حمى ليلة الجمعة في بغداد

تاريخ النشر       18/05/2019 06:00 AM


علي عبد الأمير عجام

في السنوات الاخيرة من سبعينيات القرن الماضي كانت"البحبوحة" الاقتصادية تتسع في بحيرات عسلها، والنفوس كانت تستكمل بناء فلل عزلتها كلما ازدادت نهما في مقاربتها الحياة، كأن السلطة انتهت من وضع معادلتها: دعهم لسعاداتهم ولتضيق المرافىء بالاعتدة. تلك كانت لحظة لحظة التشييع الرسمي لجنازة المعنى، ونزول الستارة على "مسرحية" الانفتاح اليساري التي أضفت طابعا دراميا على صفقة مستحيلة بين فكر استغرق في أحلامه كثيرا وعقل تدميري يجيد المراوغة والتلفيق والحذلقة وقبل ذلك يجيد بناء دهاليز الموت.

لم يعد النغم "مثاقفة"، ومع المسار"التراجيوميدي" ذهبت إلى اختيار بهجة ما في الموسيقى الغربية المعاصرة تعويضا عن خسارة روحية وفكرية، فجاءت اسطوانة Saturday Night Fever للفريق الغنائي Bee gees لتفتح في بغداد وعواصم كثيرة في العالم "العصر الذهبي" لإيقاع الديسكو وأغنياته.



كنت حينها في قلب بغداد الحيوي: الباب الشرقي هارباً من عيون الأمن والبعث عبر مكان لا يمكن ان يتوقعون وجودي فيه: تسجيلات صوت الفن. ونحن الآن في بغداد تحديدا في آواخر 1978، بل في ليلة العام الأخيرة، التي كانت ليلة فيلم "حمى ليل السبت"، حين حمل أحد الأصدقاء أسطوانة الفيلم ذائع الشهرة في معظم عواصم الغرب وتحديدا في نيويورك ولندن.

المشهد البغدادي الذي يكاد يلخص القصة: الباص على اليسار يقف أمام "الصالون الأخضر"

كانت الأغنيات الناجحة في الفيلم التي صاغها فريق "بيجيز" فضلا عن موسيقاه، قد وصلت الى بغداد قبل ذلك مسجلة عبر أشرطة الكاسيت، ولكن متعة ان تكون على اسطوانة بنقاء صوت خرافي وبغلاف هو صورة من الفيلم يجسدها ممثله غير المعروف (حينها) جون ترافولتا، فهي متعة حقيقية.

في الأسطوانة ما هو جميل من النغم غير الذي غنّاه باري غيب وأخوته ضمن فريق "بيجيز"، ومنها أغنية "مور ذان أوومان" التي جاءت بصيغتين، الأولى بصوت باري وأخوته، والثانية وهي الأجمل عندي بصوت فريق " تافاريس"، كذلك الأغنية الطويلة "ديسكو انفيرنو" ولكننا كمبتهجين في ليلة قد تكون من بين آخر ليالي العراق البهيجة حقا، استمتعنا حد الجذل بأغنية "If I Can't Have You" او "اذا لم أحظ بك"، فهي تحقق لنا في تلك الليلة العاصفة بالبهجة والصخب الروحي، عصفورين بحجر، فهي أغنية من إيقاع الديسكو الذي هز العالم مثلما هي جاءت بصوت غاية في العذوبة والرقة المجروحة حسب اداء المغنية إيفوني إيلمان.


خرجنا من الحفل الجميل في وجه الصبح، وظلت أنغام أغنيتين تدور في أسماعنا، الأولى هي " كم هو عميق حبك" أو " How Deep Is Your Love " لفريق البيجيز والثانية كانت للنجمة التي داعبت أحلامنا "الهيبيزية" ونحن في اعدادية المأمون حين عرفناها متمردة صغيرة وهي تؤدي دورها في المسرحية الغنائية المثيرة للجدل "المسيح بوصفه سوبر ستار".

وفي الوقت الذي كان صوتها يوصلنا حد الجذل في أغنيتها الجميلة حقا، كانت أيفوني ترسخ اسمها في عالم موسيقى الديسكو والبوب عموما، إلا انها لاحقا صدمت الكثير من محبي طريقتها الروحية في الغناء، حين قررت التوقف عن الغناء والإنصراف الى طفليها وعائلتها، دون نسيان أغنيتها الجميلة الأخرى " أحبني رجاء" أو " love me please".

ما بين العمل في تسجيلات "صوت الفن" و"مكتبة النهضة" لاحقا في المساء، كان ثمة وقت من أوقات الضياع الجميل ميزت قسما من حياتي في العام 1978 وقسما أكبر من العام 1979، وقت العمل لنصف نهار في مطعم "ابن ضعيفة" في الشارع ذاته الذي يقع فيه "مطعم نزار" والواصل ما بين "شارع السعدون" و"شارع ابو نؤاس"،وعملت فيه "كاشيرا" ومنه تحصلت على مال كنت أصرف منه على عائلة شقيقتي الارملة وابذخ منه على ملذات كانت تعويضا للخراب الذي وصلت اليه قناعاتي الفكرية حينها.

اعتنيت حينها بملابسي وأشتريت الأغلى من المحل الأرقى في المنصور "بابيت" قمصانا وسراويل جينز وعطورا كان من بينها الاجدد: "اراميس"، وتعرفت على صحبة لا ألذ ولا أروع من اناس عاديين، لا هموم جدية، مثلي، تشغلهم عن حياة بسيطة وعادية وامنة، تعرفت على نساء حقيقيات من بينهن من اخذتني الى المدينة السياحية في الحبانية التي كانت افتتحت حديثا مكانا يبهج الروح ويسر الناظر، عرفت معها لذة الجسد بعد ان كانت المرأة عندي صديقة للروح وحسب، وهي عرّفتني الى الادارة الفرنسية للمدينة، (كانت مشرفة على ادارة البيوت السياحية داخل المدينة)، بوصفي "أكثر العراقيين معرفة بالموسيقى الغربية المعاصرة"، وهم ( الفرنسيون) وجدوا في ذلك ضالتهم فاشتغلت "دي جي" طوال ليال في ديسكو فندق المدينة ونجحت في عملي كونني كنت على صلة بما يحب العراقيون سماعه من الأغنيات الغربية الناجحة، وكنت من خلال مراقبتي للجمهور وازيائه وملامحه أعرف مزاجه وذوقه فأقدم له ما يرضيه وما يبهجه من أغنيات وموسيقى.

كانت تلك فترة امتدت من نيسان 1979 حتى شهر أيلول موعد التحاقي بالخدمة العسكرية في "مدرسة الطبابة العسكرية" ببغداد، و صدر بعد شهر أمر نقلي الى واحدة من الوحدات في أربيل.

مال ولذة وسهرات وموسيقى وبهجة كنت أغرف منها حد الثمالة، وتمتد لصداقات كان ابرزها مع صباح الحلاّق، أحد نجوم الحلاقة الرجالية الأشهر في بغداد، حلاق "الصالون الاخضر" في الباب الشرقي وتحديدا في الجزء الأخير من شارع الرشيد حين يتصل بساحة التحرير، وهو بالأصل كان صالوناً صغيراً فوق الصالون الأصلي، جذبني إليه اسمه منذ ان كنت في السنة الثالثة من دراستي الجامعية، وزاد من تواصلي معه ان صاحبه وحلاقه الوحيد (باسم) كان مثقفا وعلى معرفة بالفكر الانساني فهو طالب سنة اخيرة في كلية القانون، وبسبب نجاحه المهني اشترى باسم الصالون الاصلي واصبح اسم " الاخضر" شيئاً دالاً على مهارة وحرفة عالية في فنون قصات الشعر وتوسع في عمله فاستعان بحلاقين شبان من بينهم صباح الذي أصبح واحداً من اعذب اصدقائي.

وكان صباح هو الذي "اصطادني" حين دخلت الى الصالون اسال عن باسم كي يقص لي شعر رأسي، فأخبرني بانه سيتولى الأمر وساخرج من بين يديه بنتيجة تسرني، وهو ما كان، ولتتوطدد صداقتنا خلال فترة عملي في دائرة لا تبعد سوى أمتار عن موقع الصالون ومحيطها بالكادر يتجاوز محيط "ساحة التحرير".

ما شدّني الى صباح لا مهاراته في الحلاقة وذوق تنم عنه ملابسه وتسريحة شعر ووسامته فحسب، بل في الطريقة التي كان يعلق فيها الزبائن حين كانت صديقاته يأتين اليه وينتظرن قريبا من باب الصالون، فمرة يحوّل الزبون اذا كان جديدا الى حلاق اخر لم يكن قد انشغل بعد، أو أن يتعذر بطلب عاجل من عائلته ليترك الرجل منتظرا نصف ساعة اواكثر احيانا حتى يعود اليه منتشيا بعد "نشوة عابرة" لا احد يعرف كيف كان يصل اليها وسط كل هذه الفوضى والانشدادات والأكاذيب الصغيرة.

في فترة استراحة تمتد ما بين الثالثة والرابعة عصرا كنا نلتقي في "مطعم نواقيس" حيث ظهريات "الكص" و"الكريم جاب" او "الكباب"، ثم نفترق إلى أعمالنا حتى أصل الى الصالون في التاسعة مع استعداد الجميع للانتهاء من العمل، ونبدأ لاحقاً رحلة ليلية جديدة كانت تبدأ عادة مع "فيتامين" المطعم الصغير والانيق في شارع السعدون، ولكنه المقتصر على رواد معدودين يعرفون المكان والمشتغلين فيه والذين بدورهم يعرفون الرواد بالاسم ويقدمون اليهم لذائذ الشراب والطعام مع ابتسامات الرضا.

ومن مباهج "فيتامين" كان ليل بغداد يرّق ويتسّع لحشد من السهرانين الباحثين عن لذتهم كل على طريقته، ومن المطعم الصغير تبدأ سهرات لا أحلى ولا أروع ، ودائما كان صباح يفضلها في " الطاحونة الحمراء" وفيه تغيرت معرفتي بالصورة التقليدية التي كنت أرسمها وأحفظها عن الملهى الليلي فاكتشفت ان المكان الذي أحيى فيه نجم الاغنية الغربية في السبعينات ديمس روسسز عدة حفلات، هو مكان ما يزال منفتحا على فنون الاستعراض الغنائية والراقصة، فثمة فرق من فرنسا واليونان والارجنتين كانت تقدم أشكالا استعراضية راقية تجمع الموسيقى بالرقض الحديث حد انني فوجئت بامكان محجوزة لعوائل بغدادية راقية كانت تحضر لمشاعدة تلك العروض وفنونها رغم الطابع المثير للنساء اللائي كن يكشفن عن أجسادهن بكرم باذخ.

كنت أعود في الثانية فجراً إلى بيت شقيقتي في " البياع" أو أبيت ليلي مع صباح في بيت عائلته المطل على "ساحة ميسلون" ونقضي وقتا قبل النوم لنسمع أغنيات وموسيقى تبدأ من ديمس روسسز ولا تنتهي بناظم الغزالي، لأصحو على صباح ونهار ينتظرني فيه وقت اخر من الضياع الجميل بين العمل والنساء والقليل القليل من الدراسة، ولكن ثمة دائما ما كان يوخزني وأدير له ظهري: كتبي وأوراقي وقصائدي ودائما نظرة أمي العاتبة كأنها تقول: مالذي قد صنعت بنفسك؟ غير ان ما أمسك بي وخضّني بقوة هو ما حصل لي في "مطعم نواقيس" ذات عصر.

فبينما كنت أنتظر صباح وصديقه الحلاق ايضا (صلاح) كي نبدأ فترة الاستراحة بشيء من الشراب والطعام، كان يجلس في مائدة مقابلة لي رجل يقرأ في عدد من مجلة " الثقافة" التي كنت نشرت فيها مقالتين أو اكثرقبل نحو عام، وحين وضعها الرجل جانبا لم أقاوم رغبتي بان أطلعّ على ما فيها، فاستأذنته ورحت أقلب صفحاتها، واذا بمقالة لي منشورة في باب مراجعات الشعر! وجدت الحروف غريبة علي، وتعجبت مما تضمنته المقالة من أفكار: أحقا أنا الذي كتب هذا؟ أين أنا الآن من هذه الإضاءات الروحية والفكرية التي تجسدها السطور وأين ..وأين ...؟ أغلقت المجلة ولكنني ودون أن أدري ظللت محتضنا إياها ساهما في تأمل عميق لم أخرج منه الا بعد ان طلب الرجل مجلته ومضى!





 

 

 

Copyright ©  Ali Abdul Ameer All Rights Reserved.

Powered and Designed by ENANA.COM