"، بقدر ما هو تمثيلاٌ لفكرة الشاعر البهرزي الشخصية، فهو ممن تصدق عليهم عبارة دعبل الخزاعي العظيمة "إني لأفتح عيني حين أفتحها/ على كثير ولكن لا أرى أحدا". وكي يتحول هذا الاختلاف- الانفصال عن الحشود إلى قيمة فنية وفاعلية مؤثرة لا بد من نشاط للخيال "ثُمَّ فَكَّر أنَّ لهُ دوراً بينَ الحشودِ وهِبَةً ينتظِرها مثلَهُم، فكّرَ حتى صارت الأفكار أثقل من قُدرتِهِ على الطيران، فَسَقطَ كالحَجرِ ثُمَّ داسَتْهُ الحشودُ التي انصرَفَتْ دون َ هبات ٍ بَعْدَ يأس ٍ وطول انتظار". وكم كنت أتمنى لو انتهى الشاعر في عبارته عند "دون هبات" وتجنب الشرح الزائد في "بعد ياس وطول انتظار" الجملة التي بدت ثانوية وزائدة.
واتصالا مع معنى الاغتراب الذي يورث الشقاء لكل صاحب عقل وضمير في بلد تنحدر فيه قيم العقل وتتبدد فيه حساسيات الضمير، نقرأ من البهرزي "كلّ هذا تمَّ باسمِ الشّعب، الشعب الذي تكبَّد ألف مليار دولار لإنتاج هذا الفيلم الذي يتيح لهُ الجلوس مُستمتعاً في عُتمةِ السّينما". 
كل هذا الكمد والعناء والغضب يحتاج أحيانا لغة شارحة وهوامش على أصل الحكاية، فيسرد لنا البهرزي أمثولة "رجلٌ اسمهُ باكونين، لهُ محل ٌّ صغيرٌ لصناعة الأسلحة في سوق بعقوبة القديم، كان يصنعُ أسلحةً تفوقُ الخيال، أراني مرَّةً بندقيّة ً على شكلِ لقلقٍ، قال إنها تطيرُ وتصوِّبُ رصاصتها بدقَّةٍ على أركانِ الدولةِ حصراً، إنّ حياتنا مُتشظّيةٌ يا رفيق، هكذا كان يهمس لي، ولو استطعنا صناعة بضعة آلاف لقلقٍ آليّ ونطلقها في هذه السماءِ الفاسدة فَهَل ستبقى للدولة سلطة غاشمة"؟
من هو باكونين هذا الذي يمتلك محل لصناعة الأسلحة في سوق بعقوبة القديم؟ قد يكون استعارة للثوري اللاسلطوي الروسي ميخائيل ألكسندروفيتش باكونين، دارس الفلسفة في موسكو قبل أن يغادرها في 1842 متجها إلى درسدن بألمانيا وفيما بعد باريس حتى نقل منها بسبب انتقاداته اللاذعة لهيمنة روسيا على بولندا، واعادته سجيناً إلى سان بطرسبرغ ثم نفيه إلى معسكر عمل في سيبيريا. 
إنه غاضب حالم آخر ولكن ليس من النوع الكهنوتي ولا المتماثل مع المفهوم الجمعي، انه سيكون، بحسب خلطة البهرزي من طينة الخارجين على مجتمع الفضائل الخادعة وسمائه الفاسدة "اقتَرَحتُ عليه تحويراً بسيطاً يجعلُ لقالقنا الآليّةَ تصيبُ بدقّة ٍ حشودَ الشعب بدلاً عن الدولة، باكونين يفكّرُ بالأمر ِ وأنا أنتظِر".
إذا كان الشعر لهباً والشاعر موقد نار، فلا تمثيل عميقاً لهذه العبارة على نحو مثلما كان عليه نص "اساطير يومية" للبهرزي.



 




 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM